الإيزيدية أقدم الديانات التوحيدية الشرقية

 

 

نبيل عبد الأمير الربيعي

الإشكالية الكبرى والمعضلة الحقيقية التي حَلّت بأبناء الديانة الإيزيدية هو حجم التشويه الذي تعرضوا لهُ في بلاد الرافدين، من خلال حجم الصراعات الدولية والإقليمية وحتى المحلية ذات الأبعاد العرقية والإثنية والطائفية التي سخرَّت لنيل مآرب اصحابها ومصالحهم ومطامعهم في المنطقة، من خلال مختلف العصور المتعاقبة على بلاد الرافدين وآخرها ما تعرضوا لهُ من عناصر ما يسمى بتنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش)، من قتل وسبي واغتصاب وانتهاك للأعراض وتدمير مناطق سكناهم منتصف عام 2016م.

 

 

لو سلطنا الضوء على معتقدات المكون الإيزيدي لوجدنا أنهم لا يقدسون بشراً ولا ابليس بل يعبدون الله الواحد الأحد بطريقة مغايرة، ولا يرغبون التخلي عن عقائدهم، ويحترمون الديانات الأخرى. أما تسميتهم بـ(الإيزيديين) فتعني من خلقني وليس يزيدي نسبة إلى يزيد بن معاوية، وهي تسمية مضللة ألصقت بهم لتشويه هويتهم وحقيقة معتقداتهم، وكان لسوء الفهم المترسب في وعي الناس عن هذا المكون المغلق على نفسه. والإيزيدية موحدين لله كسائر الديانات التوحيدية في العالم، وهم يعتقدون إن الله سبحانهُ وتعالى قد خلق العالم من العدم، وخلق الملائكة والكون والبشر. ويعتقدون من خلال ديانتهم بتناسخ الأرواح وانتقالها بين الأجيال، وهي ديانة غير تبشيرية كالمسيحية والإسلامية؛ فأنها ديانة مغلقة. وفيما يتعلق بطقوسهم الدينية، فلديهم الصلاة والصوم والأدعية والحج إلى ضريح الشيخ عدي بن مسافر الهكاري في معبد لالش، والتطهير والختان، ويوم العبادة عندهم هو يوم الأربعاء الذي يستوجب فيه التعطيل عن الاشغال. والإيزيديون كغيرهم لهم مراكز تواجد بعضها قرب مزاراتهم المقدسة؛ في سنجار والشيخان وبعض قرى نواحي تلكيف وبعشيقة وزاخو في محافظة دهوك. مع كل هذا الإيمان بالله فقد اتهموا بالكفر والزندقة وعبدة الشيطان التي اطلقها عليهم وزير العراقي العثماني سليمان باشا، فاستبيحت دمائهم.

وردت كلمة (يزدان) بمعنى الخالق العظيم في نصوص الإيزيدية المقدسة، وقد جاءت في إحدى النصوص (خودانىَ ئاخرةتىَ حاسلىَ مرازا منىَ، يزدانىَ منويىَ بتنىَ)، أي بمعنى (أن يزدان هو صاحب الدنيا والآخرة، وهو يلبي رغباتي وامنياتي، وهو إلهي الوحيد). والديانة الإيزيدية ديانة غير تبشيرية، وديانتهم على الأتفاق حول المبادئ الدينية الأولية محفوظة في صدور رجال الدين، واعتمدوا ولقرون طويلة على توارث الطقوس والتقاليد من جيل إلى جيل من دون أن يتم تدوينها، كما أنها تمتلك أجوبة كاملة حول مفهوم الحياة والخير والشر

 

 

