قصة وعد الحياة

 

سليمة مليزي

 

تراودني تساؤلات من كلّ جهة لم أتمكن من الإجابة عنها، تكبس على ذهني كالظّلام المخيف، وتهمس في أذني، تسكن في أعماقي لليالي طويلة، تجرّني إلى مسافة النور، ترسم لي أحلاما بعيدة ، وفي جعبتي أفرغ الأحزان، أسمع عويل صوته يتهادى في أذني، ينسكب في بئر عميق و لكنّه يبقى يراودني و أنا هاربةٌ منه.

لم يبق شيء لم أعرفه، كلّ جدران البيت حفظتها، و رياح الشتاء القاسية أحسّ بقدومها، كلّ أهل القرية ينتظرون الجواب، كيف هاجر أبي؟ لماذا اختفوا إخوتي؟ لا أعرف والدتي، أحسّ بأنّ أذناها غير صاغية لهذه التساؤلات.

الفضيحة، العيّب، العار، كلام النّاس لم يعد يهم، لم تعد قادرة حتى على التفكير فيَّ أنا، ابنتها الوحيدة، الصبر بالنسبة لها أصبح علقما.

 

 

تقتحمني العبرات،أشعر بقلق يذهل أعماقي، لم أعد أطيق البقاء في هذه القرية، رغم معزّتها عندي، لكن ضاع كلّ شيء، ضاع زمن الحبّ، ضاعت الرحمة، ضاعت الكرامة، طريق المدرسة أصبح عقبة بالنسبة لي، لم أتمكّن من صعودها، نظراتهم و الدبّابة التي تخترقها كلّ يوم ، لم أعد أتحمّلها، في كلّ لحظة أحاول قلبَ صفحة الألم، لكنّها تعود مع عودتي إلى البيت و نظرات أمي التي تخنق، أسئلتي تجرفني إلى الوراء، خشية من الصدمة ، تجول في وسط البيت الصغير الذي يكاد ينهار من صمتنا الرّهيب، تقترب من ماكينة الخياطة، تلمسها، تكلمها، و اللوعة تملأ جفونها.

لولا هذه الماكينة لساقت بنا الأقدار إلى الجحيم، نظراتك و قلقك يُحرِقنَ قلبي،لو أنّ العالم كلّه اتهمني فأنت تُنقِذينِي منه، الحقيقة ستظهر في يوم قريب يا عزيزتي، إنّني لا أبحث عن براءتي بقدر ما أبحث عن سعادتكم،إخوتُك لستُ أدري أيَ طريقٍ اتّجَهوا إليه، والدُك الغُربة تأكلُ جفونه، لم تتغيّر عنه الحياة، و الندم يراوده في كلّ ثانية، فسئلوا في لحظة غضب، لماذا لم يصمدوا أمام جدار الظلم؟ تعود إلى صمتها الرهيب.

أحسّ بوجود فرق شاسع بيني و بين أهل قريتي، قررت الذهاب إلى العاصمة للبحث عن إخوتي و التخلص من نظراتهم الساحقة.

أعود إلى المدرسة، الوجوه هي، هي، وشوشتهم تدبّ في أعماقي، الدرس ينفلت عن فكري، أجلس على ذلك المقعد الخشبي الذي يكاد يخاطبني بكلمة أسوء ممّا أحس بها منهم، صديقتي الوحيدة هند تدفع نظراتها من تحت و كأنّها تخشى من مكروه يصيبها ، عندما أنظر إلى عينيها أجد الراحة و الاطمئنان، أجد الأمل المغروس في عينيها اللامعتان،أشعر بإحساس حادّ بأنّها تتعذّب مثلي تكلّمني بصوت خافت.

– عيناك تبتسمان لي دائما، هذا هو الشيء الوحيد الذي أحبّه فيك يا أسماء أبعدي الأوهام عنك، فالحياة لا تجد نظرة مريحة كنظراتك، لا تجد بسمة يافعة كبسمتك، ما لبثت أردّ على كلامها العذب الذي زادّ في قلبي أمان و أمل حتى رنّ جرس الساعة في أذني، حان موعد الخروج خطواتهم تلوا الأخرى، كأنّهم قطيع غنم.

– رحت أمشي وحيدة في شوارع قريتي، أُحدِّقُ في وجوههم التي تعلّق الحرمان بها.

و أعود أنتظر الأيام و أعدّ الثواني و الدقائق لأصل إلى فترة الصغر إلى المدينة، قيل بأنّها عالم آخر و لهذا إخوتي اختاروا البقاء فيها ،لعلّهم ارتاحوا من عناء التسكّع و الكلام الذي يحرق القلب.

جلست أحملق تحت الجرة، ألقي بنظري بعيدا إلى ما وراء النهر الذي يقسم القرية و الجبل و أستعيد نظري إلى ما يحيط من حولي، تغمرني كآبة خرساء، أتساءل؟

– ما الذي سيحلّ بأوراق الربيع الخضراء التي توشك أن تودع هذا الفصل الجميل البريء و تستقبل حرارة الصيف القاسية التي ستسدل ستارها على هذه الزهور.

