احمد مختار
لقد ساهم تطور أسلوب العزف المنفرد على العود في العراق خلال النصف الأول من القرن الماضي، في تحسين نوعية الإنتاج وازدياد أهميته التقنية والروحية. وأثّر هذا الأسلوب في العالم العربي فيما بعد، حيث كانت لجميع مؤلفي تلك المرحلة وعازفيها، روح تأليفية ذات خصوصية أضافوا اليها ما ابتكروه من نمط تقني جديد ومتطور معتمدين على إرث العراق الموسيقي، فابتكروا كتلة متحدة بين التأليف الروحي وتقنية الأداء، وبهذا وفروا على الذين أتوا بعدهم عناء البحث في هوية أعداد الأصابع والريشة والمراحل التفاعلية في العمل.
لكن بعضاً من هؤلاء مثل الموسيقي العراقي جميل بشير، كتب موسيقى كانت في غاية الجمال والتعقيد الأدائي، تتميز بمهارة عالية وفريدة في الأداء. في مقطوعته «كابريس» مثلاً، نلاحظ التداخل المعقد بين الأصوات العليا والسفلى، وتداخل الأشكال الإيقاعية في الريشة بطريقة تكمن فيها صعوبة الأداء الموزون بالسرعة المطلوبة. وكان جميل بشير يذهب الى مواضع لم تكن مكتشفة في العزف على آلة العود من قبل مثل العزف في منتصف العود على الأوتار الحادة.
استمر الفنان جميل بشير بدراسة التراث والمقامات العراقية والأنغام والإيقاعات العربية والعراقية مما أدى لظهور الأستاذ جميل بشير بهذا الشكل حافظا لتراث الموسيقى العربية والتركية و مؤديا على العود والكمان و بإجاده الموسيقى العراقية الصرفه التقليدية وقد أضاف التكنيك وسلامة ذوقه الموسيقي ورونق الحليه وخبرته المختزنة.
ولد الفنان جميل وهو جميل بن بشير بن عزيز بن جرجيس في مدينة الموصل في العراق عام 1921، وتعلم العزف على العود منذ الصغر حيث كان والده عازفاً وصانعاً آلة العود، وعند تأسيس المعهد الموسيقي في بغداد عام 1936 كان جميل بشير ضمن الدورة الاولى حيث درس على يد الشريف محيي الدين حيدر مؤسس المعهد، وبات من طلابه المتميزين، كما تعلم العزف أيضاً على آلة الكمان على يد الأستاذ الروماني ساندو ألبو لتصبح آلته الثانية.
ويذكر الدكتور والباحث الموسيقي (نبيل اللو ) ما يلي : “أن بشير عبّر مرة انه لا يعرف ما اذا كان توجهه الى الكمان الغربي رغبة عائلية في أن يكون من بينهم عازف فردي على آلة عالمية، ام أن الأمر كان مؤامرة ضده ليخلو الدرب أمام أخيه منير؟ “، بيد أن تعلم جميل بشير العزف على آلة غربيّة مثل الكمان، أضاف إليه قدرة هارمونية سمعية وقدرة على عزف التالفات الصوتية في آلة الكمان التي عكسها على العود في شكل ناجح فيما بعد.
تميزت موسيقى جميل بشير بملامح عراقية صرفه وأصيله حيث كان كثير العطاء فقد كان مثال للفنان المثقف والمعلم البارع والمؤلف الباهر والعازف المتمكن المتقن على العود والكمان. والجدير بالذكر بأن أبرز طلبته كانوا ولا زالوا أساتذة للموسيقى العراقية فيما بعده أمثال الحاج معتز البياتي وعلى الإمام وكذلك شعيب إبراهيم الملقب ب “شعّوبي”.
تميز جميل بشير بخصوصية موسيقية يصعب ايجاد مثيل لها لدى الآخرين حيث عزف بتقنية أصابع وريشة لم يعرفها العود من قبل.
تخرج الفنان العراقي جميل بشير من قسم العود في المعهد الموسيقي عام 1943 بدرجة أمتياز، وفي قسم الكمان عام 1946 وبأمتياز أيضاً، ودرّس العزف على آلة العود، وبدء العمل أستاذاً مساعداً لآلة الكمان في الفترة ذاتها وهو لا يزال طالباً في الصفوف المنتهيه في المعهد، كذلك شارك كبار الموسيقيين (ساندو ألبو، مسعود جميل بك الطنبوري وغيرهم) في الحفلات التي كان يقدمها المعهد وهو لا يزال طالباً فيه، كما شغل رئاسة قسم الإنشاد والموسيقى الصباحي والمسائي في المعهد بعد تخرجه. عبّر الشريف محيي حيدر عام 1941 عن تفضيله الواضح لأفضل طالب لديه لبراعته التي خرج بها بعد هذه التجربة مع الآلتين بإهدائه عوده الخاص وهي هدية ذات دلالات ومغزى، وتشير الى رغبته في خلافة جميل بشير لأستاذه الشريف محي الدين حيدر في ريادة الموسيقى في العراق، وهذا ما كان شائعاً في الأعراف الموسيقية.
