مسرور بارزاني.. دفاعاً عن العيش المشترك!

عمّار الجندي

في كتابه الأخير “في القيادة”، يرى توني بلير، رئيس الوزراء البريطاني الأسبق أن “فن القيادة يتمثل في قول لا، وليس نعم. إن من السهولة بمكان قول نعم.” والحق أن مسرور بارزاني (55 عاماً)، رئيس وزراء كردستان، التزم هذه القاعدة بجسارة واقتدار قبل ظهور كتاب بلير بنحو عقدين من الزمن، على الأقل.

هو ابن عائلة عريقة تمرست في قيادة التحرر الكردي منذ أوائل القرن الماضي في مسيرة بدأها جده الملا مصطفى بارزاني وتصدرها والده مسعود رئيس إقليم كردستان السابق بعد رحيل الأب المؤسس، وها هو الحفيد يكملها. وأدرك في وقت مبكر أهمية الوقوف في وجه ما يبدو لكثيرين بأنه “مسلمات” أو “ثوابت”. وقال حينما كان لايزال يرتقي سلم المسؤولية، لا لشكل الدولة العراقية الواحدة الموحدة التي اعتبر أنها ” غير مجدية” ولاسيما أن كيان “العراق فاشل من حيث المفهوم”. والسبب، الذي ناقشه بجرأة في مقال له في صحيفة “واشنطن بوست” في 2016، أي قبل انتخابه رئيسا للوزراء بثلاث سنوات، هو أن الكيان “يجبر شعوباً تجمعها القليل من القواسم المشتركة للتشارك في مستقبل غامض” لا يمكن لأي منها ضمان نتائجه أو ضبط بوصلته.

وكان مدى الاختلاف بين مكونات العراق ومواقفها، سيبرز للعيان على نحو صادم إبان الاستفتاء على استقلال الإقليم في السنة التالية. فحتى الشطر الآخر في كردستان الذي يقوده حزب الاتحاد الوطني الكردستاني من السليمانية، لم يبارك رغبة العاصمة إربيل معقل الحزب الديمقراطي الكردستاني في إعطاء الشعب الكردي حقوقه في السيادة وتقرير المصير. أما الآخرون الذين عارضوا الاستفتاء فكان بينهم من ذهب بعيداً لجهة التهديد بالويل والثبور وعظائم الأمور.

في خضم هذا الجدال، الذي كثيراً ما ارتفعت، درجة حرارته، أثبت مسرور بترويه وبعد نظره الاستراتيجي أنه يتمتع بمواصفات القائد الناجح، إذ جمع بين بين الحنكة في التعاطي مع الآخرين والصلابة في الدفاع عن قناعاته المبدئية في الوقت نفسه. لم يقبل المساومة على الحقوق حتى حين تبلورت مواقف كردية في السليمانية تدعو لصرف النظر عن الاستقلال. فالقائد يعمل على تحقيق ما يحتاجه شعبه، وليس ما يريده هذا الشعب. ولو اكتفى بتلبية رغبات مواطنيه لكان شعبويا تابعاً وليس قائداً يأخذ بيد شعبه على طريق المستقبل.

وكيف لمسرور أن يساوم على الحقوق التي حمل السلاح في عمر غضّ دفاعاً عنها. فقد انضم في 1985 وهو لايزال في السادسة عشرة من عمره إلى قوات البيشمركة التي نشط في صفوفها لقتال نظام صدام حسين كما شارك بفعالية في الانتفاضة الكردية عام 1991. وفي مرحلة تالية، توجه إلى لندن للدراسة. وهناك اكتسب المزيد من المعرفة حول الموضوعات التي شغلته من نعومة أظفاره، قبل أن يمضي إلى واشنطن العاصمة حيث تابع تحصيله العلمي لنيل شهادة عليا في مجال “السلام وفض النزاعات”.

لقد تحالفت المعرفة مع التصميم والايمان العميق لصقل مقاربته للأسئلة الكبرى المطروحة على شعبه، بحيث اقترن الإصرار على الفوز بالاستقلال مع الحرص الذي لا يقل رسوخاً على التعايش بسلام مع من حوله، والتعامل مع مكونات العراق الأخرى باحترام بعيد عن الأنانية. هكذا لم يكن الاستقلال بالنسبة إليه انفصال بقدر ما هو صيغة أخرى للتعاون بشكل أفضل مع إخوانه العراقيين. من هنا حذا حذو والده الذي ناشد أقطاب المعارضة العراقية في ذرة الاحتقان والدعوات للاقتصاص من صدام، في مؤتمر شهير في لندن ٢٠٠٢، للترفع عن الرغبة بالانتقام من أقرباء صدام وأعضاء حزب البعث، لأن لا عدالة ترتجى من الغوص في بئر بلا قاع.

إلا أن الحق حق لا يمكن لزعيم كمسرور أن يفرط به. وحجته في المطالبة به ليست نابعة من جنوح إلى الهيمنة على الآخرين أو محاولة للانفصال عنهم، بل هي ترتكز إلى قوة الديمقراطية ومواد الدستور الذي صوت في مصلحته 80 في المئة من العراقيين كإطار قانوني لبلادهم ومرجع لحل الخلافات. كما أنه لا يطالب بحقوق شعبه في كركوك فحسب، بل يسعى إلى إنصاف جميع المكونات ممن تهمهم معالجة أوضاع نينوى وديالي وصلاح الدين التي عبث نظام صدام بتركيبتها السكانية بغرض فرض هوية بعينها عليها. وفي نهاية المطاف، هذا ما ينص عليه القانون في مادته 140، التي لا يرغب “الانتقائيون” في تطبيقها لأنها لا تناسبهم بينما يزعمون أنهم يؤيدون الدستور ككل!
هذا الموقف من حقوق العراقيين جميعاً يدلل أن تهمة “الشوفينية” التي يوجهها البعض للأكراد المطالبين باستعادة كركوك هي تهمة باطلة. واللافت أن رئيس وزراء الإقليم كان سبّاقاً قبل أيام إلى شجب بأشد العبارات الهجوم الذي نفذه حزب العمال الكردستاني ضد شركة تركية قبل أيام. هكذا وقف إلى جانب الحق فواسى ذوي الضحايا التي أوقعها كردي آخر.

ودأبُ مسرور هو حل معضلة كركوك وغيرها سلمياً. ولقد أكد ذلك مرة تلو أخرى من بداياته الأولى، كما التزم به ميدانيا. مثلاً، في ذروة التوتر الذي أعقب اندلاع أحداث عنف في كركوك أدت إلى سقوط ٣ ضحايا في أيلول (سبتمبر) ٢٠٢٣، توجه على رأس وفد كبير ضم نائبه قوباد طالباني إلى بغداد للتداول مع الحكومة المركزية بشأن الخلافات والاتهامات المتبادلة بشأن الموازنة والأموال التي يشكل قسطها الأوفر مستحقات موظفي الإقليم ورواتبهم.
والواقع أن تصريحات مسرور ذات العلاقة توحي بشعور بالفخر بالسعي للحوار وتبادل وجهات النظر مع شركائه من مكونات العراق، مؤكداً أن “تطور وتنمية إقليم كوردستان يصبان في مصلحة العراق” ولا داعي لاتباع سياسة انعزالية من جانب أي طرف على نحو يهدد بتفكيك ثروة البلاد النفيسة: العيش المشترك.

النهار العربي

قد يعجبك ايضا