من سياسة الخطوة فخطوة إلى حرب الخطوة فخطوة

 

 

 

 

آزاد أحمد علي

اتسمت الدبلوماسية الأميركية بقيادة هنري كيسنجر (1923 – 2023) في سبعينات القرن العشرين بالواقعية وسياسة الخطوة فخطوة لتحقيق الأهداف الأميركية وكذلك الإسرائيلية، فقد تحققت عبرها لإسرائيل مكاسب كبيرة في المجالات العسكرية والاستيطان والعلمية والاقتصادية.

 

برز نهج كيسنجر وتبلور في سياق مفاوضات إنهاء الحرب في فيتنام وانسحاب القوات الأميركية منها، ومهدت لتفوق الغرب على المعسكر الاشتراكي في الثمانينات من القرن العشرين. ثم أنجزت الدبلوماسية الأميركية بقيادة كيسنجر نقلة نوعية في مفاوضات وقف إطلاق النار في الشرق الأوسط بين مصر وسوريا من جهة وإسرائيل من جهة أخرى بعد حرب أكتوبر 1973.

 

وعلى الرغم من زياراته المكوكية وثقافته الاستشراقية المتعلقة بتاريخ المنطقة وطبيعة مجتمعاتها، الا أنه لم يوفق في تحقيق السلام الدائم بين إسرائيل وجيرانها، وإن مهد وأسس لمرتكزاتها. حتى أبرمت على شكل صلح ثنائي مصري – إسرائيلي. وعلى الرغم من توقيع اتفاقية أوسلو بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل لاحقاً، إلا ان السلام في الشرق الأوسط ظل مستعصياً، كاستمرارية لتطور الصراع وحلقاتها منذ الحرب العالمية الأولى.

 

اذ لم تتوقف الحروب منذ التوقيع على معاهدة السلام في الضاحية الباريسية سيفر سنة 1920، التي أنهت عملياً الحرب العالمية الأولى، وأقرت بمنح شعوب المنطقة حقوقها في تقرير المصير السياسي. ومع كل ذلك بات السلام صعب التحقيق على حد تعبير ديفيد فرونكومين في كتابه (سلام ما بعده سلام).

 

في السنوات الأخيرة إثر تولي أنتوني بلينكن حقيبة وزارة الخارجية في الإدارة الأميركية الجديدة سنة 2021، فكر بعض الدارسين في اجراء دراسة مقارنة بينه وبين كيسنجر لاستشراف السياسة الأميركية الجديدة، فكل منهما من أصل يهودي، وكانت عائلتهما من ضحايا النازية، ولم يخفيا يوماً تعاطفهم مع إسرائيل.

 

وثمة من راهن على بلينكن ليرتقي إلى درجة فعالية كيسنجر، مع أنه لا يمتلك الخلفية الاستشراقية والثقافة الموسوعية التي كانت ذخيرة معرفية لكسينجر، وربما لا يمتلك بلينكن حتى فلسفة سياسية وفكراً خاصاً به، لدرجة أن يفكر ويعمل خارج نسق مفكري وساسة الحزب الديمقراطي الحاكم في أميركا.

 

مهما يكن فقد انخرط بلينكن بقوة في المفاوضات الجارية بعد 7 أكتوبر 2023 بين حماس وإسرائيل، ونشطها دون أن يخفي وقوفه مع إسرائيل، فمنذ اليوم الأول بعد الهجوم (الحماسي) على غلاف غزة، صرح أنه جاء الى إسرائيل ليتعاطف ويقف معها كيهودي أولاً، وكوزير لخارجية أميركا ثانياً. إلا أنه لم يوفق في جهوده الدبلوماسية والسياسية في حل سلمي للصراع بين حماس ومحور الممانعة الإيراني من جهة، وإسرائيل من جهة أخرى. ولم يتمكن من الافراج عن الرهائن الإسرائيليين لدى حماس. كما استمر منذ 8 أكتوبر سنة 2023 الرد الإسرائيلي العنيف على غزوة حماس التي أنتجت بعد حوالي سنة من تنفيذها كارثة على مجتمعات غزة. فبحسب وزارة الصحة الفلسطينية: نزح أكثر من 95% من سكان قطاع غزة، كما بلغ عدد الضحايا 41.788 قتيلاً و96.794 مصاباً منذ بداية الحرب.

