متابعة ـ التآخي
تشكل عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض صدمة بالنسبة لأوروبا لأنها تضع الشراكة الأطلسية مجدداً على صفيح ساخن قد يضعف حلف الناتو ودعم أوكرانيا. عودة قد تعني أيضاً اندلاع توترات اقتصادية وجيوسياسية بالنسبة للقارة العجوز.
و تفاعلت عدد من العواصم الأوروبية بسرعة مع فوز دونالد ترامب بالانتخابات الرئاسية الأمريكية. وكانت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين، والمستشار الألماني أولاف شولتس والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون من أوائل المهنئين، حتى قبل الإعلان الرسمي عن فوز الملياردير الجمهوري. غير أن خلف الكواليس والعبارات البروتوكولية، ساد شعور بالصدمة والذهول في معظم العواصم. فقد سارع ماكرون للتواصل مع شولتس واتفقا على ضرورة العمل سوياً “من أجل أوروبا أكثر اتحاداً وقوة وذات سيادة”، في مؤشر على المخاوف من رئيس أمريكي لا يمكن التنبؤ بقراراته.
من وجهة نظر أوروبية محضة ، قد يبدو دونالد ترامب شخصية غير سوية تفتقر للاستقرار، وتحيط بها الفضائح، وتزدري قيم الديموقراطية، ويتلاعب بالحقائق على طريقة الاعلانات التجارية والشعارات التي تستهوي أنصاره من قبل “أمريكا أولا”، بإعطاء الأولوية للاقتصاد والأمن القومي.
مواصفات قد تبدو للأوروبيين سطحية ومتعجرفة وأحيانا متهورة. المفارقة هي أنها كذلك بالفعل، ولكنها تحوي أيضا جزء من وصفة نجاح ترامب. غير أن ما ينتظر الأوروبيين هذه المرة قد يكون مختلفا عما حدث في ولايته الأولى وفق صحيفة “فايننشال تايمز” البريطانية، التي كتبت معلقة “عندما تولى ترامب المنصب في ولايته الأولى، كان دون خطة واضحة ومحاطاً بمسؤولين من ذوي الخبرة كانوا يحدون من جماح تحركاته. أما هذه المرة، فهو يعرف تماماً ما الذي يريد فعله وهو مدعوم بمؤيدين مخلصين.
وتضيف “هذا يحمل مخاطر هائلة على الاقتصاد العالمي، وعلى حلفاء أمريكا، وعلى النظام الدولي الذي نشأ بعد عام 1945 وربما يفضي ذلك إلى (كارثة) فوز ترامب مؤشر أيضاً على شعور عام بعدم الرضا والإرهاق من الأجندة التقدمية لليسار، وإلى أن الناخبين بدأوا يتساءلون عن الهدف الحقيقي للديمقراطية عندما لا تكون قادرة على الوفاء بتطلعاتهم. ينبغي على المسؤولين السياسيين في أوروبا أن يأخذوا هذه المشاعر بعين الاعتبار عندما يواجهون اليمين الشعبوي”.
إذا نفذ ترامب وعوده الانتخابية المتشددة، فإن الضرر لن يقتصر على الاقتصاد الأوروبي فحسب، بل يشمل حلف شمال الأطلسي “الناتو”. في أسوأ الأحوال، قد يتعرض ازدهار أوروبا وأمنها لخطر حقيقي. رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين خاطبت ترامب بعد فوزه وكتبت “دعونا نعمل معاً من أجل شراكة عبر الأطلسي تستمر في خدمة مصالح مواطنينا، ملايين فرص العمل ومليارات من التجارة والاستثمارات على جانبي الأطلسي تعتمد على ديناميكية واستقرار علاقاتنا الاقتصادية”.
