هل يُلدغ الكُرد من “الجحر” نفسه مرتين؟

عمّار الجندي

دونالد ترامب، العائد إلى المكتب البيضاوي حيث سيقرر مصائر البشر والحجر في العديد من دول العالم، فيه من الكاريزمية والجرأة والتناقض.. ما يكفي لإثارة قدر وافر من الفضول حول ولايته. وإذ تتأجج التكهنات في المنطقة العربية الملتهبة سلفاً، لابد أن تدفع أسماء كبار أعضاء الإدارة الجديدة التي أعلنها الرئيس المنتخب، التساؤلات إلى سقفها الأعلى في إقليم كردستان العراق، حيث أخذت صور “الماضي الأميركي” المحبطة تتصارع مع الآمال الغائمة بإنصاف لايزال مراوغاً.

تعرف ترامب الدول الكبيرة في أوروبا والشرق الأوسط وغيرهما، ويعرفها. صُرفت أطنان من الورق للحديث عن أجندته حيال الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي (ناتو). والخطوط العريضة لسياساته حول الحرب الأوكرانية والصين والهجرة والبيئة، كلها باتت واضحة إلى حد ما لفرط ما نوقشت من قبل الأصدقاء والأعداء.

أما الكيانات الصغيرة، سواء في فلسطين وغزة ولبنان أم في العراق، فعليها أن تستعد للإبحار في مياه مضطربة قد تكون مليئة بأسماك القرش. الترقب بانتظار ما سيأتي تزيد سخونته حينما يجري الترويج لتحولات خطيرة تتصل بتصريحات أطلقها قبل أن يبدأ رحلته صوب البيت الأبيض. وأخذ المشهد الذي سيرتسم عندما يصل إلى وجهته تلك في 20 كانون الثاني (يناير)، يتضح مع التعيينات التي يعلنها تباعاً منذ أيام.
في هذه الأثناء، تجرب كردستان نوعاً آخر من الحيرة. لها بين كبار أعضاء الإدارة الجديدة أنصارها الذين أعربوا في مناسبات عدة عن إعجابهم بمسرور بارزاني رئيس وزراء الإقليم. وبعض هؤلاء عُينوا فعلاً، كمارك روبيو وزير الخارجية، ومايكل والتز، مستشار الأمن القومي، الجديدين. وبعضهم الآخر ينتظر التعيين مثل ريك سكوت، المرشح لرئاسة مجلس الشيوخ، وتوم كوتون الذي طُرح اسمه سابقاً لاحتلال منصبي نائب الرئيس ثم وزير الدفاع ويبدو أنه سيكتفي برئاسة لجنة الاستخبارات النافذة التابعة لمجلس الشيوخ.

هؤلاء، ماعدا روبيو، رفعوا الصوت في رسالة جريئة للرئيس جو بايدن في آذار (مارس) الماضي، ووقعها ستة آخرون من أعضاء مجلسي الكونغرس والشيوخ، للاحتجاج على إهماله إقليم كردستان وحقوق أبنائه. وقالوا فيها إن “رئيس وزراء إقليم كردستان مسرور بارزاني شريك بالغ الأهمية ويستضيف معظم القوات الأميركية في المنطقة.” واتهموا “إدارة بايدن مهتمة باسترضاء إيران وليس بدعم حلفائنا.” وأهابوا ببايدن تمكين حكومة أربيل من بيع نفطها عبر تركيا ومساعدتها على استعادة مستحقاتها المالية من بغداد.
والآن، وقد تسلم عدد من هؤلاء البرلمانيين المفاصل الرئيسية في الإدارة الجديدة، هل صار الأكراد أكثر اطمئناناً إلى أن ولاية ترامب هذه ستكون أفضل من سابقاتها؟ ثمة ملاحظات مهمة على جميع هؤلاء “الأصدقاء”. وهم من صقور الجمهوريين الذين يؤمنون ايماناً عميقاً بشعار ترامب ” اجعلوا أميركا عظيمة من جديد”، ويقسمون أنهم سيضعون مصلحة بلادهم فوق كل المصالح والاعتبارات. وربما كانت صداقة الأميركيين هي أسوأ من معاداتهم، كما قال الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك، على ذمة الراوي!