حاول بشير ان يدرس العلوم التي لم يتسن له الاطلاع عليها، فركز على المقامات والإيقاعات العراقية، لذا نجد التأثيرات والاستيعاب العميق للألوان الموسيقية العراقية عند جميل بشير مثل الأطوار الريفية وأسلوب الأداء في التعازي والغناء البدوي. ولكنه في الوقت نفسه استطاع ان يقدم لوناً فنياً متميزاً معتمداً على المقامات العراقية وإيقاعاتها، مكتنزاً في تصوراته التأليفية الكثير من اسلوب استاذه الشريف محي الدين حيدر ومتخلياً عن البعض منها كالتأثيرات التركية لإيجاد لهجة موسيقية عراقية مقامية صافية.
ويتضح هذا جلياً في مؤلفاته مثل «عيناك» و «ايام زمان» وتقاسيمه على المقامات العراقية والعربية مثل تقاسيم مقام «اللامي» و«الاوشار» و«المخالف» و«الخنبات». تركز اسلوبه روحياً على ملامح المقامات العراقية وجذورها التقليدية، وتقنياً على الرشاقة والليونة في تقنية الأصابع والانتظام والدقة في الريشة المستوحاة من عمل القوس في آلة الكمان.
كما ان نقاوة العزف لديه في حال السرعة الفائقة لا تشكل إدغاماً في النغمات او تشويهاً للجملة الموسيقية، منتجاً بذلك براعة الإتقان الفني في التأليف الموسيقي الصعب المراس، اضافة الى احساس الجمل الموسيقية العميقة ورونق الذوق الموسيقي الروحي وسلامته، اذ حاول أن يجانس بين الروح والتقنية في شكل عال لم يصله اليه بعده اي من عازفي المدرسة العراقية التي تعتبر الأهم بين مدارس العود في العالم.
كان إنتاج جميل بشير كبيرا ومتنوع فقد دون المقامات العراقية وعزفها على الكمان والعود وصاحب أغلب مطربي العراق العظام على آلة الكمان وعلى عوده المتميز، ايضا سجل الكثير من القطع الموسيقية الكلاسيكية، الأستاذ جميل بشير كان يؤلف ويغني باللغة الكوردية فقد ألف وسجل العديد من الأغاني العراقية والأغاني الكوردية. و كان مؤديا بارعا ولكنه فضل الاستمرار في العزف متخليا عن الغناء، وله بعض المؤلفات الموسيقية منها كتاب بعنوان ”العود و طريقة تدريسه ” 1961 ، ويتكون من جزئين وقد أعتمد للتدريس في المعاهد الموسيقية في العراق، كما لحن العديد من الأناشيد المدرسية وعمل في مجال الإذاعة والتلفزيون كرئيس للفرقة الموسيقية ورئيس للقسم الموسيقي. و قام بجولات فنية عديدة وسجل خلالها العديد من مؤلفاته لعدة إذاعات عربية وأجنبية وقد أقام فترة طويلة في الكويت مما أدى لتسجيل الكثير من أعماله على العود مثل (سماعي نهاوند وسماعي ديوان “حسيني” وبنت الشمال وتقاسيم عراقية وسوريه وكويتية)، وكذلك سجل العديد من الأغاني التراثية وألف وسجل العديد من المعزوفات الموسيقية مثل (ملاعب النغم، أندلس، همسات، قيثارتي.. وغيرها)، وكذلك بعض القطع الكلاسيكية على الكمان مثل سماعي محير ورقص الهوانم. مما لا شك فيه فأن الأستاذ جميل بشير كان من أبرز من أثروا الموسيقى العربية وبهمة عالية وبدون توقف إلى ساعة وفاته وقد أثر في الكثير من الموسيقين من بعده، فلم يصدف ان ذمه أحد أو قلل من شأنه وانما الجميع يحبونه حباً كبيراً ويشيدون بقدراته الموسيقية وقد ترك أثراً كبيراً عند كل من عرفه وتتلمذ على يده، فكان نقطة تحول بالنسبة لهم وبالنسبة لآلة العود كذلك. رحل الأستاذ جميل بشير إلى عالم الخلود في 27/9/1977 في لندن. تاركاً وراءه إرثاً موسيقياً مهماً وتجربة موسيقية عميقة.
من مؤلفات جميل بشير:
- بشرف سيجاه
- سماعي ديوان و صبا ويكاه
- كابريس ، أندلس، قيثارتي، همسات
- لونجا فراق، ملاعب النغم، تأمل حيره
- رقصة جمانا، أيام زمان، صدفه، شارع الخليج.