هذه العبارات تذكر بولاية ترامب الأولى التي كادت تدمر العلاقات الأطلسية. فوز ترامب يفتح أمام الحلفاء الغربيين مرحلة من عدم اليقين، فقد تعرض الناتو لضربة قوية في ظل رئاسة ترامب بين2017 و2021 حين انتقد الجمهوري الحلفاء بسبب ما قال إنه إنفاق غير كاف على الدفاع والامن. وذهب ترامب في شباط الماضي لدرجة القول إنه سيشجع روسيا “على فعل ما تريده بأي دولة في الناتو” لا تدفع المزيد على الدفاع المشترك.
موقع “تاغسشاو” التابع للقناة الألمانية الأولى كتب حتى قبل فوز ترامب معلقاً (30 تشرين الأول 2024): “لم يشعر ترامب أبداً بالأوروبيين كحلفاء له”، ووفق ما رواه جان-كلود يونكر في تشرين الأول 2020، “كان يعدهم شخصيات مظلمة لا ترغب في الخير لأمريكا”. وكان يونكر، بصفته رئيساً للمفوضية الأوروبية، من بين القلائل من السياسيين الأوروبيين الذين كانوا لا يزالون قادرين على التفاهم بشكل ما مع الرئيس صانع الصفقات. ونقل الموقع الألماني عن يونكر قوله “كان يُردد دائماً أنه (ترامب)، حتى في الاجتماعات، أن الاتحاد الأوروبي هو اختراع هدفه تقليص النفوذ الأمريكي في العالم”.
لن يتردد دونالد ترامب في ممارسة الضغوط على الحليفة ألمانيا في عدد من الملفات من بينها حثها على زيادة ميزانيتها الدفاعية وتحقيق توازن أكبر في التجارة بين البلدين. هذا النهج يمكن أن يؤدي إلى تصعيد التوترات مع برلين التي تفضل استراتيجية أكثر هدوءاً وتوازناً في سياستها الخارجية، بالحفاظ على التعاون مع واشنطن من دون الإضرار بالعلاقة مع شركائها الأوروبيين.
وفي مجال السياسة المناخية، يظل الموقف الأمريكي تحت قيادة ترامب أقل توافقاً مع السياسات البيئية التي تنتهجها ألمانيا والاتحاد الأوروبي، اذ انسحب ترامب سابقاً من اتفاقية باريس للمناخ، وهو ما يثير مجدداً تساؤلات حول مدى استعداد ألمانيا لمواصلة التعاون مع واشنطن في قضايا مثل الحد من التغيرات المناخية.
اقتصادياً، ستكون ألمانيا بحاجة إلى التكيف مع تحديات جديدة قد تطرأ نتيجة لسياسات ترامب الحمائية. في ظل سياسة “أمريكا أولا”، قد تسعى الإدارة الأمريكية إلى تقليص حجم التجارة مع دول الاتحاد الأوروبي، مما يفرض على ألمانيا إعادة التفكير في استراتيجياتها التجارية وتنويع علاقاتها الاقتصادية على الساحة العالمية.
وبهذا الصدد كتبت صحيفة “تاغس أنسايغر” السويسرية “على الرغم من أن برلين لا تعتقد أن ترامب سيغلق مظلة الحماية النووية عن ألمانيا وأوروبا في السنوات القادمة، إلا أن الجميع يتوقعون أن يطلب منها دفع المزيد من أجل أمنها أكثر من السابق.
بعد بدء الهجوم الروسي على أوكرانيا في عام 2022 فقط، نفذت برلين الوعد الذي قطعته في عام 2014 بإنفاق 2 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي على الدفاع. وتعتقد برلين الآن أن هذه النسبة لن تكفي مستقبلا، بل ستكون الحد الأدنى. يُعتقد أن نسبة 3 إلى 4 بالمئة ستكون ضرورية، كما كان عليه الحال في الحرب الباردة، خاصة إذا انسحبت الولايات المتحدة من دعم أوكرانيا، وتمنح التبعية الأمنية لألمانيا ترامب ورقة ضغط في مجالات أخرى مثل العلاقات التجارية؛ وفي السنوات الأخيرة، أصبحت الولايات المتحدة أهم شريك تجاري لألمانيا، حيث بلغ إجمالي حجم الصادرات والواردات في عام 2023 حوالي 350 مليار يورو. 10 بالمئة من جميع صادرات ألمانيا تذهب إلى الولايات المتحدة، بينما 6 بالمئة فقط إلى الصين. ومن المرجح أن تؤثر الرسوم الجمركية الأمريكية المرتفعة على ألمانيا بشكل خاص”.