بل نالوا من الحكومات المتعاقبة؛ منذُ الاحتلال العثماني ومن ثم البريطاني من تشويه اسم الإيزيدية وانتماءهم العرقي، وجوهر عقيدتهم، وموروثهم الاجتماعي والثقافي والديني، واستمر ذلك على مدى قرون طويلة، وحتى فترة قريبة من الآن. لقد طال هذا التشويه وساهم به بعض الكُتّاب والمؤرخين، لسرية عقيدتهم وانغلاقهم على الأجانب والغرباء وفقدان الثقة، لخوفهم من الحروب والمجازر التي تعرضوا لها، وعدم تمكنهم من التعبير عن مكنوناتهم بسبب جهلهم في العصور السابقة بالقراءة والكتابة المحرمة عليهم دينياً، أما اليوم فقد تصدى لذلك من ابنائهم ممن نالوا الشهادات والدراسات العليا وتعلموا في المدارس الحديثة.

 

وقد تناول تأريخهم بعض الكُتّاب غير الملمين بأحوالهم ومعتقداتهم معتمدين على الحكايات والمرويات من القصص التي تتحدث عنهم، والتي لا تخلو من الدَسّ لأسباب معروفة للجميع، كما أن أبناء الإيزيدية أنفسهم تأخروا كثيراً لتوضيح حقيقتهم؛ دينياً وعرقياً وثقافياً، وما انبروا في كتابته تركز على جوهر العقيدة الإيزيدية، والرد على بعض الاشكاليات التي طالت ديانتهم وكتبهم المقدسة، ومجدد ديانتهم الشيخ عبدي بن مسافر الهكاري، وأنهم ديانة سماوية قائمة بذاتها مثلها مثل اليهودية والمسيحية والإسلامية، وأنهم ليسوا فرقة إسلامية مرقت عن الديانة والتي بسببها عدوا مرتدين عن الإسلام ولاقوا صنوف العذاب والإبادة والقتل والتهجير على يد الكثير من الحكام المسلمين في أيام الدولة العثمانية بسبب فتاوى بعض رجال الدين المسلمين.

 

أما المؤرخين العراقيين فكانوا السباقين في هذا التشويه أمثال: السيد عبد الرزاق الحسني والأستاذ صديق الدملوجي والأستاذ سعيد الديوه جي والأستاذ عباس العزاوي والدكتور سامي سعيد الأحمد، الذين افردوا كتباً خاصة حول الإيزيدية وعقيدتهم وعاداتهم وتقاليدهم، بالرغم من أن بعضهم كان على تماس وتعايش مباشر معهم وعن قرب، وربما يمكن السبب إلى انغلاق الإيزيدية وجهل غالبية رجال دينها بالإجابة عن اسئلة الباحثين الحرجة وقتذاك، فضلاً عن ملازمة الخوف لهم والذي لا زال يلازمهم حتى يومنا هذا؛ لعدم تخلصهم من صور عذابات ومآسي فرمانات العثمانيين وحملاتهم التي كانت تجلب القتل والدمار إلى جميع مناطق سكناهم، وقيام رجال الدين الإيزيدي بالاجابات التي ترضي فضول السائلين عنهم، مما دفع الإيزيديون ثمناً باهضاً جداً من خلال عشرات الألوف من القتلى ومئات الألوف من المهجّرين قسرياً إلى مناطق مختلفة من العالم، أو التحول قسرياً إلى الدين الإسلامي، عدا الأتاوات وتدمير القرى والبلدان.

 

لقد تعرض اتباع الديانة الإيزيدية في العراق إلى ما يقارب (73) حملة عسكرية من قبل المسلمين، مما اسفرت عن عمليات قتل الأفراد وسبي النساء، ومحاولة القيام بعملية تطهير عرقي عبر عمليات القتل الجماعي والقضاء على إدامة النسل.

 

لم ينصف الإيزيديون إلا على يد قلّة من الباحثين أمثال الدكتور كاظم حبيب والدكتور خليل جندي والباحث زهير كاظم عبود والأستاذ خدر سليمان والباحث عدنان فرحان زيان وآخرين، الذين قدموا دراسات ومحاولات جادة حول بعض الاشكاليات التي لم يتم الحسم فيها أو في كليتها حول العقيدة الإيزيدية وجوانب أخرى من حياتهم وتقاليدهم الاجتماعية.

