ناصر حكيم .. حياة فنية حافلة بالأصالة والابداع

 

علي ناصر الكناني

البدايات:

في ناحية وادعة تغفو على ضفاف الفرات ضمن قضاء سوق الشيوخ في محافظة ذي قار تدعى (العكيكة) وضمن منطقة تسمى البذريات حيث طبيعة الريف الساحرة المزدانة بالنخيل والأشجار الوارفة وفي يوم من أيام عام 1910 تردد صدى صوت اطلاقات بندقية الحاج حسين وزغاريد بعض النسوة مخترقا البساتين الغناء تبشر بمجيء المولود الأول له فسماه ناصر أما الحكيم فنسبه إلى جده علي حكيم الكناني الذي أشتهر بمعرفته الجيدة بالطب الشعبي فكان يسمى بالحكيم تبعا لذلك.

 

وتمضي الأيام والسنين ويكبر الطفل المدلل الذي ما ان أشتد عود صباه حتى آثر على نفسه أن يتحمل مسؤولية رعاية بستان والده وشؤون العائلة، وتتفتح ذاكرة الفتى الذي لم يتجاوز الثانية عشرة من العمر لإطلاق حنجرته التي كان يتهادى في تردداتها وترجيعاتها الصوتية حسا مرهفا ودفقا نغميا جلب أليه الانتباه من أقرانه الفتيان وكبار السن الذين كانوا يترددون للسمر في مضيف والده ويسمعونه كلمات الاطراء والاعجاب بولده الصغير ناصر ويحثونه على ان يطلب منه أن يسمعهم مما يحفظ من أشعار وأغاني كان يسمعها من بنات العيد (وهن مجموعة من النسوة يحملن الرفوف ويرددن أغاني خاصة بالمناسبات) ومن مطربين كبار أمثال الملا جادر والملا شنين ولكن بطريقة تلائم طبقات صوته الفني متجاوزا بذلك كل أقرانه ممن قاربوا عمره فما من مناسبة مفرحة أو زواج يقام ألا وأرسلوا بطلبه ليغني لهم أكراما لصاحب المناسبة دون أي مقابل.

دفعه هذا إلى التشجيع الكبير واستحسان الناس لصوته أن لا يقلد احدا وأن يحدد لنفسه معالم شخصيته الغنائية منذ البداية.

الخطوة الأولى:

في عام 1925 أقيم مهرجان غنائي كبير في مركز محافظة ذي قار حضره اكثر من ثلاثين مطربا من المعروفين آنذاك ضمن النطاق المحلي للمحافظة وصادف ان كان حاضرا بين الموجودين شخص يدعى نسيم الساعاتي وهو مندوب شركة بلفون لتسجيل الأسطوانات في البصرة والتي كان مقرها الرئيسي في بغداد فما أن سمع صوته وتفوقه على الباقين قرر أن يفاتحه بتسجيل مجموعة من أغانيه على الأسطوانات مقابل (خمسين روبية) لكل اسطوانة (مقدار قيمة الروبية آنذاك 75 فلسا) ولكن ما أن سمع والده الحاج حسين بموضوع عرض الشركة بالسفر إلى البصرة حتى بادر بالرفض خوفا عليه من السفر والابتعاد عنه وبعد محاولات عديدة من الأصدقاء ومندوب الشركة أقتنع بالأمر ووافق بشرط أن يتحملوا مسؤولية الحفاظ عليه .

سبع أسطوانات بسبعة أطوار: لم يكن احد من المطرين الأوائل قد سبقه في تسجيل الأطوار الغنائية في الغناء الريفي وأن كانت موجودة ولكنه هو أول من سجلها على الأسطوان محققا بذلك سبقا غنائيا ساهم من خلاله بإرساء قاعدة أساسية لأصول هذا اللون من الغناء الشعبي الأصيل. ومن بين هذه الأطوار الحياوي والشرطاوي والمجراوي والجادري والصبي وغيرها في سبع أغان كانت البداية التي وضع من خلالها الخطوة الأولى على طريق مشوار فني طويل أمتد فيما بعد لأكثر من نصف قرن من الزمان ومن تلك الأغاني أغنية (يمهيرة البدوان) و(بطل يدالي) و(هلبت منيرة) (أهنا يا موسى) و(صاحب بعد عيني) وغيرها. وهنا طلبت منه الشركة أن يوقع عقدا معها بأن يلتزم بعدم تسجيل أغنياته لدى شركة أخرى لمدة عام.