كما أنّني أخشى أن أواجه ذلك العالم الغريب وكيف أعيش في ذلك المحيط ؟

– آه ، لقد تذكّرت وسمعت يوما والدتي تتكلّم مع خالي بأنّ العجوز يامنة التي تقطن بالعاصمة صحتها متدهورة بعض الشيء، فمن تكون هته العجوز يا ترى؟

الحلّ الوحيد هو اللجوء إليها.

– من تكون العجوز يامنة يا أمي ؟ هل هي من أقاربك؟

– إنّها في مكان والدتي ، (( ماما يامنة)) زوجة أبي.

إنّني أتساءل دائما، لماذا أمي يغمرها نوع من الندم و الحسرة كلّما تحدّثت معها عن الماضي؟ إنّها تخفي في كيانها سر و هذا السر هو الذي ترك أعصابي تتدهور و تنفلت كلّما سمعت تلك الإشاعات، و في كلّ يوم يزداد شعور مرهف و أحس مدى قسوة الحياة عليها و ما تزال تنتظر منها المزيد من الأسى و الحزن.

و مرّت الأزمنة القصير، الأزمنة التي تأخذ من العمر أعزّ شبابنا و تغرقنا في كهفها الغريب في أحضانها الشائكة، الأزمنة التي توقفنا أمام جدارها الرهيب لنواجهه بعنف، لنتخبط مع العاصفة الهوجاء، القوي يأكل الضعيف

– و أنا في طريقي إلى العاصمة أمعّن النظر إلى البعيد، يلفت انتباهي شيء أبيض يقترب شيئا فشيئا، كلّما اقترب تزداد دهشتي ،ما هو هذا الشيء الأبيض؟ عمارات، بنايات ،شيء مدهش حقّا، النّاس تجري وراء الزّمن ، يصرخون في وجه القدر، لأنّهم يجهلون حقيقة الواقع المرير، كلّ ألوان الحياة تحتل أعماقي حتى أسوارها أريد علوها، طموح لا مثيل له في الوجود، أسأل البعض منهم ليدلّني على العنوان؟

يسحقني بنظراته المخيفة و كأنّه شبح يخاف من ظلِّهِ، أتقاسم شوارع العاصمة يمينا و شمالا و أبحث في جوّ مخيف على دربي الضائع.

الوجوه أمامي أمست صامتة و الحياة سراب ! و يصم الكون أذناي بنغم لا لون له و لا حس، شعرت بدوران في ذهني، أحسست بأعصابي تنفجر و أنا أعبر الشارع المذبذب بالسيارات، أصحابها يقودونها دون وعي، و فجأة شعرت بضربة قاسية تخرق جسمي صرخت صرخة عالية؟

– و أنا أحاول أن أفتح عيناي بصعوبة، أشعر بثقل كبير على كتفي ،أحدق حولي، ألمح أشباحا بيضاء لا تزال تراودني.

أين أنا و من تكونوا ؟ ابتعدوا عني، أين أمي، أريد أمي و أشعر بألم يقطع أحشائي كلّما حاولت التحرّك.

آه ، رأسي ، كتفي . آه رجلي ،أشعر أنّها تنفلت.

أسمع أصوات خافتة.

– إنّها تتكلّم

– أمسكوا بها ،لا تتركوها تتحرّك

إنّك في المستشفى ، لا تخافي نحن معك هدئي من روعك.

– كيف تهدأ الأعصاب و الإنسان أصبح لا يعرف نهايته من بدايته.

إنّني كلّ ما أنتظره هو أن يكتب لي وعد آخر في هذه الحياة، قبل أن أبدأ من جديد و لكن أين هذه الوعود؟ يعدني إلا بالأسى و الحزن.

تقودنا إلى طريق كلّه ضباب داكن على سمائنا الزرقاء المنتظرة، لا مفر من القدر، كلمة تردّدها كلّ الألسنة من كثرة الحرمان.

– أسئلة سخيفة توّجه لي من تكون أنت؟ اسمك، عنوانك، سنك ؟

ما دمت على هذه الحالة فأنا ليس لي عنوان لأنّني منذ زمان و أنا أبحث عن الراحة و الاطمئنان عن حقيقة دربي.

 

– السكوت يخيّم على المستشفى ، رداء الظلام أسدل ستاره على النور.

النّاس كلّهم في نوم عميق، أسمع خطوات خافتة تقترب نحو الغرفة، و كأنّه يسرق من الزمن وقته الثمين، عيناي حدقت في الباب و هو يُفتح بهدوء مرهب، كدت أصرخ لكنّني تفاجأت بصمت يجتاحني، همسات مندفعة مع رنين الباب

– لا تخشي شيئا أنا طبيبك الذي يعتني بك، أريد أن أكلمك في أمر مهم!

