الدولة الكوردية السيبرانية

 

 

 

 

هاوژین عمر

عندما ندیر الكرة الأرضية بإمكاننا أن نشير بسهولة إلى جغرافيا الدول، هنا العراق، هنا ألمانيا، هنا نيجيريا، هنا البرازيل، هنا أستراليا، فالدولة التقليدية جيوبوليتيكياً عبارة عن حضور مكاني – حسي داخل حدود واضحة ومكان على خارطة العالم، لا تستقر الحدود على شكل واحد، عوامل متداخلة، سياسية، اقتصادية، عسكرية وطبيعية تؤثر في شكل الحدود، اتساعاً أو تضيقاً، وغالباً ما ترتبط الحروب والصراعات بنزاعات حول الحدود، وغالباً ما تنتج الحروب حدوداً جديدة وبلداناً جديدة، فتنعكس هذه التغيرات على الحدود مباشرة.

 

ما تقدم، هي الطريقة التقليدية التي ننظر بها إلى الجغرافية السياسية، لكن بغض النظر عن الكيفية التي يتم بها تغيير الحدود، تبقى للدولة بنظرنا ابعاد حسية. لقد تغير مفهوم السيادة عبر الزمن، وتغيرت الادعاءات بشأن الدول، وعلى حد تعبير بندكيت أندرسون: “الأمة جماعة سياسية متخيلة، تنظمها روابط – أفقية عميقة – وهي روابط الأخوة التي جعلت على مدى القرنين الماضين أن تجتمع ملايين من البشر لا على أن تقتل بل على أن تموت طوعاً من أجل تلك التخيلات التي تنظمها”. ووفق طرح أندرسون يمكن لجماعة متخيلة أن توجد ضمن حدود متخيلة، لكن هذا التجسيد يحتاج إلى وسائل يشد بعضها إلى البعض، وتخلق أو تعمق هويتها، ويصون لها الانسجام والأخوة.

 

ما هي الوسائل التي توفر لجماعة متخيلة أن توجد ضمن حدود متخيلة؟ الجواب حتماً هي التكنولوجيا الحديثة وتكنولوجيا المعلومات وأذرعها المؤثرة من وسائل الاتصال والإعلام الرقمي. فبإمكان وسائل الاتصال الإعلامي الرقمي أن تسهم في ذلك عبر خلق أرضية فكرية – قيمية مشتركة للجماعات وتمكينها من تجسيد ذاتها دون اعتبار للحدود التقليدية.

 

نحن الكورد نقول مراراً؛ نحن أكبر أمة على وجه البصيرة، يصل تعدادنا إلى حوالي 40 مليون نسمة دون أن تكون لنا دولة خاصة بنا، قُطعت أوصالنا، نعيش في حدود أربع دول قضمت أرضنا وانتشرت جاليتنا في بلدان تقع في مختلف قارات العالم، ونفرح أن نقدم خارطة كوردستان لكل من يبدي اهتماماً.

 

منذ أوائل القرن المنصرم، انصب اهتمام أغلبية النخبة المجتمعية الكوردية من الساسة والصحفيين والمربيين والأدباء والكتاب وعلماء الدين صوب تحقيق الحلم الكبير، تأسيس دولة كوردستان، بعد أن ملت هذه النخبة والأحزاب السياسية من انتزاع حقوقها الإنسانية والمدنية من الاحتلال الإنكليزي، ثم من المؤسسين الجدد لدول العراق وتركيا وسوريا وإيران، ونضال الأمة الكوردية طويل ودامي، قادتها زعامات مناضلة من أشهرها الشيخ أحمد بارزاني وقاضي محمد وملا مصطفي بارزاني، واستمر النضال من بعدهم إلى يومنا هذا وإن اختلفت السياسات والأدوات.

 

النضال التقليدي الكوردي وفر جزءاً من الحقوق القومية، واستطاع الحفاظ على الهوية القومية، واجهض مؤامرات دولية لمحو الكورد وتغييبهم عن المسرح السياسي للشرق الأوسط والعالم. هذا النجاح الجزئي وعدم الوصول إلى النجاح التام مرتبط بعوامل وفواعل محلية وإقليمية ودولية، تتشابك فيها مصالح سياسية، وجيوسياسية، واقتصادية، وجيوستراتيجية. لا أريد الخوض فيها بالتفصيل، لكن رغم كل هذا، المهم في الأمر بروز أداة جديدة ساهمت في العشرية الماضية في توحيد الحس القومي وتتمثل هذه الأداة في الجيل الجديد من الإعلام الكوردي لاسيما الاتصال الإعلامي الرقمي المعتمد على الانترنت، والتي أُركز عليها من بعد ستراتيجي متعالق بولادة متغير جديد دخل هذا المسار، ويسهم ما يشبه تحقيق الدولة الكوردية السيبرانية.

 

يمكن لتكنولوجيات الاتصال أن تطور أي حضور سياسي على مستويات كثيرة، حيث تكتسي الشبكة العنكبوتية أهمية بالغة في السياسة والعلاقات الدولية وتأسيس الدولة السيبرانية، والدولة السيبرانية الكوردية تعطي أملاً وزخماً للجانب الحسي – المجتمعي والدولة التقليدية التي حرم منها في البنى السياسية التقليدية، كما يمكن للأنترنت أن يدعم أواصر الهوية القومية الكوردية وأن يسهم في الوقت ذاته في إنشاء هوية غير مرتبطة بالأرض.

