د. نايف كوردستاني
هذه المقالةُ عبارةٌ عن رؤى، واقتباسات فخامة الرَّئيس (مسعود بارزاني) حول مشروع الاستفتاء من أجل الاستقلال التي ذكرها في كتابه الماتع، والقيِّم (للتَّأريخ)، واللقاءات الشخصية عبر الفضائيات العربية، للشعب الكُوردي تأريخ، وجغرافيَّة، ولغة، وثقافة، وعادات، وتقاليد خاصَّة، ويعيشُ منذ ألوف السَّنين على أرضه، وعبر تأريخه التزم بمبادئ التَّسامح، وثقافة التَّعايش مع القوميات، والأديان الأخرى المُتجذِّرة في عمق تأريخه. وخلال السَّنوات الخمسمئة الماضيَّة تعرَّض هذا الشَّعب إلى محاولات إصهار، وإبادات كثيرة، لكنَّه استطاع النَّجاة منها جميعًا.
قبل خمسة قرون قُسِّمت أرض كوردستان بين الإمبراطوريتين العُثمانيَّة، والصَّفوية خلال معركة (چالديران) التي اندلعت في سنة (1514م)، وشتّت الأُمَّة الكُورديَّة، وبعد الحرب العالميَّة الأولى، ومن دون رغبتهم، وإرادتهم قُسِّمت على أربع دول، وقد خلَّف هذا التَّقسيم أوضاعًا جيوسياسيَّة مُعقَّدة جِدًّا، ومن المؤسف لم يتمّ الاعتراف بأيِّ جزء من الأجزاء الأربعة بالحُقوق المشروعة للكُورد كما تمَّ إنكار وجودهم، ونتيجة لتلك السِّياسات المغلوطة ظهرت صراعات طويلة الأمد!
وعلى إثر توقيع معاهدة (سيڤر) الذي شمل جنوب كوردستان، وكان يضمُّ ولاية الموصل، و جزءًا واسعًا من شمال كوردستان، وتلبية لدعوة مباشرة من وزير المُستعمرات البريطاني، ومسؤول شؤون العراق (ونستون تشرشل) عُقد بالقاهرة في سنة (1921م) مؤتمرًا تَقرّر فيه إنشاء مملكة العراق، ووفقًا لإطار السَّياسة الرَّئيسة البريطانيَّة في الشَّرق الأوسط عُيِّن الأمير (فيصل) النَّجل الثَّاني للحسين شريف (مكَّة) ملكًا على العراق، ومنحه التَّاج الملكي، ومن دون أن يتمّ مراعاة خصوصيّات الشُّعوب التي تقطن في هذه البلاد المليئة بالعُقَد، والمُشكلات. وفي أعقاب مؤتمر القاهرة دعا الملك (فيصل) في رسالتين المندوب السَّامي البريطاني في العراق إلى ضمِّ كوردستان إلى العراق، وقد أجاب (ونستون تشرشل) على رسالتي الملك فيصل قائلًا: “نحنُ وعدناكم بإنشاء دولةٍ، وليست إمبراطوريَّة، الكُورد أُمَّة يمتلكون جغرافيَّة خاصَّة، وحدودهم إلى سلسلة جبال حِمْرينَ”.
