حكيم نديم الداوودي
وجوهٌ رغم حُجب الغياب (سكنوا روحي)
كركوك النار والأسرار
كركوك شجن النار والأسرار.. أرى في سطحك الفسيح قمراً أرافقه، يبزغ حتى ساعة الأفول. تحاورسّر خلود النار، نتبادل معاً سرا لأسرار، قمرٌ يحملني فوق ظهره في ليالي الصيف، يريني مغاليق الكون، وقارالمحيطات، ومجاهل الليل في غابات الأمازون وأفريقيا، وأطلّ من عليائه على كل قارات الدنيا، نصف الأرض نهار ونصفه ليل.. هنا في الشتات استغراقٌ في الليل، وثمة خوضٌ في تعب النهاروقد أسحبه الى فراشي. أريه شظايا من أحلامي، أنه لا يعرف شيئاً عن حُلم الإنسان، هو لا يحلم لكني أريته ما لم ترَه عينان.. نحن صديقان من أزل الطفولة، ومذ ناركركوك الأزلية.. الليل فيها فضاء فضيّ مفتوح على النيام، يجتابون أرخبيلات أحلامهم. السطوح فيها سطوعٌ يزهر فيها النشاط، ثم ما أحلى صباحات كركوك تنتعش بالنسيم البارد، وما أطيب مذاق الماء أحسوه من الكوز فوقَ سياج السطح.. والصُبح وسط الدار، عرسٌ آخر، فرح وليد، حيث يغلي في باحة الدار الماء في السماور، ثم تترامى الى الصدر رائحة الشاي والجبن والبيض المقليّ وأرغفة الخبز الحارة.. أستغرب الآن من شجن النار، ألوذ في صمتي وأقول:
ترى مَنْ يسألني عن لون الحياة، وعن مسبّب المأساة في كركوك.. مدينتي مدينة الذكرى.. وموطن النار والأسرار..
هذيان
أنه غريب في كل شيء، غربته نافرة، كثير الكلام، قليل النوم، ربما كانَ يخشى الموتَ في الفراش، يمشي، ويصفر من دون سبب.. في الصالة يجلس وحيداً ساعات أمام التلفاز، وإن جاء آخر فشاركه الجلوس. يمطره بوابلٍ من الأحاديث.. ذاك المسكين يُصغي مضطراً، وهذا يتكلم دونما حَرج.. ذا هو يتحدث في الهاتف لا يترك محاوره أن يقولَ شيئاً هو صاحب الكلمة والكلام، ومُستمعه مَحض سامع.. هذا في صفحة كتاب النهار.. ليلاً، ينام ربما غطّاه خوف ولاذَ بالصمت والسكون..
ليلاً كنتُ أشعل مصباحاً داخل ستائري المحيطة بي صاح: أطفئ المصباح، قلتُ لا .. أنا لديّ مشكلة.. من النوع الذي يتدخل في شؤون الآخر.. أغلب الظن أنّ أهله تخلّوا منه، لم يزره أحد، كثير الحركة، مرتبك، هو يثير ضجة، والنائم إلى جواري غارق في الوجع هائمٌ في همه..
انتظر الليلة، أنه كثير البلبلة.. كثير الكلام قليل الصمت، بودّه لو يكلّم الجدران.. للسماءِ قصصٌ ترويها لليل، ولليل قصص تحكيها على عشاق الليل.. وأنا جالسٌ أدوّن هذه السطور.. أنها مجرد شيءٌ من القلقِ أو الوجع، أستفرغه على الورقة، وأقول كان الله في عون الزوجة المسكينة المبتلية بمثل هذا المهذار..
متون الأفكار
بدءاً من الصفحة الأولى يخرج الوجع ، كالملح الأعمى، كالرمل الناعم من الأضلاع والقراءات الماضيات من متون الأفكار.. وجعي يترنح مثل نحلة ضريرة، أشعرأنّ جسدي فضاءٌ مغلق معلقٌ بمئات الأسرار والأفكار.. وجع يودّعنى وآخر ينتظرني.. تمرّ عليّ اليوم صبحاً ومساء بألفٍ منه.. في كلّ آنٍ وضعٌ يختلف عن آخر.. أرى الراعي البعيد فوق التلّ، ما زالَ ينفخ في مزماره، والمزمار يتلو آيات قلبه، يُغني قصائده المُرّة تلو المرّة.. والمرعى برمته يسمع صوت المزمار، الماء معه يغنّي، والبسمة تميس، والضوء في الكون يشقشق، والعشب يترنح، والأغنام تلتهم العشب بلا هوادة.. قاطعني محاوري المشاكس: هل تقرأ نيتشة أو هيجل؟ لا .. أنا متيّم بشوبنهاور، وبهيدجر بل أمضيت سنين عمري أقرأ فوكنر، وموم، والمتنبي، وإدغارألان بو، وجويس، وهمنغواي، والغزالي، وتوماس مان، وغوغول، وباسترناك.. وقد انتهيتُ تواً من بودلير وروائع الفيلسوف نالي، وأحمد خاني ،وجلال الدين الرومي، وكلستان سعدي، وكافكا، والجواهري، وادونيس وعبد اللطيف بندراوغلو، وزهدي الداوودي، ودرويش، وبركات.. هل كنتُ أحلم حقاً وأنا أسرد عليك هواجس متون أفكاري.. أستقدمتها من الذاكرة الأولى، ألم أقل لك .. أنّي غابة أفكار أو أسرار، وتائهٌ منذ نعومة أظفاري في غابة ثقافات الزمن.. ولا أجد لنفسي قراراً لحين السكون في اللحد..