القطيعة الإبستمولوجية

محمد محضار

تَوَقّع أن تقع أشياء كثيرة خلال الأيام القادمة تُغيّر مسار حياته ومسار محيطه، بل مسار العالم، لكن ” الأيام القادمة ” جاءت دون أن يقع أيُّ تغيير، بل ظل كل شيء على حاله، وربما زاد سوءً.
لقد ظل حبيس هذا الإحساس منذ أزمنة بعيدة، دون أن ينتبه إلى أنّ التغيير الوحيد الذي يحدث كان يمس مُورفولوجيا جسده فقط، فوزنه يزداد، وشعره يشتعل شيبا، ووجهه تمسه الغضون والتجاعيد، وحركاته تُصبحُ أقل نشاطا.
حتى زوجته التي كان يَجد عندها السُّلْوَة والمودة الزائدة ودفق المشاعر الذي يُسرّي عنه، أصابها برود رهِيب مُذْ داهمها المرض وصار كل هَمّها أن تَسْتفتيه في موضوع العلاج، وطريقة استعمال الدواء، ومواقيت التحاليل والأشّعة، أما زملائه في العمل فأحاديثهم كانت مَلاحم شجنٍ، وبكائيات لا تنتهي وسردا بئيسا لأحداث بعضها مَحلّيُّ، وبعضها يهم ربوع الوطن، أو أرض الله الواسعة، كانت هذه الأحداث تبدو له بَالِغة الفَظَاظِة تَبثُّهُ بالطاقة السلبية، وتُلقي به نَحو دَوّامة الهواجسِ وبواعثِ القلق. وَلَعَلّ هذا ما كان يدفعه في كثير من الأحيان إلى تجنّب تجمعاتهم، وإن قُدّر عليه التواجد بَينهم فإنه يلتزم الصّمتَ ويتسلح بالانطواء. مِمّا جعلهم يلقبونه بالغراب “الأعصم”، لِفرادته في السلوك والمعاملة.

سأل زوجته ذات مرة: ” ما بك يا امرأة؟ وماذا أصابك حتى صِرت على هذا الحال من البرود وضيق الخاطر؟”
نظرت إليه مستغربة، وقالت :” لستُ مسؤولة عمَّا تراه أنت تَغيُّراً، وأراه أنا تَطوّرا طبيعيّا ، وجزءً من قواعد اللعبة المفروضة علينا قَصْراً ودون رضانا، والتي تنتهي بحتمية لا نستطيع الوُقوف في وجهها”
كان جوابها مُفحما، تَطَلّبَ منه وقتاً طويلا لِيدرك مغزاه، أَحَسّ أنها تتجاوزه في فهم الحياة وتقدير مدى لُؤمها وخِيانتها لمن يُسَلّمُها قِياده، ويَنتظر وِدّهَا وكَرمها، ولكن هذا لم يؤثر على ما تُحسه جوارحه ويُصدقه عقله، فالتغيير بالنسبة له قادم لا محالة في يوم ما، ويكفيه الأن أن يتكيف مع الوضعيات السائدة والاِستمرار في عيش لعبة التوقعات وممارسة نمط خاص من اليقظة يضع كل “المسلمات واليقينيات” موضوع تساؤل.
لكن السؤال الذي يحاصره ويطارده في الحِلِّ والترحال هو: ” إلى متى تستمر هذه اللعبة المقيتة، التي تأخذ من تَفكيره وجهده الكثير؟؟”
في لحظة سهوٍ أبلغوه أنه حصل على وسَام رفيع باعتباره من خدام الدولة الأوفياء، وقد ورد اسمه ضمن الموظفين المُنعم عليهم بالسفر إلى الديار المقدسة، اِنتبه إلى أن هذا الخبر –وإن كان مضمونه يحمل طيّه فَائدة ونفعا قد يُغبط عَليْهِما- هو إشارة لِقرب التَّشْطِيب عليه من أسْلاك الوظيفة العمومية بسبب بلوغه سِنَّ التَّقاعد، وبداية لمرحلة مُوالية تدخل في صَيرورة التغيير، عندما أفضى لزوجته بالخبر، تهللت أسارير وجهها وهتفت به :” لن تَذهب دُوني إلى بيتِ الله الحَرام” اِكتفى بابتسامة شاحبة دون أن يعلّق على كلامها، لم تعبأ بلا مُبالاته وتابعت كلامها مُتَحَمسة:

-وأخير تَبتسمُ الحياة في وجهك، وسام رفيع، وحَجّ مجاني، وتقاعد يريحك من متاعب وسائل النقل، والتّبكير في الاستيقاظ.
أحسّ أن حديثها ليس على هواه، لذلك اختار الصّمت، لأن للصَّمتِ أحيانا فتنة غريبة وسحر لا يقاوم فهو يتيح للمرء الخلود إلى بنات أفكاره والاِمعان في الانصات لسكنات نفسه، هي كانت ولازالت نصفه الآخر الذي يُضفي على حياته شآبيب الهدوء والسكينة، لأنها تُصيخ السّمع لنبض قلبه وتَشْمله بحنانها في السّراء والضرّاء، في أول حياتهما الزوجية كانت تَشتغل مُدرّسَة للفلسفة، جَمعتهما الصُّدفة في ندوة ثقافية فتعلقا ببعضهما، وتَبادلا الحُبّ ثم قررا الاِرتباط وبدء مسيرة الحياة، رُزقا بولدين، كانا قُرّة عين لهما، اِنشغلا بِتربيتهما ثم دراستهما، واختارت هي بشكل مفاجئ طلب الإحالة على التقاعد النسبي بعد خمس وعشرين سنة من العمل، سافرَ الوَلَدَان إلى خَارج البِلاد وبقيا وحدهُما يُقارعان صمتَ الليالي، وصَخب الأيّامِ، ويعيشان الرَّتابة بِسيّاقاتها المُتتالية دون طعم أو لذاذة. وكان الشيء الوحيد الذي يُسَرّي عليهما هو الإدمان المشترك على مشاهدة المسلسلات والأفلام القديمة المرتبطة بذكريات طفولتهما وشبابهما عبر القنوات المتعددة التي تُوفّرها لهما الشبكة العنكبوتية، ولكن مقابل هذا كان لكل منهما اهتمامات أخرى فهو يُدمن على القراءة وهي تنشغل بتتبع فيديوهات الطبخ والحمية والطب البديل.

اليومَ عليه أن يدير ظهره لمرحلة توشك أن تصبح جزء من الماضي، ويتعامل مع المرحلة الجديدة على أنها بمثابة قطيعة إبستمولوجية مع سنوات العمل وما تَفرّع عَنها من علاقات متشابكة ومتداخلة أثمرت صداقات وعدوات، وأفرزت تجاذبات وصراعات، وكان لها الأثر القويّ على نفسيته، ولعل في الاِنعام عليه بالسفر إلى الديار المقدسة رمزية جَلِيّة لهذه القطيعة فهو سيعود من تلك البقاع الطاهرة كمن ولدته أمه ليبدأ حياة بطعم أخر وأنساق جديدةٍ.
عِندما أسَرّ لزوجته بما يجول في خَلَدِه من خَوَاطر واِنفعالات، اِرتسمت على وجهها ابتسامة عريضة وقالت بصوت تشوبه نبرة تأكيد:
-اسقاطك لمفهوم القطيعة الإبستمولوجية على وضْعيّة الإحالة على التقاعد، ذكرني بأستاذنا الفاضل المرحوم محمد وقيدي الذي درّسني بكلية الآداب بالرباط، فقد كان يقول وهو يشرح لنا هذا المفهوم الذي وضعه غاستون باشلار: ” القطيعة الإبستمولوجية تعني الانتقال نحو فكر علمي أشمل وأكثر انفتاحا يعمل بأكثر من نسق واحد، مع بقاء الأنساق السابقة مُحتواة ضمن فكر علمي جديد”.
قاطعها مستغربا:

-وهل رحل عن عالمنا محمد وقيدي ؟
-يبدو أنك تعيش في كوكب آخر، ولكن لا ضير عليك فالحكماء يرحلون في صمت بهذا البلد دون ان ينتبه إليهم أحد.
انفجر ضاحكا وقال بصوت ساخر:
-إدمانك على فيديوهات الطبخ، واِهْتِمَامُك الزائد بموضوع الحمية والطب البديل، أنساني أنك كنت أستاذة لمادة الفلسفة ومنتسبة لجمعية أساتذتها.
-لكل مقام مقال يا فيلسوف عصره، وديكارت يقول:” إنّ أعدلَ شيءٍ قسمةً بين الناس هو العقلُ” وكان عليك أن تستعمله وأنت تخاطبني.
أحس بسعادة غريبة تنتابه وهو يحرك المياه الراكدة في حياته المشتركة مع زوجته، فمنذ زمن بعيد غاب عن حواراتهما العمق المعرفي والاستشهاد بأقوال المفكرين والعلماء، وحضرتْ لغَةٌ عادية تنحصر في أحاديث ترتبط بالروتين اليومي، و مشاغل الحياة، ومن حقه الأن أن يرسم خريطة طريق للمرحلة الجديدة من حياته ويتغلب على ذلك التّهيب الذي داهمه لمّا أُخْبِرَ بقرب مغادرته الوظيفة العمومية التي عاش في كنفها سنوات طويلة، ولن يكون التغيير القادم إلا ايجابيا عليه وعلى رفيقةِ دَربه.

قد يعجبك ايضا