وعِبْرَ مراحل متتاليَّة تَمَّ العمل على تنفيذ خُطط، وبرامج مكثَّفة ترمي إلى إبادة الشَّعب الكُوردي، وصهره، وتغيير ديمغرافيَّة المناطق الكوردستانيَّة، واتّباع سياسة التَّرحيل القسريّ، وتعريب المناطق الكوردستانيَّة في العراق! وبعد استيلاء البعثيين على الحُكم في سنة (1963م) دخلت خُطط التَّرحيل، والتَّعريب مرحلة واسعة، وفي تلك المرحلة تَعرّضت (% 42) من أراضي كوردستان لحملات التَّرحيل، والتَّهجير من أرض الآباء، والأجداد. وفي سنة (1970م) بدأت جرائم التَّرحيل القسري ضد الآلاف من الكُورد الفيليين، ومِنْ ثَمَّ بدأت مرحلة تدمير القُرى الكُوردية من سنة (1974م) إلى سنة (1979م). وتعرَّضت منطقة (بارزان، وبالك، وقوره تو، وكرمك، وناودشت، وحلبچة، وكاريزه، وزاخو) لحملات التَّدمير، وهدم القُرى. وفي تشرين الثاني (1975م) نُفِّذت أكبر حملة ترحيل، وتدمير للقُرى في منطقة بارزان من السُّلطات العراقيَّة حيث تَمَّ ترحيل سُكّانها إلى الصَّحاري، والمُجمعات السَّكنيَّة في جنوب العراق ليعيشوا هناك، وهم بعيدون عن وطنهم، وبعد خمس سنوات من الحياة الصَّعبة المليئة بالمأساة، والمُعاناة أُعيد البارزانيون من جنوب العراق إلى كوردستان في بداية عام (1980م)، لكنهم أُسكنوا هذه المرة في أطراف أربيل بمجمعي (القادسيَّة، والقدس). أَمَّا الإخفاء القسريّ، والأنفال، والإبادة الجماعيَّة، فهي جريمة أخرى من جرائم الحكومات العراقيَّة ضد المواطنين الكُورد، ففي سنة (1980م) هُجِّر اكثر من (12000) ألف كوردي فيلي من العراق إلى إيران. وفي (31تموز 1983م) هاجمت القُوات العراقيَّة المُجمَّعات السَّكنية القسريَّة في قوشتبه (القادسيَّة، والقُدس)، وهرير، وبحركة، وديانا، واعتقلت (8000)من الرِّجال البارزانيين، ثم أبادوهم، وبعد عشرين سنة، ونيِّف عُثر على رفاتهم في مقابر جماعية بصحراء جنوب العراق. وامتدادًا لتنفيذ خُطط الإبادة الجماعيَّة للكُورد من الحكومة العراقيَّة بدأت في سنة (1988م) ثماني مراحل من العمليات العسكريَّة غير الإنسانيَّة ضد الكورد تحت اسم (الأنفال) أباد النِّظام العراقيّ السَّابق أكثر من (182000) ألف مواطن كُوردي مدني بريء من مناطق (گرميان، وقرداغ، وبادينان، وكركوك، وأربيل، والسُّليمانيَّة)، وفي السنة نفسها نفَّذ النِّظام السَّابق جريمة قصف مدينة (حلبچة) بالسِّلاح الكيماويّ، وراح ضحية تلك الجريمة (5000) شهيد من المدنيين، وقد دمّرت الحُكومة العراقيَّة بيئة كوردستان من خلال زرع الألغام في الغَابات، والجبال، والطُّرق، وهدم، وحَرْق (4500) قرية، ونسفت بُنية الحياة القرويَّة، والزِّراعيَّة ما عدا عمليات الاعتقال العشوائي، والاحتجاز، والتَّعذيب، والإعدام، ورمي المُواطنين الكُورد بالرَّصاص، ومِنْ ثَمَّ بدأت انتفاضة شعب كوردستان في ربيع (1991م)، وكانت الانتفاضة نُقطة تحوّل تأريخيَّة في حياة شعب كوردستان، وقد سَطّرَ شعب كوردستان أنموذجًا رائعًا للأخلاق، والثَّقافة العاليَّة حيث لَمْ يَمدّ يده للانتقام بل حافظ على حياة آلاف الجُنود العراقيين الذين سَلّموا أنفسهم للبدء بفتح صفحة جديدة مع دولة العراق. وذهبنا – أي الرئيس مسعود بارزاني – مع المرحوم (مام جلال) إلى بغداد لإجراء المفاوضات، وكُنَّا نتذكَّرُ كُلّ الجرائم الوحشيَّة التي ارتكبتها دولة العراق ضد شعب كوردستان، وسِرْنا وسط نهر من الدِّماء، وصافحنا الأيادي المُلَطَّخة بدماء شعبنا، لكن كان هدفنا فتح صفحة جديدة، والدُّخول في مرحلة جديدة لتحقيق السَّلام. فقدتُ- أي البارزاني- (38) فردًا من عائلتي، و(8000) من عشيرتي، و (182000) ألف من قوميتي قد تمَّ أنفلتهم بطُرق وحشيَّة مع ذلك قررتُ أن أذهب إلى بغداد لكي لا يقولوا امتنع (البارزاني) عن التَّفاوض، وأهدر فرصة معالجة مُشكلات الشَّعب الكُوردي بسبب الأحقاد الشَّخصيَّة لقد كان ذلك القرار هو الأصعب في حياتي. لقد دفع شعب كوردستان تلك الضَّرائب الإنسانيَّة نتيجة لوجوده ضمن دولة العراق، لقد أصبح العراق دولة بنفط كوردستان، وبأموال ذلك النَّفط كانت تُحارب شعب كوردستان، وتُهاجم دول الجوار.