 

كما انصف أبناء الديانة الإيزيدية بعد تعرضهم من قبل عناصر تنظيم داعش الإرهابي عام 2016م في مجال القصة والرواية، بعد ما شهدت الأقليات في محافظة الموصل الاضطهاد والقتل والتهجير، إذ عانت الإيزيدية من موجة الإبادة الجماعية، حيث اقترنت قضيتهم بسبي النساء وبيعهن، الأمر الذي جعلها قضية تأخذ بعداً عالمياً، فلم يقف الأدب صامتاً أزاء ما حصل لهذا المكون العراقي، إذ استجابت النصوص الأدبية لهذا الحدث ونقلته بتفاصيله الدقيقة، حيث وصلت تلك الروايات إلى أكثر من سبع روايات افتتحها الروائي علي بدر وسنان انطوان في مدة ثمان سنوات، فأسست لأدب القضية الإيزيدية، وجعلت مفهوم الهوية ذات بعد ديني عرقي، ثم ابتدأت د. وفاء عبد الرزاق بروايتها (رقصة الجديلة والنهر) 2015م، ووارد بدر سالم برواية (عذراء سنجار) 2016م، وعامر حميو برواية (بهار) 2016م، وراسم قاسم برواية (شمدين) 2017م، ونوزت شمدين برواية (شظايا فيروز) 2017م، وعبد الرضا صالح محمد برواية (سبايا دولة الخرافة) 2016م، ونزار عبد الستار برواية (يوليانا) 2016م، وغادة صديق رسول برواية (مراثي المدينة القديمة) 2018م، ومن الروايات العربية التي كتبت عن القضية؛ رواية سليم بركات (سبايا سنجار) 2016م، ورواية زهراء عبد الله (على مائدة داعش) 2016م، ورواية سمير فرحات (بنات خودا) 2017م، ورواية إبراهيم اليوسف (شنكالنامة) 2018م، ورواية دنيا ميخائيل (في سوق السبايا). فضلاً عن ديوان شعر كتب باللغة الإيزيدية الكرمانجية، وترجمها للعربية الأستاذ عيدان برير.

 

نحنُ اليوم بحاجة للتوقف عند جدلية الصراع بين الثقافة والدين، وسيادة احتكار الدين الإسلامي لمعظم المرافق الحياتية والصراع بين الثقافة الحديثة والتقليدية. نحنُ بحاجة إلى تجديد الدين ليسمو بالإنسان ويحفظ كرامته ويقرّب البشر بعضهم من البعض. نحن بحاجة إلى التنوع الثقافي وليست سيادة ثقافة واحدة. نحن بحاجة إلى خلق مساحات من الحوار لخلق ذهنية صحيحة عن الآخر ومحاولة تصحيحها من قبل بعض المسلمين، فضلاً عن المصالحة مع الذات ومع الآخر المختلف لبناء السلم المجتمعي.

 

 

لقد اشتهرت الإيزيدية بهذا الاسم كونها أتت من تسمية يزدان، وهي تطلق عندهم على الله تعالى، وتفسيرها هو الخالق الرزاق، حيث لا يزال الإيزيديون يفتحون صلواتهم وادعيتهم بعبارة (بناڤێ يه‌زدانێ ودلۆڤانێ)، أي بأسم الله العلي الكريم. وذكرهم المؤرخ الكردي شرفخان البدليسي في كتابه (الشرفنامة) بـ(الإيزيدية واليزدانية)، وكشفت لنا مقولاته بأن هذه التسمية يعود تاريخها إلى ما قبل الإسلام إلى كردستان، وإلى كونهم يعبدون (أيزدان) وينتسبون إليه.