لذا من يضمن أن الرئيس المنتخب سيعامل أكراد العراق هذه المرة على نحو أفضل من أشقائهم السوريين الذين تركهم يواجهون انتقام الأتراك، عندما تجاوز وزارة الدفاع وأمر بانسحاب جزئي فوضوي للقوات الأميركية من شمال سوريا في 2019؟
ويبدو أنه سيُخرج من تبقى من جنوده بلاده في سوريا فور مباشرته مهامه وتقديم فرصة نفيسة لأنقره للفتك بقسد. ويتردد أن طلائع الأميركيين قد بدأت تصل إلى قاعدة حرير في أربيل بإقليم كردستان، التي ستؤوي جميع العائدين من سوريا كما يعتقد في غضون شهرين.
ونقلهم ينسجم تماماً مع ما أوصى به سابقاً روبيو. ومعروف أن وزير الخارجية ووالتز مستشار الأمن القومي، لا يدعوان لمحاربة طهران، وإنما لإطلاق “حملة ضغوط دبلوماسية واقتصادية لمنع [إيران]” من استهداف الحلفاء ودعم جهات يعتبرانها إرهابية. وينصحان بإبقاء قوات أميركية هناك على سبيل الاحتياط، والتفرغ للمواجهة مع الصين، عدو أميركا الأخطر، كما يعتقدان.
من جانبه، أشار الرئيس المنتخب إلى نيته إنهاء حروب الشرق الأوسط وأزماته. لكنه أكد التزامه “السماح لإسرائيل بإنهاء المهمة” ما يعني إطلاق يد نتنياهو ليفعل ما يريد في ميدان الحرب، وخارجه بما في ذلك ربما ضمّ الضفة الغربية!
وثمة مؤشرات قوية تفيد بأن ترامب سيتعامل مع المنطقة على إيقاع يضبطه الاستيطان. فهو أكد قبل أشهر أن إسرائيل ينبغي أن تصبح أكبر حجماً، ثم عيّن أخيراً مايك هوكابي سفيراً لدى تل أبيب و ستيفن وييتكوف مبعوثاً خاصاً إلى الشرق الأوسط، وهما من عتاة المؤيدين للاستيطان. وهل يمكن إحلال السلام بين طرفين يمضي أحدهما في محاربة الآخر وقضم أراضيه؟

تناقض خطير.. بألف!

والأكراد الذين خذل الجمهوريون زعيمهم المؤسس الملا مصطفى بارزاني في عهد نيكسون وهنري كيسنجر في 1975، ثم تخلوا عنهم في أيام جورج بوش الأب الذي ترك الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين في بغداد طليقاً بعد تحرير الكويت. ولم يكن جورج بوش الابن أشد وفاءً لأصدقاء أميركا، لا هو ولا مرؤوسه بول بريمر رئيس سلطة الائتلاف في العراق، ولا “مجموعة دراسة العراق”، التي عينها وانتقدها رئيس وزراء الإقليم بمرارة في مقال له نشرته صحيفة واشنطن بوست في 2006.
ولماذا النبش في الماضي، طالما أن إدارة ترامب الأولى طالبت القادة الكورد “بلغة قوية على غير المعتاد”، حسب مجلة بوليتكو، بإلغاء استفتاء الاستقلال في 2017؟ والخيبات مع الديمقراطيين لم تبدأ مع بايدن. سبقه أوباما إلى تجاهل حقوق الكورد في ولايتيه، ناسياً أو متناسياً، ما بذلوه في سياق التصدي ببسالة لداعش.
أما هم فقال رئيس حكومتهم مسرور بارزاني إنهم “ممتنون للأبد للتضحيات التي قدمها الشعب الأميركي من أجل مستقبلنا”.

قد يعجبك ايضا