لقد أخفقت المفاوضات التي جرت بعد الانتفاضة مع النِّظام العراقي؛ لأَنَّ عقلية الإنكار، والشُّوفينيَّة كانت مستمرّة عندهم، ولمُدّة (12) عامًا لم يبقَ بين كوردستان، وبغداد أيَّة علاقة سياسيَّة، أو اقتصاديَّة، أو إداريَّة.
خلال مؤتمر المُعارضة الذي عُقد في (15-14كانون الأول2002م) بلندن أبلغتُ- أي البارزاني- الأطراف العراقيَّة بوضوح لو أَنَّ الجميع فكّر في الانتقام من الآخرين سيخلو العراق من السُّكّان، وقد قرَّر المؤتمر في مشروعه الخاصّ بالمرحلة الانتقاليَّة أَنَّ عراق المستقبل سيكونُ عراقًا ديمقراطيا پرلمانيا تعدديًا فيدراليا(لكُلِّ العراق)، وستصبح مبادئ الشَّراكة، والتَّوافق بين المكوِّنات أساسًا، وأرضيَّة لإعادة بناء العراق، وفي ذلك الوقت تمّت الدَّعوة إلى إزالة كُلّ التَّغييرات التي شملت الواقع القوميّ، والدِّيموغرافي في(كركوك، ومخمور، وخانقين، وشنگال، وشيخان، وزمار، ومندلي)، وإلغاء كافَّة الإجراءات الإداريَّة التي صدرت بعد سنة(1968م)من الحكومة العراقيَّة التي كانت تهدفُ إلى التَّغيير الدِّيمغرافي، فضلًا عن اعترافه بجرائم الأنفال، والإبادة الجماعيَّة ضد شعب كوردستان دعا إلى تعويض ضحايا الأنفال، والقصف الكيمياويّ، والتَّرحيل، والإبادة الجماعيَّة لشعب كوردستان كما دعا إلى احترام الإرادة الحُرَّة لشعب كوردستان بعد سقوط النِّظام لكي يتمكّنوا من اختيار الصِّيغة المناسبة لشراكتهم ضمن إطار اتّحاد اختياريّ مع دولة العراق. وأسقطت الولايَّات المُتَّحدة الأمريكيَّة النِّظام العراقيّ في (9نيسان2003م)، ومِنْ ثَمَّ بدأت مرحلة جديدة في العراق، وكُتِبَ دستور جديد في العراق في عام (2005م)، وتمّت المصادقة عليه من الشَّعب، وكان الدُّستور الجديد من أجل بناء عراق ديمقراطي تعدّدي فيدرالي، وبموازنة هذا الدُّستور مع الدَّساتير العراقيَّة السابقة بل مع دساتير المنطقة يمكن القول إِنَّه دستور جيد، وعصريّ، لكنّه غير خالٍ من النَّواقص. كانت للأطراف الكوردستانيَّة دور فاعل، وكبيرٌ في صياغة فقرات الدُّستور العراقي الجديد، والتَّصويت عليه، وإنجاحه، وفي تثبيت حقوق المُكوِّنات، وملامح الشَّراكة، والدِّيمقراطيَّة فيه، ولو لَمْ يُشاركْ شعب كوردستان في كتابته لَمَا كان يُكتبُ بالشَّكل الحالي، ولو تَمَّ تنفيذ الدُّستور كما هو لَمَا كانت هناك كثير من المُشكلات التي تواجه العراق حاليًّا. لكن -من المؤسف- حلفاؤنا الشِّيعة الذين بنينا معهم