زهير كاظم عبود
تشكل حياة العباس بن علي بن أبي طالب صورة متوهجة من صور التاريخ العربي، و بالرغم من سموها وشموخها وشجاعتها وثباتها على الوفاء ٬ الا انها لم تزاحم شخصيات أخرى في تبوء المكانة التي تليق بها في كتب السيرة والتاريخ، وبالرغم من كل الصفات النبيلة التي تلون تاريخها ومواقفها وسيرتها وتربيتها، الا ان شخصيتها الصلبة الشجاعة والفروسية التي تحلت بها ، والمحاربة والمصبوغة بالدم ٬ والتفاني في الإخلاص ،والثبات على العقيدة والمواقف المتفردة ضمن واقعة تأريخية تطغي على باقي الصور التي وصلت الينا ٬ وتكاد تطغي أيضا على مجمل تاريخها منذ الولادة وحتى الاستشهاد .
ولعلنا نتمكن من نقل صور واقعية من حياة ( العباس بن علي بن أبي طالب ) ونتعرض لمواقفه التي لم تغفلها الكتابات التاريخية ، الا أنها لم تأخذ الشكل أو المنزلة التي تليق بها أو تستحقها ، و لم يتم الالتفات اليها أحيانا على أساس انها شخصية محورية ، وفي هذا المجال سنعتمد القرائن والأدلة والسند في عرض الصورة ، ولما يشكله العباس من منزلة متميزة بين أولاد علي بن ابي طالب ٬ فهو يتربع في المرتبة الثالثة أو المركز الثالث في أدواره التي لعبها خلال حياة والده الامام علي بن ابي طالب ٬ و في علاقاته ومواقفه مع أخوته الحسن والحسين ، ومع أخواته وبشكل خاص مع عقيلة بني هاشم السيدة زينب بنت علي بن ابي طالب ، خلال الفترة الزمنية التي شكلت شخصيته وتأثير والده واخوته على بناء ونمو تلك الشخصية .
وحين تحدد الذاكرة تاريخ شخصية وتقرنها بحدث واحد فإنها ستكون بعيدة عن الأنصاف ولاتفي بحقها، لإنها تتجاوز أو تختصر أو تهمش دون سبب مقنع بقية الفترة والاحداث التي عاشتها، ولان التاريخ الإنساني تتربع في صفحاته المجيدة شخصيات تركت بصمتها على واقع الحياة خلال تفاعلها ودورها في الفترة التي عاشتها من خلال أحداثها التي وصلتنا، فتصبح مهمة الباحث أن يرصد تفاصيل حياة مثل هذه الشخصيات، دون أن يحدد او يقيد هذا التاريخ ضمن إطار واقعة معينة ودون تجاوزها.
وعند دراسة تفاصيل حياة شخصية لها تأثيرها وأهميتها التاريخية ، يتوجب علينا أن نتوغل في التفاصيل للتعرف على تلك الشخصية، بشكل يوسع دائرة معلوماتنا ويمنح الشخصية حقها ، ويوضح صورتها الناصعة أمامنا ، وهذا التوغل المنصف سيكون مدخلا لدراسة الحقائق التي تضع جانبا تقييد صورة تلك الشخصية ، لأننا سنبحث في فضاء واسع ٬ وصولا الى حقائق التاريخ المطلوبة، بعيدا عن التمسك بالصور الخيالية أو التي تضفي نوع من الخيال اليها ، والابتعاد عن التهويل أو الانزواء تحت مظلة أو جانب طائفي ٬أو انبهار عاطفي وشعبي لا أساس له من الواقع ، لهذا سنجد أنفسنا ملتزمين بمتابعة نمو ونشوء الشخصية ٬ وأهم المحطات التي مر ذكرها في حياته.
ذلك هو العباس بن علي بن ابي طالب بن عبد المطلب الذي تطغي صورته في معركة كربلاء على مجمل تاريخه وحياته الشخصية، ربما لأن دوره ومواقفه وصلابته ووفاءه للدفاع عن قضية أخيه الحسين وعن آل بيته في تلك المعركة ٬ له دلالة أكيده على تاريخه وسيرته، لكن الخروج الى الاطار الاوسع لتلك الشخصية يمنحنا عنوانا أقرب الى الحقيقة، وأكثر وفاءا لتاريخه.