 

والديانة الإيزيدية ديانة قديمة، وهي من بين أقدم الديانات الشرقية، وبالرغم من غموض تاريخها وزمن ظهورها، إلا أننا نستطيع القول أنها من الديانات التي ظهرت قبل الميلاد بمئات من السنين. كما ذكر المؤرخ اليوناني زينفون في كتابه (رحلة عشرة الآلاف- اناباسيس)، أنه كان هناك في حدود عام 401 ق.م ثمة طائفة تستقر قرب مدينة نينوى تدعى (بيزيدي) وكان لهم شهرة بارزة في القتال، وكذلك جرت الإشارة إلى تسمية بارتاسى كتعريف بالإيزيدية الذين اعتبرهم هيرودوت إحدى الجماعات الميدية القوية التي شاركت مع بقية القبائل الميدية في السيطرة على نينوى عام 612 ق.م، والواضح أن المقصود بـ(بارتاسى) هو الداسانية أي الإيزيدية، حيث يطلق عليهم أيضاً تسمية الداسنية وخاصة في المصادر السريانية.

 

واليوم الآخر والقيامة بالنسبة للديانة الإيزيدية تختلف عن الأديان الأخرى في تفسيرها، إذ يؤمن الإيزيديون بأن اليوم الآخر يسبق يوم القيامة، وتجري فيه محاسبة الروح بعد خروجها من الجسد بغية أختيار جسد آخر مناسب لها، ويتوقف هذا الأختيار على الأفعال الحسنة والسيئة للروح، فإذا كانت الحسنات منها أكبر تدخل الروح إلى الأجسام الطاهرة والطيبة، أما إذا كان العكس فتدخل الروح إلى اجسام مكروهه لتتعذب، وهكذا تنتقل الروح بين الأجساد إلى يوم المحاسبة النهائية للروح، وهو الذي يسمى في الإيزيدية بيوم القيامة، إذ لا تعود الروح إلى الأرض ثانية، حيث نهاية الكون وعالمنا هذا.

 

فقد وردت كلمة (يزدان) بمعنى الخالق العظيم في نصوص الإيزيدية المقدسة، وقد جاءت في إحدى النصوص (خودانىَ ئاخرةتىَ حاسلىَ مرازا منىَ، يزدانىَ منويىَ بتنىَ)، أي بمعنى (أن يزدان هو صاحب الدنيا والآخرة، وهو يلبي رغباتي وامنياتي، وهو إلهي الوحيد). والديانة الإيزيدية ديانة غير تبشيرية، وديانتهم على الأتفاق حول المبادئ الدينية الأولية محفوظة في صدور رجال الدين، واعتمدوا ولقرون طويلة على توارث الطقوس والتقاليد من جيل إلى جيل من دون أن يتم تدوينها، كما أنها تمتلك أجوبة كاملة حول مفهوم الحياة والخير والشر، وأجوبة حول معاناة الفرد، والموت وتناسخ الأرواح، وبمقارنتها مع الأديان الأخرى فأن الديانة الإيزيدية لا تسعى إلى السلطة أو شن الحروب على الآخرين باسم الدين، وكل ذلك نابع من صلب عقيدتهم الدينية.

 

وحقيقة التوحيد في الديانة الإيزيدية واضحة من خلال نصوصهم وأدعيتهم الدينية، حيث يتقربون إلى الله مباشرة، وهم يعتقدون بأن الله موجود في كل شيء وفي كل مكان. وأثناء الفتوحات الإسلامية، بدأت ايديولوجيات الديانة القديمة بالاضمحلال، فاضطر معتنقي تلك الديانات ومنهم الإيزيدية إلى خوض الكفاح المرير، ومقاومة ظهور بعض العقائد، ولولا ظهور بعض القادة والمصلحين أمثال الشيخ عدي بن مسافر الهكاري الذي قام بتنظيم الإيزيدية وفق أسس حديثة، وبمجيئه إلى معبد لا لش، ومكوثه بين الإيزيديين، دخلت الإيزيدية منعطفاً تاريخياً حاسماً، ومرحلة جديدة من مراحل تطورها، وتعتبر الحد الفاصل بين الإيزيدية القديمة والإيزيدية الجديدة.