العراق الجديد، وبمجرد شُعورهم بثبات أقدامهم في العراق انخرطوا في عمليَّة مغلوطة، وخطيرة عمليَّة خَرْق الدُّستور، وتهميش المُكوِّنات، ومحاولة تقليل الوجود الكوردي في مؤسَّسات الدَّولة، ومصدر تلك الخُروقات يعود إلى عدم ثقتهم بالدُّستور العراقي الجديد الذي ورد في ديباجته أَنَّ الالتزام بهذا الدُّستور شرط لبقاء وحدة العراق. حقيقة خلال كتابة الدستور كُنَّا قلقين من استمرار الفكر الشُّوفيني في العراق؛ لذلك كُنَّا نعدُّ ما وَرَدَ في ديباجته بمثابة عقبة على طريق عودة الفكر الشُّوفيني، والتَّسلُّط. لقد ظهرت علامات خَرق الدُّستور في نقض الوعود، والاتّفاقات، والتَّهرّب من تنفيذ المادة (140) إذ كان من المفروض، وبموجب الدُّستور تنفيذ مراحل (التَّطبيع، والإحصاء، والاستفتاء) بشكل عمليّ في المناطق المتنازعة عليها في عام (2007م)، لكن حتَّى الآن لم تُنفَّذْ أيّ من تلك الخُطوات، والسَّبب يعودُ إلى تهرّب الحكومة العراقيَّة، وعدم التزامها بالدُّستور. بعد سنة (2005م) خلال الانتخابات جميعها التي أُجريت أُعيدت صياغة القوانين وفق الصِّيغة التي تُقلِّل نسبة مقاعد إقليم كوردستان في مجلس النُّوّاب العراقيّ. وحرب داعش قادت السِّياسات المغلوطة للحكومة العراقيَّة البلاد نحو حافَّة الانهيار، والسِّياسة الطَّائفيَّة، وتهميش المُكوّنات، والفساد المُستشري أفرغت العراق من معنى الدَّولة، وتَمَّ تنظيم تشكيلات الجيش، والقُوّات الأمنيَّة وفق أُسس الارتباط الشَّخصيّ، وليس وِفْق الانتماء الوطنيّ. كُلّ تلك السِّياسات، والمُمارسات العديدة المغلوطة هيّأت الأجواء الملائمة لانتعاش الإرهابيين في غرب الأنبار، والموصل، وفي (10حزيران 2014م) خلال رَمْشَة عين، وقعت الموصل بيد الإرهابيين الدَّواعش، وتقدّموا نحو بوابات بغداد، وقبل تلك الحادثة بأشهر كنتُ- أي البارزاني- قد أبلغتُ سلطات بغداد أَنَّ الإرهابيين في غرب الموصل، وقرب (حَضَر) في تحرّك مستمر، وأَنَّ هناك خطر سقوط الموصل بأيديهم، لكنَّ رئيس مجلس الوزراء العراقي السَّابق (نوري المالكي) لم يهتمّ بذلك التَّحذير، وقد توصّلنا إلى نتيجة مفادها أَنَّ الشُّوفينيين الذين ساعدوا داعش على النمو، والاستقواء، والتَّمدّد، والذين درّبوا الأعضاء المنتمين لداعش، والذين سلّحُوه، وأمّنوا لـه الممرات الإستراتيجيَّة، وشجّعوه على مهاجمة كوردستان في (آب2014م) كانوا قد استخدموا داعش كسلاح لإيقاف ازدهار، واستقلال كوردستان. خلال