أ.د. نزار الربيعي
كانت للكنيسة آراؤها السياسية التي يمكن ان يستخلص من مجموعها نظرية سياسية تعبر عن وجهة نظرها الذاتية وان كانت طبعا لا تعبر عن احكام الدين كما انزل من عند الله ، والنظرية الكنسية في اكمل صورها اشبه بالنظريات الخيالية التي تتحدث عن مدن فاضلة وهمية هذا اذا نظرنا الى أوغسطين على انه قديس مسيحي وليس فيلسوفا رومانيا ، فهو الذي عبر عن هذه النظرية في كتابه (مدينة الله) وفكرة اوغسطين الاساسية صحيحة تماما من جهة انه ليس في الوجود الا مملكتان او مدينتان لا ثالث لهما احدهما مدينة الله والاخرى مدينة الشيطان .
ولكن الخطأ الذي يفسد هذه الفكرة ذاتها عنده يمكن في تحديده لخصائص كل مدينة فهو يرى ان مدينة الله هي التي يحكمها آباء الكنيسة بخلاف مدينة الشيطان التي يسومها رجال الدنيا ، ثم ان الصورة التي تخيلها لمدينة الله موغلة في الخيال الى درجة تجعل امكان تطبيق نظريته عمليا خارقة نادرة ان لم تكن مستحيلة ام النظرية الاكثر واقعية والتي سادت عمليا بين فترة نفوذ الكنسية فالحكام في نظرها لا يشترط ان يكونوا رجال دين ، ولكن يجب ان يخوضوا في ذواتهم لسلطة رجال الدين .
وبإمكاننا ان نورد بعض النتائج السيئة للعلمانية على الانسان الذي يظل يعيش في ظل حياة ترتكز قاعدتها على هذه المبدأ الاشراكي ، في ظلال المجتمع العلماني يتمزق الانسان بناءً على تمزق مصيره وتزدوج شخصيته اعتمادا على ثنائية التي اصطنعها بين المادة والروح والجدران التي اقامها من تجربتي الحس والوجدان ، والجفاء الذي باعد به زيفا بين عالمي الحضور والغياب ، بينما هو قريب ومرئي وما هو بعيد لا تراه العيون ، والتطور الذي يصدر عنه ذلك الانسان لا يوائم بحال بين الحالات المعقدة المتشابكة التي تحكم الكون والعالم والحياة ، بل هو تصور يفصل بالقسر والعناد بين هذه العلاقات جميعها ، يمزقها تمزيقا ، يعمل فيها تقطيعا وتشويها فتغدو طاقات الكون والانسان الحياة جميعا من نتائج وارتباطات تغدو في حس العلماني وتصوره فوضى يسودها الانفصال والصدأ والجفاء ، الدين يتناقص مع العلم والفلسفة العقلية ترفض التشبث الطبيعي بالواقع الملموس والمذاهب الطبيعية لا تلزم نفسها بقيم خلقية او انسانية وهي سلسلة من المصادمات التي لا تقتصر آثارها السيئة على العالم الخارجي فحسب بل في اعماق الانسان وتجربته الذاتية كذلك .
ان العالم الغربي لم يهضم بعض الديانات التي نشأت في الشرق الاوسط ، انه لم يخرج بعد من العصور المظلمة ، وانه لعجيب ان يكون هذا الرجل طبيبا يداوي الناس وهو مريض ، ولكن لا عجب منه هو انه يبحث الحائرون في الغرب عن دين ينظم حياتهم ، في حين ان الذين منحهم الله الموهبة الكريمة من الشرق يقولون : لا علاقة للدين بشؤون الحياة ويريدون ان ينظموا حياتهم بتناقضات وفلسفات اولئك الحيارى .
ونزيد الامر ايضا بإيراد شاهد على ان الشركاء المتشاكسين يفقدون الانسان الارض الثابتة التي يستطيع الوقوف عليها ، ويزجون في متاهات الاقرار لها وصدمات لا سبيل للخلاص منها يقول سمول (ان رأس مالنا الاخلاقي – اذا تحدثنا بوجه عام ، انما يتكون من مجموعة من الاخلاقيات الاقليمية يعوزها التجانس ، وبهذه الاخلاقيات يحتفظ المتجمع بحركته ولكنه رغم هذه يبعثر مجهودا هائلا يبذله في تلك الاحتكاكات التي تعوق حركته ، الا اننا لا نملك مستوى اخلاقيا عاما نستطيع ان نحتكم اليه طبقات الناس ضد اخرى ، ونستمد منه حكما يلتزم بقبوله الطبقة التي تخسر القضية ولنفترض اننا وسط من صراعات العمال واصحاب الاعمال ، وقد اقترح ان تحال المشكلة الى التحكيم ، ثم نقابل ممثلو الطرفين المنازعين ، فأن سرعان ما تبين ان النزاع لا يمكن الفصل فيه على اسس اخلاقية ، فإن للاطراف المتنازعة ولربما لهيئة التحكيم ، ايضا مستوى اخلاقي مختلف فأخلاقيات العاملين تقوم على اساس فكرة حق العمل اما اخلاقيات المحكمين فأنها قد تتأرجح بين تفسير رجل القانون للقانون المدني وبين فكرة الفيلسوف المتأمل عن الحقوق المثالية الانسانية للانسان بوصفه انسانا ، اي انه لا يوجد اخلاقيات مشتركة ترجع اليها ، فلا المتقاضون ولا المحكموم يستطيع اي منهم ان يقنع الاخرين بضرورة التسليم بقاعدة عليا من الحق .
لذا ان المجتمع الذي رفض التحاكم الى شرع الله السير على هداه لا يستطيع ان يملك قاعدة عليا من الحق ؟ لان كل معبود من الشركاء قاعدته الخاصة وسبيله المختلف ، ولا سبيل ابدا الى توحيد هذه القواعد الا بالتخلص من الشركاء جميعا ، والاتجاه المنقاد المستسلم لله تعالى لا شريك له .
وبين فوضى الارباب والالهة والطواغيت والمعبودات ذات الاسماء والشراعات المختلفة والصورة المتباينة يسير المؤمن الموحد بخطى ثابته في طريق واضح لا زلل فيه ولا عثار ، وهو مملوء ثقة ويقينا بأن اختياره لغير هذا الطريق او تردده في الاستمساك به معناه الكاثرة الكبرى والخسارة الفادحة.