كتبت صحيفة “دي تيليغراف” الهولندية “في اليوم الذي فاز فيه الأمريكيون بأغلبية لصالح شعار «أمريكا أولا»، تجد أكبر دولة في الاتحاد الأوروبي هي المانيا نفسها في أزمة سياسية كبيرة مع إقالة وزير المالية، يبدو أن أكبر دولة في منطقة اليورو تتجه نحو كابوس سياسي. الائتلاف الذي لا يحظى بشعبية سيواصل عمله الآن كحكومة أقلية، وفي الأشهر الثلاثة الأولى من عام 2025 سيتم تنظيم انتخابات جديدة. المشاكل ليست فقط في الداخل: مع فوز دونالد ترامب في أمريكا، أصبحت السياسة الخارجية الألمانية تحت الضغط أيضاً. برلين تتساءل بشكل يائس عن كيفية التعامل مع الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي والحرب في أوكرانيا”.
لعل أحد أكبر المخاوف التي تواجهها أوروبا بعد فوز ترامب هو احتمال إعادة تشكيل النظام العالمي الذي تعودت عليه الدول الأوروبية لعقود. ترامب خلال ولايته الأولى أظهر تفضيلا لسياسات “أمريكا أولا” وابتعد عن الالتزامات التقليدية للولايات المتحدة تجاه حلفائها في الناتو والاتحاد الأوروبي. وقد انعكس ذلك في تقليص الدعم الأمريكي لمؤسسات دولية مثل الأمم المتحدة ومنظمة التجارة العالمية، ما دفع الأوروبيين إلى تساؤل ما إذا كانت أمريكا ستظل شريكاً موثوقاً في السنوات القادمة. كما أن أوروبا قلقة كذلك بشأن تحول السياسة الخارجية الأمريكية نحو الانعزالية. خلال فترة ترامب الرئاسية الأولى، تراجع دور الولايات المتحدة في العديد من الملفات الدولية.
وعلى المستوى الداخلي، يخشى الأوروبيون من دفع فوز ترامب إلى إعطاء زخم للتيارات الشعبوية ما يعزز من ثقافة الاستقطاب ويشجع على الخطاب السياسي المثير للانقسام. هذا يمكن أن يؤدي إلى تعزيز القوى الشعبوية في أوروبا، حيث يسعى بعض الزعماء في القارة إلى تقليد الأسلوب الخطابي لترامب لتحقيق مكاسب سياسية داخلية. مثل هذا الاتجاه قد يعمق التوترات الاجتماعية والاقتصادية في البلدان الأوروبية، وخاصة في وقت يشهد فيه العالم تزايداً في القضايا المثيرة للانقسام مثل الهجرة والأمن الداخلي.
وبهذا الصدد كتبت صحيفة “دي فولسكرانت” الهولندية “اختار الشعب الأمريكي حكومة سلطوية ذات طابع عنصري وقومي مسيحي، بأجندة رأسمالية متطرفة من تخفيضات ضريبية وتخفيف للضوابط، مدعومة من أغنياء أوليغارشيين في البلاد يقودها رئيس يريد القضاء على «العدو الداخلي». ترامب وحملته الانتخابية يمكنهم أن يفتخروا بذلك. رجل في الثامنة والسبعين من عمره، غني، لديه سوابق جنائية، واتهامات بالاغتصاب وعدد من القضايا القضائية المعلقة، تمكن من تحفيز الطبقات الدنيا بوساطة أجندة موجهة ضد النخب. هذه هي قمة الشعبوية. خاصةً الشباب الذين صوتوا لأول مرة، يبدو أنهم مغرمون بعالم ترامب وإيلون ماسك وجو روغان الذكوري”.