حرب داعش دفع شعب كوردستان ضريبة إنسانيَّة، واقتصاديَّة كبيرة حيث كانت الحُكومة العراقيَّة قد قطعت موازنة إقليم كوردستان، وانخفضت أسعار النِّفط عالميًّا، وكانت تكاليف الحرب باهظة جدًّا على جبهة طولها (1050م) كيلومتر إضافة إلى تكاليف ضيافة (1600000) نازحًا من العراق، ولاجئًا من سوريا. في تلك الحرب ضحَّى (1921) پـيشمرگـة بأرواحهم الطاهرة، وأصيب (10757) من الپيشمرگة بجراح، إضافة إلى (63) أسيرًا، ومفقودًا لقد تمَّ تحرير كُلّ شبر محتلّ من أرض كوردستان من تحت سيطرة الإرهابيين بدماء الأبطال. وقد كسرت قوات الپيشمرگة أسطورة داعش في الموصل، وكسروا ببسالتهم الخطوط الدِّفاعيَّة لداعش، وسلَّموا مفاتيح النَّصر بيد (حيدر العبادي).
منذ تأسيس الدَّولة العراقيَّة حتّى مرحلة ما بعد عام (2003م) لم تقبل بالشَّراكة، ومشاركة الكُورد؛ بل حاولت إبقاءهم تابعًا للقوميَّة العربيَّة الرَّئيسة، وصهرهم فيها. وبعد انقطاع تامّ لمدَّة (12) عامًا عن الدَّولة العراقيَّة عاد الكورد بشكل طوعيّ إلى العراق من بعد عام (2003م)، وشاركوا في بناء عراق ديمقراطيّ فيدراليّ يضمن فيه الدُّستور العراقيّ حُقوق المُكوّنات، والدِّيانات، والمذاهب جميعًا. لكن الحُكَّام الجُدد في العراق لم يتعظوا من التَّاريخ، فأعادوا أخطاء الماضي، وأخذت الدَّولة الدِّيمقراطيَّة الاتّحاديَّة-الفيدراليَّة- طابعًا طائفيًّا في ممارستها، وعملت من أجل تهميش المكوِّنين (الكورد، والسُّنَّة). وقد سلكت السُّلطات الجديدة أسلوب التَّنكيل، والانتقام، وكانت قراراتها، وممارساتها طائفيَّة بامتياز، وتلك القرارات، والمُمارسات تعدّان أدلّة دامغة على أن المُتسلّطين في العراق الجديد خطوا نحو تقسيم البلاد. هؤلاء الحُكَّام الجُدد بعد أن ثبَّتوا أقدامهم في السُّلطة تجاهلوا الدُّستور العراقيّ بعد سنة (2005م)، وأداروا ظهورهم للشَّراكة، ومبادئ التَّوافق، والتَّوازن، وخرقوا (55) مادّة دستوريَّة، وبخرقهم للدُّستور، وعملهم بالرُّوح الطَّائفيَّة دمَّروا معنى وحدة العراق، والإجماع الوطنيّ. إِنَّ عدم التزام الحُكومات العراقيَّة بالدُّستور، وتجاهل مبادئ الشَّراكة، والتَّوافق، والتَّوازن، وبذل جهود كبيرة لتهميش كوردستان، وتصغير دورها، والفوضى التي سادت في العراق دفعت بشعب كوردستان للتَّفكير، والبحث عن سبيل آخر للحلِّ. إذا كان هؤلاء لا يريدوننا شركاءً فماذا يفعل الكوردي، هل يبقى معهم تابع مُهمَّش؟!