 

بغداد والزيارة الأولى عام 1926: بعد ان عرفت شركات الأسطوانات الموجودة في بغداد بجمالية صوته ولارتياحها له وخصوصا بعد انتهاء التزامه بعقد شركة (بلفون) التي رفض تجديد عقدها لأنه أثر العرض الذي قدمته شركة بيضافون في بغداد لتسجيل أغنيات جديدة بخمسة أطوار مع اجر يتجاوز المائة روبية للأسطوانة الواحدة ومن بين المطربين الريفيين الذين سجلوا معه أغنياتهم كان حضيري أبو عزيز وخضير حسن وشخير سلطان أما من مطربي المقام فقد كان الأستاذ الكبير محمد القبانجي ونجم الشيخلي ورشيد القندرجي .

حب غوية: لقد رفض الحكيم فكرة الاستقرار في بغداد عندما عرضت شركة تسجيل الأسطوانات ذلك مفضلا الذهاب والإياب ومتاعب السفر لأنه كان على علاقة حب. أغانيه التي كان يعبر من خلالها عن مشاعره وأحاسيسه الصادقة تجاهها عندما يطلق العنان لقاربه وهو ينساب وسط النهر إلى الضفة الأخرى حيث تسكن حبيبته والتي ما ان تسمعه يغني حتى تسرع إلى ضفة النهر مع (المشرية) بحجة إملاء الماء فما ان تحسن أن أحدا لا يراقبهم، تغني له: ((رد يبو زويني عدوانك مضربين)) أي عد إلى مكانك فأن هناك من يراقبنا من الأهل. ولكن الحظ لم يحالفهم بالزواج فقد تزوجت من أبن عمها. وفي طريق ذهابه إلى بغداد لتسجيل أغانيه لشركة بيضافون ألف قصيدة غنائية مطلعها: ((ناصر مشه لبغداد كل الغوية تلبس هدوم السود تحزن علي)) .

المقهى وحكايات الكرامفون : في بداية الثلاثينيات قرر الزواج والسفر إلى بغداد والاستقرار فيها. بعد شراء مقهى له في جانب الكرخ منطقة علاوي الحلة اقترنت فيما بعد باسمه فسميت بمقهى (ناصر حكيم) ونالت شهرة واسعة بين مقاهي بغداد القديمة على مدى أكثر من ثلاثين عاما حيث كانت أشبه بمنتدى أدبي ومدرسة غنائية كان يؤمها كبار المطربين والشعراء المعروفين آنذاك أمثال جبوري النجار وبدري الحلي وعبد الأمير الطويرجاوي وحضيري أبو عزيز وشخير سلطان وغيرهم . ولا زلت أتذكر ان المقهى كان يظم أريكة طويلة في أحد أركانه كان يجلس عليها مجموعة من المطربين ويؤدون الأغاني الواحد تلو الأخر دون آلات موسيقية سوى صينية وعليها مسبحة تستخدم كإيقاع وكان الناس يتجمهرون حول المقهى للاستمتاع بألوان الغناء الأصيل كما كان فيها جهاز الكرامفون للأسطوانات أو صندوق (أليغي) كما يسميه بعض الناس حيث ان التسجيل على الاسطوان سبق انتشار المذياع في العراق بسنوات طويلة فكان هذا الجهاز هو الوسيلة الوحيدة التي كان الناس يستمعون من خلالها إلى أصوات المطربين المعروفين آنذاك من العرب والعراقيين .

الخطوة الثانية نحو الانتشار : الخطوة الثانية نحو الانتشار كانت عام 1936

بعد افتتاح دار الإذاعة العراقية عام 1936 والتي كانت تابعة آنذاك إلى وزارة المعارف أرسلوا بطلبه وتم تعيينه كمطرب ريفي براتب شهري قدره ثمانية دنانير مقابل أربع حفلات شهريا وكان البث الإذاعي على الهواء مباشرة إذ لم تكن في ذلك الوقت تتوفر أجهزة التسجيل الحديثة كما هو اليوم. وفي عام 1948 سافر إلى فلسطين مع مجموعة من الفنانين العراقيين من بينهم حضيري أبو عزيز وعلي مردان وناظم الغزالي وآخرين لأحياء حفلات ترفيهية لقطعات الجيش العراقي التي كانت تدافع عن ارض العروبة هناك.

