صباح زنكنة
ليست الازدحامات في بغداد مجرد أزمة عابرة بقدر ما إنها حالة وجودية، ومفهوم فلسفي يعكس عمق العلاقة بين المواطن والسيارة والطرق المليئة بالمطبات، اذ يبدو أن كل شبر من العاصمة مصمم بعناية ليضمن لك تجربة انتظار طويلة أطول من حياة نجم كروي لا يزال يلعب في الدوري المحلي!!.
مدينة بثقل هموم التاريخ عندما تنظر اليها، تجدها مدينة تختنق من الداخل و لا مجال للتمدد، ولا حتى استنشاق الهواء النقي ،فالمجمعات السكنية تنمو كالفطر، والمجمعات العشوائية بتنامٍ كأنها مشاريع فنية من الفوضى،و أينما وليت وجهك، فثمة ابراج جديدة ترتفع، بينما الطرقات تضيق أكثر فأكثر، وكأنها تطلب اللجوء الإنساني الى كوكب آخر!!.
دوائر الدولة هي الاخرى قابعة وسط الزحام وعوضًا عن نقلها إلى أطراف العاصمة لتخفيف الضغط عن المركز، يحصل العكس ، دوائرة مزدحمة لدرجة لو أردت استخراج وثيقة بسيطة او السير خلف انجاز معاملة عرجاء ، ستجد نفسك في رحلة حج داخل بغداد القديمة والجديدة بل تدفع بك امواج الازدحامات من جسر إلى آخر ومن مجسر الى ثانٍ بحثًا عن منفذ للهروب من كابوس الاختناقات المرورية ، فلا مترو، ولا قطار معلق بل آمال معلقة بارجوحة قديمة لها صرير سلسلة على وشك الانقطاع … !!
في اغلب بلدان العالم، عندما تزدحم المدن، يتوجه الناس الى المترو أو القطارات السريعة. أما في بغداد، فالبديل الوحيد هو استيراد المزيد من السيارات دون جدوى او دراسة! ،ويبدو أن شعار المرحلة هو “سيارة لكل مواطن، ومليون علبة دخان لكل سائق عالق في زحمة الطرق “!!.
هذه الايام رأيت وسمعت من الاخبار عن اكبر مهرجان للاختناق الوطني، تخيّل يومًا عاديًا في العاصمة، حيث الازدحامات بلغت ذروتها: جسر الجادرية ومحمد القاسم ومجسر الأمانة، الربيعي، قرطبة، ووو الخ كلهم في قائمة الشرف للزحام.
وإذا كنت تعتقد أنك ستجد بعض الراحة في شارع الرواد أو شارع السندباد، فحاول ان تفكر مرة أخرى وتنفس بهدوء لان شارع أبو نؤاس الذي كان متنفسًا شعريًا، بات اليوم حلبة سباق بطيء للسيارات ومقذوفات العوادم الكاربونية ما عادت ما تبقى من الاشجار هناك قادرة على تصفيتها !!.
استيراد السيارات هو الآخر جعل بغداد في مهرجان معرض دولي!، فبدلاً من التفكير في الحد من استيراد السيارات، يبدو أننا قررنا المنافسة على لقب “أكبر معرض سيارات عالقة في العالم”، فكلما زاد عدد السيارات، ازداد عدد الحفر والمطبات، وانتشار العوادم الكاربونية والتي تدمرت خلالها البيئة والانسان فالعلاقة الودية والندية بين الازدحامات والشوارع تكاد لا تنفصم مثل زواج كاثوليكي لا طلاق بعده حتى مع فوضوية الزوجة او تعنت الزوج !!.
في ظل كل هذه الفوضى، يبدو أن الحل الوحيد للبغدادي هو ان يتحول إلى كائن برمائي يتنقل عبر نهر دجلة وازقتها مغتزلا شوارعها المكتضة، أو باختراع نوع جديد من الطائرات الشخصية للتحليق فوق الغيوم الى محل عمله ، وحتى ذلك الحين لابد من التحمل وتخطي مزيدا من الازدحامات وساعات طويلة من الانتظار، فالازدحامات أصبحت الهوية الوطنية الجديدة للفرد العراقي ولابد من الاعتزاز بها !!.