منذ سنة (2010م) أدركتُ- أي البارزاني- أَنَّ العراق الجديد بعد (2003م) يتّجه نحو الهاويَّة، والدِّكتاتوريَّة، وقد أشرْتُ إلى ذلك الخطر في العديد من اللقاءات، والتَّصريحات كما حاولْتُ أَنْ أُبلِّغ الأطراف جميعًا أَنَّ الاستمرار بخرق الدُّستور، وعدم مراعاة الشَّراكة، سيصيبُ العراق بمصيبة كبيرة. لكن لم تُؤخذ تلك التَّحذيرات، والنَّصائح بشكلٍ جدّيّ، وتدهورت أوضاع العراق يومًا بعد يوم، وزادت المُشكلات في العلاقات بين أربيل، وبغداد. وقد تَمَّ هضم حُقوق شعب كوردستان، وشراكته في العراق سواء في العهد الملكيّ، أو الجُمهوريّ، وفي العهد البعثيّ تعرّض للإبادة الجماعيَّة كما فَقَدَ الأمل بالعراق الفيدراليّ الدِّيمقراطيّ بعد عام (2003م)، والتَّجارب التَّاريخيَّة تقول لنا أَنَّ الانفصال القسريّ بين الشُّعوب لا ينجحُ، وكذلك فأَنَّ الدَّمْج الإجباريّ لا يثمرُ أيضًا. إِنَّ دمج مُكوِّنات العراق مع بعضها بالقُوّة في القرن الماضي بدولة واحدة تَسبّب بحدوث كوارث كبيرة. رُبَّما يتعرّض اثنان من الإخوة في بيت واحد إلى كثير من المشكلات، والنِّزاعات، لكن لو استقلّ كُلّ واحد منهما في بيت ستنتهي الخِلافات، وسيبقيان أخوين يساندان بعضهما إلى النِّهاية هذا هو الحلّ الأساسيّ للعلاقات بين كوردستان، والعراق. اختبرنا كُلّ السُّبُل، لكن أخفقت النَّتائج طوال السُّنوات السَّابقة بحثْتُ- أي البارزاني- هذا الموضوع مع كثير من الشَّخصيات، والمُسؤولين العراقيين، وكذلك مع الشَّخصيات، والدِّبلوماسيين الأجانب، وأبلغتهم أَنَّنا نواجه مشكلة مزمنة عمرها مئة سنة تعبنا، ولا نُطيقُ الاستمرار في العيش مع المُشكلات، والأزمات والحروب تعالوا، وقولوا لنا ماذا يفعل شعب كوردستان لكي يبقى العراق مُوحَّدًا؟ الدُّستور هو الضَّامن الوحيد لبقائنا ضمن العراق، والدُّستور منتهك، ويتمُّ التَّجاوز بشكل يوميّ على مطالب، وحُقوق كوردستان، ولم تكن للحركة التَّحرريَّة الكُورديَّة مشكلات مع إخواننا العرب أبدًا، مشكلاتنا كانت مع الأنظمة، والعقليَّات الحاكمة في العراق. في هذه الظروف فَقدنا الأمل بشكل قاطع في البقاء ضمن العراق، وأصبح من الضَّروريّ أَنْ نتحدّثَ علانيَّةً عن حقوقنا المشروعة في الاستقلال، والسِّيادة، وشعب كوردستان يمتلك كُلُّ الأُسس الرَّئيسة التي تؤهله لتكون له دولة أُسوة بالشُّعوب الأخرى في العالم. لكن يجب تطبيق ذلك الحقّ بالطُّرق السِّلميَّة، والحِوار مع بغداد، والدُّول الأخرى في المنطقة، والعالم. وكُنَّا نعلم جيدًّا أَنَّ الحُقوق إذا لم تُؤخذْ لا تُمنح، وإِنْ انتظرتْ كوردستان لكي يُقدِّموا لها الاستقلال على طبقٍ من ذهب، فبالتَّأكيد لن يتحقّق ما تنتظره أبدًا.