 

ومن عقائد الديانة الإيزيدية نظرتهم إلى نشوء الكون والطبيعة والملائكة وآدم وحواء والبشرية جمعاء، وتقر الديانة بأن الله قد خلق في البداية درة نورانية من ذاته، وشاء الله أن يدخل الروح من ذاته إلى هذه الدرة الجامدة، إلا أنها لم تتمكن من تحمل هذه الروح الإلهية فأرتعشت من هيبة الله وانفجرت وتكونت منه سبع طبقات من السماء مزينة بالسدائم والمجرات والأجرام السماوية، ومن ثم زين الأرض بالنباتات والأشجار، وتم كل ذلك بدءاً من الجمعة ومنتهياً في الأربعاء، ولهذا فأن يوم الأربعاء له قدسية خاصة عند الإيزيديين، ويقع فيه عيد رأس السنة الإيزيدية، وهي من أكبر أعيادهم المرتبطة بالطبيعة وتكوين الخليقة، ومن مراسيمه الرئيسية احضار وسلق البيض (تشبيهاً بالدرة الإلهية)، وتلوينها بمختلف الألوان عن طريق الأعشاب الطبيعية “كدليل على دخول الروح إلى الدرة ومن ثم أنفجارها ونشوء الحياة على الأرض”.

 

وبحسب النصوص الدينية الإيزيدية خلق الله بعد تسعين ألف سنة سبعة ملائكة من نوره خلال سبعة أيام، حيث خلق في كل يوم ملاك واحد، وهم أزليون ومتواجدون دائماً في حضرة الله، ويعملون تحت أمرته، وهم المسؤولون عن تبليغ الرسائل الإلهية إلى البشر، كما أن الله قد أوصاهم بأن لا يسجدوا إلا لهُ، لأنهم من ذاته، لكن عندما خلق آدم قال للملائكة: أسجدوا لجسد آدم حتى تأتيه الروح، سجدوا ستة ملائكة إلا عزازيل (طاووس ملك) لم يسجد، وقال: ألم توصينا بعدم السجود لغيرك يا رب؟؟ فقال له الله سبحانه وتعالى: أنكَ طاووس الملائكة يا عزازيل، وتكريماً له جعله رئيساً للملائكة لفوزه في أختباره المصيري تجاه واجبه المطلق في الطاعة والتقديس والتوحيد، ولهذا يعتبر الإيزيديون بأن طاووس ملك هو أول من جسد وحدانية الله ولم ينسى وصية ربه.. وبعد تركه لآدم دون روح سبعمائة سنة اجتمع الملائكة مع ربهم حول هيئته في إحدى أيام الأربعاء، فجلب الله تعالى كأساً من ماء الحياة لآدم، فشرب منه وأصبح بشراً، ثم قام الملائكة ورئيسهم طاووس ملك بأدخال آدم إلى الجنة بأمر من الله الذي أباح له أن يأكل من كل الثمار الموجود فيها عدا الحنطة، ومكث آدم فيها مدة طويلة، ثم جاء طاووس ملك إلى ربه سائلاً: كيف يكثر النسل البشري وآدم في الجنة لا يأكل من الحنطة؟ فقال له الرب: لك التدبير، فذهب إلى آدم وأرشده بأن يأكل من الحنطة، فأكل ثم أخرجه من الجنة لكي لا يدنسها، وبعد ذلك خلق الله حواء من أبط آدم وأمرها بالتزاوج، وتم ذلك وتكاثر البشر من نسلهما.