ولان العباس رجل الظل الذي كان ملازما لوالده الامام علي بن أبي طالب و بقي يقف خلف أخوته الحسن والحسين ، ولسمو الخلق ورفعة التربية التي تعلمها من الامام علي ووالدته فاطمة بنت حزام ، ولكونهما اكبر منه عمرا وحكمة ومنزلة ، وظف كل ما يملك ويتمنى من أجل مساندتهما وحمايتهما والوقوف الى جانبهما في أحلك الظروف ٬ وفي هذه الصورة يتم تسليط الضوء على العباس بن علي تحديدا في واقعة كربلاء ، مع أن العباس له مواقف دلالية واعتبارية توازي موقفه وتضحيته في كربلاء دفاعا عن مبادئ الحسين ، وقناعته وايمانه يقينا بوقوفه الى جانب الحق والعدالة مهما بلغ حجم التضحيات ٬ بالإضافة الى سيرته الشخصية وما تركه والده علي بن أبي طالب واخويه الحسن والحسين في شخصيته من تأثير وانعكاس ، وتأثير الاحداث التي مرت عليه وعلى أهله خلال فترة شبابه وفتوته ٬ ومن ثم ما انتهى أخيرا شهيدا في أحداث واقعة كربلاء وموقفه في تلك الملحمة الإنسانية التي كتب عنها الكثير .
واللافت للنظر أن سيرة العباس بن علي قبل مرافقة الحسين ومشاركته في معركة كربلاء، تكاد ان تكون غير متوفرة بشكل وافي، ومع الأسف فان اغلب الكتابات تركزت على واقعة كربلاء، وبعض من هذه الكتابات اعتمد الرواية الشعبية والبناء العاطفي في سرد بعض من سيرة العباس.
وبهذا الموجز لعلنا نعطي لتلك الشخصية حقها ومتابعة سيرتها التي لا يختلف عليها كل من تزامن معها ٬ أو رافقها أو سمع عنها أو قرأ عنها مهما كانت ديانته أو مذهبه.
بالرغم من بقاء العباس خلف والده وأخويه في جميع المواقف ، الا أنه تمكن من أن يأخذ الحيز الذي يستحقه ضمن مسارات الاحداث التاريخية ، كما تميز بالأيمان الكلي دينيا وعقائديا ٬ بالإضافة الى شجاعته وفروسيته التي أظهرها منذ بواكير شبابه ، وخلال موقفه الذي لا يختلف عن موقف الحسين في معارضة الحكم الأموي ، وفي موقفه الممتنع من مبايعة يزيد بن معاوية ، والتمسك بثبات موقفه الداعم لموقف الحسين في ثورته ، ليكون حاملا لراية من رايات الجيش الفدائي الذي وقف مع الحسين حتى اليوم الأخير للمعركة ، وقدم حياته وهي اغلى ما يملك الانسان فداء لهذا الثبات على الموقف .
والحياة لا ترتقي أحيانا الا بموقف نبيل، والتمسك بقيم نبيلة يدفع الانسان فيها ثمن تلك المواقف والقيم والمبادئ غاليا، ويبقى الموقف والقيمة راسخة في الذاكرة التاريخية وتتناقلها الأجيال، ويسجل غياب الانسان جسدا أشراقة لحياة خالدة، ومثل هذه الحياة سجلها وترجمها لنا بصدق وبأيمان العباس بن علي بن أبي طالب.
واعتمادا على تفهم القارئ سأحاول ألا أضع عبارات (عليه السلام أو رضي الله عنه) بعد أي اسم من أسماء الصحابة والاولياء والائمة ٬ باعتبار أن تلك العبارات تحصيل عام ولاتقلل من قداسة الاولياء والصحابة ولا من مكانتهم مطلقا.
البحث بشكل موجز ومعاصر يعتمد الحيادية في المنهج، فأن كنت موفقا في بسط الصورة بشكلها المجرد فمن الله التوفيق، وإن أخطأت فمن نفسي، ولعلي قدمت ما يدعم الحقائق التاريخية ويحقق الفائدة.