د. حسين عزيز الهنداوي
الجيش مؤسسة وطنية أساسية من مؤسسات الدولة في الجوهر، بيد ان هذه المؤسسة يمكن استخدامها من قبل قيادته السياسية لأغراض ضد الدولة وبالتالي غير وطنية ما يجعله مصدرا لويلات كبرى على الشعب والوطن أحيانا. وهذا ما حصل في العالم الثالث ومنه العالم العربي مرارا. فتحزيب او تبعيث الجيش مثلا كما حصل في العراق خلال العهود البعثية المظلمة، كان كارثيا في كل المجالات ومستمرا بصفته هذه حتى بعد سقوط تلك العهود. كما انه ضار حصر قيادة الجيش او وحداته القتالية بجهة مذهبية او دينية او قومية او قبائلية مهما كان حجمها وثقلها. ونفس الاستنتاج يصدق على شخصنة الجيش بهذا المسؤول السياسي او الجنرال او الشيخ او ذاك مهما كانت امجاده وانساله الزاهية، وهي في الغالب مصطنعة وبالتالي وهمية لا سيما في العالم الثالث فضلا عن انها تعكس الهشاشة البنيوية لتلك المؤسسة في فترة او أخرى رغم المظاهر الخادعة. وامثلة الاستخدام الرديء للجيش ما حصل في سوريا في عام 1949. ففي غضون تسعة اشهر فقط منه، قام ثلاثة جنرالات برتبة “قائد الجيش” بثلاثة انقلابات عسكرية في اقل من عام واحد ثم رابع عام، اطاح كل منهما برأس الآخر، بدءا بانقلاب حسني الزعيم (في آذار) المتملق للولايات المتحدة والذي دامت رئاسته لسوريا 137 يوما فقط رغم تلقيبه لنفسه بـ”نابليون الشرق الاوسط”، ثم سامي الحناوي (في آب) المدعوم من بريطانيا ونوري السعيد والذي دامت رئاسته لعدة أيام كانت كافية ليمزق بالرصاص جسد سلفه حسني الزعيم مع رئيس وزرائه محسن البرازي، قبل ان يباغت بانقلاب بقيادة اديب الشيشكلي (في كانون الأول) هرب الحناوي اثره الى بيروت حيث سقط مضرجا بدمائه اثر عملية ثأر لمن اعدمهم دون ضرورة او محاكمة. الشيشكلي نفسه سيكرر انقلاباته العسكرية العقيمة قبل ان يهرب الى البرازيل حيث اغتيل في 1964 في عملية انتقام اخرى. وتلك التجربة السورية مهمة جدا في الكشف عن ماهية التدخلات الأجنبية في توجهات المؤسسة العسكرية في دول العالم الثالث عموما لا سيما خلال فترة الحرب الباردة التي اشعلتها الولايات المتحدة من اجل فرض هيمنتها الامبريالية العالمية كوريث للإمبراطورية البريطانية التي باتت شمطاء تماماً. فبموازاة تنظيمها لسلسلة انقلابات اسفرت عن صعود طغم فاشية الى السلطة في دول مهمة استراتيجيا كايران بعد الإطاحة بمصدق في 1953، والعراق بعد الإطاحة بعبد الكريم قاسم في 1963، واندونيسيا بعد عزل سوكارنو في 1965، وتشيلي بعد الإطاحة بسلفادور اليندي في 1973، ساندت واشنطن انقلابات اقل تأثيرا كالذي حصل في غواتيمالا عام 1954، ثم ذلك الذي قاده الجنرال موبوتو في الكونغو وأسفر في 1961 عن اعدام بطل استقلالها باتريس لومومبا، او الانقلاب العسكري في غانا عام 1966، دون نسيان انقلاب حسني الزعيم ضد الرئيس السوري شكري القوتلي في عام 1949، الذي لئن لم تتدخل بتنفيذه واشنطن، فانها كانت على علم مسبق بالتحضير له، بل شجعت الزعيم على مبادراته الاحادية لخدمة المصالح الأمريكية كمحاربة الحزب الشيوعي السوري الموالي لموسكو وتوقيع اتفاقية لمد خط “التابلاين” عبر الأراضي السورية، واستعداده للاعتراف بإسرائيل وتوطين اللاجئين الفلسطينيين في سوريا لمجرد نيل الاعتراف الأمريكي بنظامه وهو ما حصل بالفعل حسب معلومات خاصة بانقلاب حسني الزعيم أفرجت وزارة الخارجية الأمريكية عنها بمناسبة مرور خمسين سنة على أحداث 1949. وكانت بعض هذه المعلومات عن دور الولايات المتحدة في ذلك الانقلاب قد كشف عنها من قبل مسؤول المخابرات الأميركية في محطة الشرق الأوسط مايلز كوبلاند في كتابه المعروف “لعبة الأمم” الذي كشف فيه عن دوره في ذلك الانقلاب عندما كان يعمل في السفارة الأمريكية بدمشق، مؤكدا إنه تلقى تعليمات “صريحة” من واشنطن تقول: “إذا لا تستطيع تغيير الملعب، غيّروا اللاعب.. غيروا القوتلي”.. كما يؤكد كوبلاند ان الحاجة للاطاحة بالقوتلي المنتخب ديموقراطيا كانت نتيجة تدهور العلاقات السورية الأميركية تدهوراً بالغاً في السنوات الأخيرة من رئاسته بعد إصراره على عدم حظر الحزب الشيوعي السوري ورفضه لطلب واشنطن بالاعتراف بإسرائيل او توقيع هدنة مع الدولة العبرية وخاصة لرفضه