 

 

وفي عام 1955 سافر إلى عدد من الدول العربية من بينها مصر وسوريا ولبنان والبحرين والأمارات لتسجيل حفلات غنائية لإذاعات تلك الدول وتكررت سفراته إلى هذه الدول وغيرها من دول الخليج العربي لنفس الغرض المذكور في السنوات اللاحقة. ومن بين الأشياء التي لا يعرفها ألا القليل انه كان لا يجيد القراءة والكتابة ولكنه رغم ذلك كان ينظم الشعر ويضع ألحان أغانيه بنفسه فيما كنت أنا وأخي عبد الكاظم الذي يكبرني سنا نكتب له ما يؤلفه من كلمات الأغاني أو ما يكتبه له غيره من الشعراء الآخرين أمثال بدر الحلي وجبوري النجار ثم نبدأ بتحفيظه الكلام بطريقة القراءة المتكررة أمامه حتى يجيد حفظها وبعد ذلك يضع ترانيم لحنها دون الاستعانة بأي آلة موسيقية مستندا بذلك إلى ما يعرفه من أطوار غنائية في هذا اللون من الغناء.

ومرة اضطر ان يأخذ معه أخي إلى الإذاعة ليجلس إلى جواره خلال تسجيل احدى الأغنيات الجديدة التي كتب كلماتها الشاعر بدر الحلي والتي لم يتم له حفظها بشكل جيد وكانت تخص مناسبة وطنية فكان أخي يهمس في أذنه مقاطع الأغنية الواحد تلو الآخر حتى اتم عميلة التسجيل ومرت بسلام دون أي أخطاء وخلال فترة الستينات افتتحت مراكز خاصة لمحو الأمية للكبار فذهب لتسجيل أسمه بالأحرف الأولى. فلم يتواصل مع التعلم والدرس بحجة كان يرددها (لمن شاب ودوه للكتاب).

أغنياته والمطربون الشباب: وخلال معايشتي معه كنت أحس بفرحه وارتياحه للمحاولات الجيدة التي كان يقوم بها المطربون الشباب لتجديد أغانيه القديمة ويسمعها بأصواتهم مبديا بعض الملاحظات على تغيير المفردات التي باعتقاده ستفقد المعنى الشعري المقصود بها . فمثلا في أغنية (عيني.. عيني) التي غناها بعده الفنان سعدون جابر حيث يقول الكلام القديم في الأغنية ( مثل اليصم الماي رد جفه خالي) وفي التجديد أصبحت (مثل اليلم الماي رد جفه خالي) فيعقب على ذلك بقوله أن الماي يلتم أي يمكن احتوائه في الكف ولكنه لا يصم وفي أغنية أخرى قدمها الفنان حسين نعمة بصوته هي (فرد عود) فمضمون الكلام القديم هو (يالشاتل العودين خضر فرد عود لا بالذهب ينباع لا منه موجود) واعتراضه هنا هو على كلمة (لا بالذهب) التي أصبحت بعد التجديد لا ينشره ولا ينباع لا منه موجود وهو يقصد هنا أن الذهب هوأعلى قيمة شرائية للأشياء الثمينة ولكن الأشياء التي لا تشترى ولا تباع هي الأشياء التي لا قيمة لها. كم اخذ عنه مطربون شباب آخرون أغانيه القديمة والتي مع الأسف قال بعضهم انها الحان شائعة ومن بين تلك الأغاني أغنية (بالراض أمشي بالراض) التي غناها الفنان صباح غازي (ومالي شغل بالسوك) و (نخل السماوة) للفنان حسين نعمة وأغنية (على الله يازماني) و (بهية) للفنان فاضل عواد ولكني كنت أسمعه يردد دائما أنا فخور بهم لأنهم أولادنا الذين سيواصلون بعدنا..

التقاعد والمرض والرحيل: في بدايات 1971 قرر مجلس نقابة الفنانين بالموافقة على احالته على التقاعد بناء على طلبه حيث بدأ المرض يتسلل إلى جسده فأصيب بالسكر وظل يعاني منه سنوات طوال ثم أصيب بعدها بعجز القلب المزمن والكليتين ونتيجة لمضاعفات هذه الأمراض فقد بصره مما أبقاه طريح الفراش فترة طويلة من الزمن إلى ان وافاه الأجل في التاسع من نيسان عام 1991 في الليلة الثالثة والعشرين من شهر رمضان المبارك وبذلك أكون قد فقدت وودعت أعز الراحلين.

قد يعجبك ايضا