 

بدأت جهود نحو السيادة الافتراضية الكوردستانية في أواخر تسعينيات القرن الماضي عبر تأسيس محطات فضائية كوردية انطلقت منذ عام 1995، على رأسها فضائية KURDISTAN في مدينة أربيل ومحطة MED الفضائية في بروكسل وفضائية  KURDSATفي السليمانية، ومنحت هذه المحطات كوردستان هويتها الحقيقية التي ظلت إلى وقت طويل غير واضحة للرأي العام المحلي والدولي، وساهمت عبر برامجها المتنوّعة بإحياء التراث والثقافة والحس القومي وتقريبها من بعضها البعض بين أبناء الأمة الكوردية في شتات الأرض.

 

واستمرت هذه الجهود في بداية الألفية الثالثة للميلاد عبر شبكة الإنترنت، ووسائلها الاتصالية من المواقع الإلكترونية الإعلامية ومنصات التواصل الاجتماعي، فقد أتاح الإنترنت فرصة غير مسبوقة للكورد في مختلف أجزاء العالم ليتناقشوا فيما بينهم، ويقدموا للآخرين معلومات عن ثقافتهم وسياستهم وتراثهم الاإنساني، كما وفرت أيضاً مساحة لإقامة نقاشات مفتوحة تهم شجونهم. ومن جانب آخر ساهم الانترنت في إحياء مجموعات كوردية صغيرة وتنشيطها مثل الهورامي، والزازائي، والكلهوري، وأعاد الاعتبار لآدابهم الثري الموغل في القدم.

 

تمثل المواقع الإلكترونية والإعلامية الكوردية، والملايين من الحسابات الكوردية على منصات التواصل الاجتماعي، والالاف من القنوات الإذاعية والتلفزيونية المبثة عبر الإنترنت، مجتمعاً افتراضياً نامياً، وبالتوازي مع النضج السياسي والنمو الاقتصادي والإنمائي الذي يشهده إقليم كوردستان العراق، يحمل النشاط الكوردي عبر الإنترنت لاسيما محتوى الإعلام الرقمي حضوراً متزايداً ونوعاً من الشرعية للتطلعات الكوردية.

 

ثمة دولة هنا، رغم كونها غائبة عن الخرائط التقليدية وتنقصها الشرعية الرسمية المتمثلة في الاعتراف الدبلوماسي. هذه الدولة ينبغي أخذها على محمل الجد، كون القومية الكوردية أكثر وأعمق من تجسيد وتمظهر للأدوات الاتصالية. فالهدف السياسي موجود منذ وقت طويل، ويشهد انبعاثاً جديداً بفضل اتساع الحضور الكوردي على الإنترنت. ويتخذ نموذج الدولة الكوردية الافتراضية مناحي أعمق، أكثر تراتبياً من المشروع السياسي فحسب، ويتجه نحو التوحيد على المستوى الاجتماعي عبر التناصر للقضايا والأحداث التي تحدث للكورد في شتى العالم.

 

محاصرة تنظيم داعش الإرهابي لمدينة كوباني ومهاجمته لإقليم كوردستان، وإعتقال قادة الأحزاب السياسية الكوردية في تركيا، وإعدام النشطاء الكورد في إيران، وإجراء الاستفتاء الشعبي في إقليم كوردستان، وحتى غرق الطفل آلان الوكردي في البحر المتوسط، وموت مهسا كريمي.. إلخ تحرك هرمون القومية الكوردية، والاحساس المشترك، والمصير الواحد، والهدف الواحد، والأكثر من هذا بات إيذاء قطة كوردية مادة دسمة لتفاعل قاطني الدولة الكوردية الافتراضية ومناصرة بعضهم البعض.

 

المسار المستقبلي لسيادة كوردستان الافتراضية بغض النظر عن تحديات استخدام الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي وبعض انعكاساتها السلبية على البيئة التقليدية، مسار مرتبط بطبيعة شبكة الإنترنت وأهميتها، فطبيعتها التفاعلية تشجع الكورد لا على تلقي المعلومات فقط، بل على البقاء فيما بينهم متواصلين، وبهذا سيكتسي التعاطي الفردي مع الدولة الكوردية الافتراضية أهمية أكبر، إذ سينمي الشعور إلى المجتمع الكوردستاني الأوسع.

 

كوردستان، الدولة الافتراضية، تكتسي أهمية باعتبارها نموذجاً، كونها تجسد طريقة يمكن للآخرين ممن لا تشملهم الخرائط أن يقتدوها لبناء هويتهم بشكل أفضل.

 

أخيراً. محاذاة بتطور الحياة في إقليم كوردستان العراق، واستتباب الأمن، وتنمية البنية التحتية، ومخزون الطاقة، والتقدم الاقتصادي والزراعي والانتاجي، وجهود مكافحة الفساد، والمشاريع الإنمائية والستراتيجية من قبل حكومة إقليم كوردستان، ودون المضي بعيداً والانفصال رسمياً وإعلان دولة كوردستان، فإنَّ الدولة الكوردية الافتراضية هي واقعة، ولاعب أساسي في المنطقة.

رووداو

قد يعجبك ايضا