 

قبل انتهاء سنة الحرب الأولى مع حماس فجرت إسرائيل عدة مفاجآت عسكرية على الجبهة اللبنانية، بدءاً باغتيالات أبرز قادة حزب الله وصولاً إلى اغتيال حسن نصر الله يوم 27 أيلول 2024، مروراً بتفجير أجهزة الاتصال (بيجر) الخاصة بالحزب، فتشتت قوته وساءت منظومات الاتصال عنده، وبالتالي كسرت إسرائيل بشكل سريع العمود الفقري لقوة وتماسك حزب الله. بحيث دمرت جزءاً مهماً من قوته النارية وجعلت الحزب في متاهة بدون قيادة، وتم ترويع سكان جنوب لبنان وضاحية بيروت الجنوبية، حتى قارب عدد المهجرين نصف مليون، وبلغ عدد الضحايا من الطرف اللبناني حوالي 2000 شخص حتى مطلع شهر أكتوبر الجاري.

 

في الوقت الذي سلط الاعلام والمحللون الضوء على مفهوم (الحرب الشاملة) في الشرق الأوسط وتم التخويف من قيامها، جرت عملياً حرب منظمة وموجهة تتسع بشكل منهجي، وتتضح ملامحها الاستراتيجية وخطواتها المتسلسلة شهراً بعد آخر. ففي البدء انصبت الجهود على معاقبة حماس، ومن ثم السعي لتدمير قوتها، فنسف البنية التحتية والعمرانية لمدن وبلدات غزة، وصولاً إلى تفكيك وتحطيم مجتمعات غزة جملة وتفصيلاً. ترافقت بجهود دبلوماسية أميركية وتعاون دول الاعتدال العربي لتطويق الحرب وحصرها بين جدران غزة. اذ سافر لهذه الغاية الوزير بلينكن الى المنطقة خلال أقل من سنة ما يقارب عشرين زيارة، إضافة الى مئات الاتصالات الهاتفية مع نظرائه في المنطقة والعالم. وهذا ما لم يحصل قط في تاريخ الدبلوماسية الأميركية.

 

ان تسلسل هذه الأحداث وتطور الحرب المتصاعد بقرار حصري من إسرائيل وحلفائها تفصح عن خطة لمعارك طويلة الأمد ستكون في سنتها الثانية منصبة على تطويق حزب الله، في جنوب لبنان والبقاع وربما تصفية قوته العسكرية. لقد شكل اغتيال زعامات حزب الله ودفعتها الجديدة يوم 4 أكتوبر الجاري مفاجأة عسكرية وسياسية، ومعطى جديداً على مسار خطة الحرب، قد تخلف فراغاً ميدانياً كبيراً، مما يزيد احتمال انخراط إيران في الحرب، وبالتالي تعديل الخطط المرسومة.

 

لا يمكن فهم الحرب الدامية طوال الأشهر الماضية، مع ما نتج عنها من خسائر مالية وبشرية سوى أنها ترجمة لمخطط عسكري وسياسي وفكري، ينفذ بمنهجية وبخطوات علمية وتكنولوجية مدروسة لتحقيق أهداف كبرى.

 

يبدو أن الخطة لا تتعلق تماماً بنتنياهو ولا وزير حربه، لا بالسنوار ولا بحزب الله، ولا حتى بالإدارة الأميركية، وانما بما هو آت كثمرة لتفاقم أزمة العصر المركبة التي تفجرت في بؤرتين، واحدة في شرق أوربا، والأخرى في شرق البحر المتوسط.  كما يمكن قراءة حرب اسرائيل من منظار تبدل الدبلوماسية الأميركية التي انتقلت منذ نصف قرن من سياسة الخطوة فخطوة في ضبط واستثمار الحرب الباردة، الى حرب الخطوة فخطوة الاستنزافية الطويلة الأمد في مواجهة خصومها الجدد، بحيث يمكن تدوير أحداث هذه الحرب المنضبطة ومستجداتها لتكون هي نفسها الحرب العالمية الثالثة بصيغتها المقننة، التي تتصف بأنها ستجري على عدة مراحل وعلى مسارات متوازية، وليس على دفعة واحدة. خاصة إذا أكدت الأحداث أن إسرائيل قد اتخذت قراراً بتدمير أعدائها، ما يتطلب وقتاً طويلاً وجهوداً استثنائية، سيتم الاعتماد فيها على سوبر التكنولوجيا العسكرية، وعلى أحدث أنواع الأسلحة. لتعيد لإسرائيل اعتبارها، حيث ظهرت مباشرة بعد غزوة حماس في 7 أكتوبر 2023 وكأنها الدولة اليتيمة التي فقدت هيمنتها وتفوقها العسكري في المنطقة، لتعود عبر منهجية هذه الحرب لتؤكد على أنها مازالت القوة العسكرية والاستخباراتية والتكنولوجية التي لا نظير لها في المنطقة.

قد يعجبك ايضا