 

أما ما يخص الخير والشر في فلسفة الديانة الإيزيدية، فلا ترسم خطاً فاصلاً بين النقائض في الطبيعة والحياة والموت والخير والشر والليل والنهار، كل واحد مكمل للآخر، وأية ظاهرة من هذه الظواهر لا تستطيع العيش بمعزل عن نقيضها، فهي تستمد ضرورة بقائها من هذا النقيض، لذلك فكل ظاهرة طبيعية وكل طرف من هذه الثنائية إله، وهذه الآلهة كلها جزء من الإله الكبير وهو الله. لذا فأن الخير والشر في الديانة الإيزيدية مصدرهما واحد وكليهما في ذات الله، وما على الإنسان إلا الاستجابة لنداء الضمير والأخلاق والنفس باعتبارهم المسؤولون عن الأفعال، أما الجانب الآخر من ذلك فهو العقل البشري الذي يميز بين الخير والشر ويختار الصالح أو الطالح. وهنا يبرز دور الإنسان وعقله في الديانة الإيزيدية، حيث اعطته الحرية الكاملة في الاختيار بين الخير والشر وبين النور والظلام وبين الصالح والطالح. والإنسان في الديانة الإيزيدية دائماً في حالة الصيرورة والحركة، فالموت والحياة مكملان البعض بتعاقبهما الدائري المستمر، ومحرك الروح هو الرغبة الكامنة في كل اعمالها وفعالياتها، وهي تسيطر على الخواص الأخرى.

 

والديانة الإيزيدية لها اتصال مباشر مع الله لعدم وجود نبي أو رسول من الله ليهديه إلى الطريق الصحيح، فأن مسؤولية الفرد الإيزيدي في الحياة كبيرة وهذه سببت له هموماً وأعباء إضافية، فالروح البشرية تنبع من بذرة إلهية، لكنها تدخل جسداً بشرياً، وأن هذا الجسد البشري هو أساس الإنحراف إلى السوء إن لم يتحكم بها العقل المنير، ويجب على الإنسان أن يكون صبوراً كي يصل إلى شعاع الحقيقية، فالفرد الإيزيدي مخير في اعماله الخيرة أو الشريرة. ويعتقد الإيزيديون بأن الله في كثير من الحالات يعاقب الإنسان على أفعاله الشريرة في حياته وترتبط حالة الأمراض عند الإيزيدية بفلسفة ديانتهم على اعتبار المرض نتيجة عقاب الإنسان بسبب سوء أعماله وعلاقته الرديئة مع الله.

 

ويعتقد الإيزيدية بأن الموت هي حالة لا بد منها، وهي التجربة الأولى من الحياة، وأمراً طبيعياً محتوماً، ولا اعتراض على حكم الله. وقد شغل الموت فكر الإنسان الإيزيدي منذُ القِدم، ويحدثنا الأدب الشفاهي الإيزيدي عن اسطورة (مير مح)، ذلك الأمير الذي حاول بجهود مضنية البحث عن الخلود أو الوصول إلى مكان لا يلاحقه شبح الموت، إلا أنها تشبه ملحمة كلكامش البابلية، وتبين من خلالها الصراع بين الموت والحياة ومحاولة الإنسان للتعرف على ماهية الموت. إلا أنه في النهاية بأن الموت حقيقة وهو المصير المحتوم للإنسان.

 

أما فكرة الحلول في الميثولوجيا الإيزيدية فتقوم على أساس أن كل إنسان يحمل جزءاً من ذات رئيس الملائكة (طاووس ملك)، الذي خلقه الله من نوره أو من ذاته، وهذه الفكرة مبنية على اساس ما كان كله مقدساً تصبح اجزاءهُ الصغيرة مقدسة أيضاً في حالة التقسيم، ولعظمة هذا الملاك في المعتقد الإيزيدي ترى الديانة الإيزيدية بأن الإنسان يولد وكيانه يحوي شيء من قدسية طاووس ملك، وبالتالي جزءاً من الله، ولكن ليس بدرجة طاووس ملك، لأنهُ هو المنبع الذي يستمد منهُ قوتهُ الإضافية بسبب ارتباطه المباشر معهُ، وهذه المعرفة تجري بوعي، فالمصدر واحد لكن شريان الامتداد ودرجة الأخذ والعطاء تختلف من فرد إلى آخر، وهنا يتحكم العقل.