توقيع اتفاقية “التابلاين” بإعفاء شركة “أرامكو” الأمريكية من ضريبة مرور نفطها السعودي عبر الأراضي السورية. وهكذا وبدعم مباشر من أرامكو، قررت واشنطن ان تكون الإطاحة بالقوتلي اول مهمات وكالة الـ (سي أي اي) في العالم العربي. ولقد كان اختيار حسني الزعيم بديلا للقوتلي مفيدا لواشنطن لتعهده بإنهاء الصراع مع تل أبيب وحماية مصالحها ومواجهة التمدد السوفييتي في الشرق الاوسط. وتفيد وثائق امريكية ان مساعد الملحق العسكري الأمريكي في دمشق، أبرق إلى واشنطن مؤكدا عَقد لقاءات سرية مع حسني الزعيم الذي لم يُخفِ استعداده لتلبية كل مطالب الولايات المتحدة وإسرائيل ومنها التضييق على الحزب الشيوعي السوري وتوقيع اتفاقية التابلاين، وعقد هدنة مع إسرائيل، طالبا دعمه في تسلّم حكم البلاد. والمفارقة ان أكرم الحوراني شريك ميشيل عفلق في تأسيس حزب البعث العربي الاشتراكي كان كاتب الخطابات والمساعد الأقرب لحسني الزعيم الذي سمى نفسه “نابليون الشرق الأوسط”، لكن الذي لم يدم في الحكم الا 137 يوما عندما نقل بملابس النوم وحافيا إلى المقصلة. وفي الكونغو، دعمت المخابرات الامريكية الانقلاب العسكري الذي قاده الجنرال موبوتو سيسي سيكو في 17 كانون الثاني 1961، بدعم من شركات المناجم البلجيكية في الكونغو، وأطاح بالزعيم الوطني الكونغولي باتريس لومومبا، أول رئيس وزراء منتخب في الكونغو بعد استقلالها في عام 1960 . فبعد سنة واحدة من توليه الحكم اعدم لومومبا بتهمة التعاطف مع الشيوعية، وكان موبوتو يريد بذلك التأييد والدعم من الولايات المتحدة التي قررت القضاء على لومومبا الذي تجرأ على طلب المساعدة من الاتحاد السوفيتي وهو ما تؤكده برقية مرسلة في 26 آب 1960 من مدير الـ (سي أي اي) ألين دولس إلى عملائه في الكونغو، يخبرهم فيها أن الولايات المتحدة الأميركية قررت الإطاحة بلومومبا لكونه بات يحظى بالأولوية كأهم هدف لها وهو ما كان لومومبا يعنيه بقوله: «إذا مت غداً فسيكون السبب أن أبيضاَ قد سلّح أسوداً!”. وهكذا وامام انظار رجال السي أي أي تلقى لومومبا المعلق على الأشجار وابلا من الرصاص لم ينقطع الا بعد ان أصبح جسده كالغربال لكثرة الثقوب التي أحدثها الرصاص فيه، قبل ان يتم التخلص نهائيا منه بتقطيعه ورفيقيه إرباً إرباً قبل إذابتهم في حامض الكبريتيك البلجيكي المركز! اما في غواتيمالا، بأمريكا الوسطى، فقد وقفت الولايات المتحدة في عام 1954 وراء تصميم وتنفيذ الانقلاب العسكري المدعوم بغزو من المرتزقة والذي أطلقت عليه الـ (سي أي اي) اسم العملية PBSUCCESS، وهي عملية سرية أطاحت بالرئيس الغواتيمالي المنتخب ديمقراطياً جاكوبو أربينز الذي استبدل بضابط مغمور تابع لواشنطن، ونفذ هذا الانقلاب بذريعة منع تحول غواتيمالا الى دولة شيوعية والى رأس جسر سوفياتي في العالم الغربي في تلك الفترة من بدء الحرب الباردة بين واشنطن وموسكو، فيما تفيد وثائق سرية ان الانقلاب كان بتشجيع من شركات الفواكه ذات النفوذ القوي لدى البيت الأبيض والتي كانت تسيطر على مفاصل الاقتصاد الغواتيمالي لكنها وجدت ان امتيازاتها تتقلص اثر قيام اربينز بإصدار قانون للإصلاح الزراعي وإجراءات اشتراكية أخرى، وان الرئيس الأمريكي الاسبق أيزنهاور هو الذي أعطى للـ (CIA) السلطة الكاملة لتنفيذ ذلك الانقلاب الذي مهدت له باجراءات تسليح وتمويل وتدريب قوة من 480 رجلاً بقيادة كارلوس كاستيلو أرماس مدعومة بحملة واسعة من الحرب النفسية وتقديم محطة إذاعية تبث دعاية معادية للحكومة، وكذلك القصف الجوي لمدينة غواتيمالا والحصار البحري. ورغم انسحاب أربينز من السلطة، فقد قام الانقلابيون باعتقال وتعذيب وقتل المئات من أنصاره وذلك بمشاركة منظمات يمينية شبه عسكرية تشكلت بتشجيع من الـ (CIA) في الفترة ذاتها، وستشتهر بشكل أوسع لاحقا باسم «فرق الموت» سيئة الصيت مثل منظمة «اليد البيضاء « و«الجيش السري«.. كما أرسلت الولايات المتحدة مستشارين عسكريين من قواتها الخاصة (القبعات الخضر) إلى غواتيمالا لتدريب قوات الانقلابيين، لتتحول غواتيمالا قاعدة لتدريب آلاف الكوبيين المناهضين لكاسترو وايواء مهابط الطائرات التي استخدمت ضد كوبا خلال ما بات يعرف بغزو خليج الخنازير الفاشل عام 1961.