نفس الأسئلة، و نفس الكلام، يريدني أن أروي له قصة حياتي! أنا الفتاة التي عاشت ثلاثة عشر سنة بدون استقرار، منذ ذلك الوقت و أنا أبحث عن حقيقة حياتي، كلّما كبرت، كبُرَت نارٌ بداخلي تكويني، كلّما حاولت إفراغ نبرات الحزن تزيدني تعسفا.

إخوتي، أحمد و شريف هاجروا من القرية إلى المدينة منذ ثلاثة عشر سنة، هربوا من الفقر و الحرمان ، يقاطعني بلهفة ،لمحت وجهه الشاحب و هو يعود إلى الوراء ، يستعيد ذكريات الماضي.

– إذن أنت أسماء ، الفتاة البريئة الجميلة ،أختي ،هكذا كان إحساسي عندما فوجئت باسمك و اسم القرية التي كانت تجمعني منذ ثلاثة عشر سنة بك ،أنا أحمد يا أسماء، أخوك.

لم تزعزع كياني هذه الكلمات، بل زادتني غبطة و ألم في قلبي، لأنّني لم أكن أتصوّر بأنّه أخي، آه يا أيتها الآلام التي تقطع جسمي و قلبي معا ، جئتك بقدمي الحافية و عيناي الدامعتان و قلبي المجروح من معاناة الحياة المريرة التي واجهناها بعنف، إنّني لا أبحث عنك يا أخي العزيز ، لقد وقعت صخرة باردة على آثار قدميك المرتسمتين على دروب القرية ، كلّ شيء يهون حتى أنا أهون عليكم و على نفسي أيضا، صورة واحدة فقط تألم عيناي كلّما نظرت إليها تحرق جوانحي من الظلام المخيم عليها، لعلّك تعرفها من تكون جئت أبحث عن براءتها، يقاطعني مرّة أخرى و هو يكاد ينفجر في وجه القدر.

– أرجوك لا تترك الجرح مرتين فالجرح الأول أردّت أن أنساه بالصغر و البعد عن ما تسبب فيه ، لا شيء يؤلم سكوني إلى أمي العزيزة، أردّت أن أعود لها و رأسي مرفوع، أردّت أن أجدد لها الحياة، كافحت لأفرض وجودي في تلك القرية و أنا قوي و أنا غني بالعلم لا بالمال فقط، لأنّنا كنّا زمان تسير خطاه إلا بالمادة الفقر هو الذي تركنا نترد و نبحث على طريق كلّه ثقة و أمان و علم و نور.

سأعود إليها يا أسماء براءة أمي في يدي أنا و شريف، لم تبق إلا أيام قليلة و أستقر في القرية، المستشفى كلّه سيكون تحت رعايتي و سأضع قنبلة حامية في أفواههم.

كانت الأضواء الباهتة تحوم حولي بألم لأنّني كنت أعرف الحقيقة، كما كنت ضعيفا جهدا و مالا، حاولت مرارا أن أضمد الجرح بالنسيان، لكن لم أكن أسير وحدتي، كانت ذكرياتي تخطو كلّ الدروب التي أقطعها، لقد أصبحت إنسان يقتله ما فيه بقسوة مريرة.

– أمي يا أسماء عانت كثيرا من أجلنا، عندما كنا صغيرين، كانت كلّ صباح تذهب إلى المزارع لتلتقط لنا لقمة المساء، و في الليل لا تنام تفكر في الغد كيف تتحصل على خبز تقوتنا به و هكذا تمرّ الأيام ، تمرّ الأحزان و هي من مزرعة إلى أخرى من بيت إلى آخر، و أخيرا بعد هذا اللقاء اتهموها بأنّها امرأة غير شريفة، كانوا يريدون تحطيمها و تحطيم جمالها، أبي سافر و تركها لا تزال في ريعان شبابها و لم ترضخ للزمن، بل واجهته بإعصاره و عذابه و قسوته و لم تتركنا نضيع في متاهات الفقر ، هذه هي الحقيقة يا أسماء سنحملها و نذهب إليها.

– لم أكن أدري بأنّك الجائع ، لقد اكتشفت القدرة العالية و الاعتزاز بالنفس و الحبّ الذي يسكن قلبك و يمدّني به ، كلامك مسح كلّ الأحزان التي عاشت في كياني و الذي خلق مني إنسانة أخرى و جعلني أتشبث بالأمل و أحبّ الحياة و هبَّ النسيم و هبّ معه الهناء و أزهار الحبّ و أشرقت الشمس على قريتي و حملنا راية الحق و البراءة لوالدتي و أهل القرية نزعنا من قلوبهم كلمة العيب و العار و زرعنا في ذهنهم العلم و حبّ الوطن و العمل الجاد و ابتسموا جميعا للحياة ،و واصلنا طريق الكفاح في ظلّ الحبّ و الرفاهية.

الجزائر في 04 فيفري 1983

 

قد يعجبك ايضا