 

أما بالنسبة للروح وفق فلسفة الديانة الإيزيدية، فالجسد يتضمن في كينونته المادة والحياة والروح والعقل حال وجوده على وجه الأرض، وبواسطة تواجد الجزء الإلهي فيه يحاول الجسد تطوير الروح إلى الأحسن، وهكذا تنتقل الروح ثانية بعد موت الجسد إلى جسد ثاني وثالث إلى أن تتنقى وتعود إلى مصدرها الأول أو الروح الأزلية، كما أن الحلقة الدائرية لفكرة طاووس ملك هي نفس الحلقة الدائرية لحياة الإنسان بموجب فكرة تناسخ الأرواح، فالروح تتعاقب بالعودة إلى الأرض مرة وأخرى إلى أن تستكمل صفائها بالتجربة الذاتية لتواجه الله بنقاء تام في يوم القيامة.

 

واليوم الآخر والقيامة بالنسبة للديانة الإيزيدية تختلف عن الأديان الأخرى في تفسيرها، إذ يؤمن الإيزيديون بأن اليوم الآخر يسبق يوم القيامة، وتجري فيه محاسبة الروح بعد خروجها من الجسد بغية أختيار جسد آخر مناسب لها، ويتوقف هذا الأختيار على الأفعال الحسنة والسيئة للروح، فإذا كانت الحسنات منها أكبر تدخل الروح إلى الأجسام الطاهرة والطيبة، أما إذا كان العكس فتدخل الروح إلى اجسام مكروهه لتتعذب، وهكذا تنتقل الروح بين الأجساد إلى يوم المحاسبة النهائية للروح، وهو الذي يسمى في الإيزيدية بيوم القيامة، إذ لا تعود الروح إلى الأرض ثانية، حيث نهاية الكون وعالمنا هذا. والعلاقة بين الروح والجسد بسبب حسناتها وخطاياها تخضع لقانون الفعل ورد الفعل، الثواب والعقاب. فالروح ضيف مؤقت على وجه الأرض وهي أرقى وأقدس شيء في الجسد، والروح عندما تفارق الجسد ستدخل جسداً آخراً وهكذا تتكرر العملية إلى أن تصل مرحلة السمو.

 

المصادر:

1- شرفخان البدليسي، الشرفنامة في تاريخ الدول والإمارات الكردية، ترجمة: ملا جميل بندي روزبياني، بغداد، 1953، ص147.

2- خليل جندي، نحو معرفة حقيقة الديانة الإيزيدية، اينبيك، 1992.

3- عدنان زيان فرحان، الكرد الإيزيديون في أقليم كوردستان العراق، السليمانية، 2004، ص15.

4- أرشد حمد محو، الإنسان في فلسفة الديانة الإيزيدية، دراسة مشاركة في أعمال المؤتمر الفلسفي الحادي عشر المنعقد بتاريخ 6/7 تشرين الأول 2012 لقسم الدراسات الفلسفية في بيت الحكمة، بغداد، ط1، 2013، ص117.

5- أرشد حمد محو، الإيزيديون في كتب الرحالة البريطانيين من مطلع القرن التاسع عشر إلى نهاية الحرب العالمية الأولى، دهوك، 2012، ص94/97.

6- زينفون، الصعود، ترجمة، يعقوب افرام منصور، مجلة المورد، المجلد الرابع، العدد: 2، بغداد، 1975، ص91.

7- عز الدين سليم باقسري، مه ركه الإيزيدية الأصل المفاهيم التسمية الطقوس والمراسيم والنصوص الدينية، من منشورات مركز لالش الثقافي والاجتماعي، دهوك سلسلة (1)، 2003، ص22.

8- هوشنك بروكا، دراسات في ميثيولوجيا الديانة الإيزيدية، المانيا، 1995، ص38/39.

10- شكري رشيد خيرافاي، فلفسة الموت في بعض المعتقدات والديان، مجلة لالش، العدد: 28، دهوك، 2008، ص112.

قد يعجبك ايضا