وكُنَّا- أي البارزاني- قد عقدنا اجتماعًا مُوسعًا مع بعض الشَّخصيات، ورؤساء الكتل السِّياسيَّة العراقيَّة، ودعوتهم للتَّفكير في حلّ أساسيّ لجميع المُشكلات، وخلال الاجتماع قدّمْتُ كلمةً للحاضرين تحدّثْتُ فيها عن الرِّسالة التي نحملُها من أجل معالجة مشكلة عمرها مئة سنة، وأوضحْتُ لهم بصراحة للشَّخصيّات الشِّيعيَّة أَنَّ الكورد بعد عام (2003م) كانوا يعتقدون أَنَّ الدُّستور أساس العمليَّة السِّياسيَّة، والحياة الجديدة. كان نصيبنا من الشَّراكة مع دولة العراق (4500) قرية مُدمَّرة، و(12000) مفقودًا من الكورد الفيليين، و(8000) بارزاني مُؤنفل، و(182000) من الكورد المؤنفلين، والآلاف من ضحايا السِّلاح الكيمياويّ. بعد (1991م) من أجل العراق، وفتح صفحة سلام جديدة جلسنا مع المجرمين، وصافحنا الأيادي الملطخة بدماء شعبنا. في ذلك الوقت عندما جئْتُ إلى بغداد سِرْتُ وسط نهر من دماء شعبيّ نَحْو بغداد من أجل مصلحة العراق، ومن أجل التَّعايش، والسَّلام، وفتح صفحة جديدة، والآن – من المؤسف جدًّا- بعد (2003م) أَقْدم ساسة الشَّيعة الذين كانوا حلفاءً للكورد على قطع أرزاق الكورد، قُلْتُ للقادة الشِّيعة: نَحْنُ أَخْفَقنا في الشَّراكة خلال المرحلتين، ويجب أَنْ نبحث عن طريق جديد للحلّ، ونبني المُستقبل على أساس آخر، تَعالوا لنصبح أخوين، وجارّين حقيقيين بالتَّفاهم، وما دمنا لا نستطيعُ أن نكون شركاء ندعوكم أن تفهمونا، وفي تلك الجلسة الموسعة كان كثير من الشَّخصيات الشِّيعيَّة مُتّفقة على كثرة الأخطاء المرتكبة في الماضيّ، وعلى ضرورة البحث عن طريق للحلّ، لكن إِنْ تَمّ سلوك أيّ طريق، أو تمّ اللُجوء لأيّ اختيار يجب أن يكون بعيدًا عن الحرب، وسفك الدِّماء. وهناك أيضًا تَمَّ اتخاذ قرار تشكيل لجنة خاصّة من قِبل بغداد للحوار، ولدراسة العلاقات المستقبليَّة، وهل نبقى شركاءً أو نتحوّل إلى جارّين؟ الخُروقات الدُّستوريَّة التي حدثت مع انتهاك الاتّفاقات، وتهديم التَّوافق في التَّشريعات، وعدم بقاء التَّوازن في مؤسسات الدَّولة، وقطع الموازنة، وممارسة الضُّغوط على كوردستان أرغمنا على التَّوصُّل إلى الاعتقاد أَنّنا لسنا شركاءً في العراق بعد عام (2003م)، ولا يمكن أَنْ يعدّوننا شركاءً في المستقبل؛ لذلك يتحتّم علينا البحث عن طريق للحلّ. وكنتُ- أي البارزاني- قد زُرْتُ پرلمان كوردستان في (3تموز 2014م)، وألقيْتُ كلمة، وتحدّثتُ عن الأوضاع السِّياسيَّة، والأزمة الأخيرة، وأَشرْتُ إلى أَنَّ كوردستان حاولت لعشر سنوات إنجاح العمليَّة السِّياسيَّة، والدِّيمقراطيَّة، والتَّعايش في العراق، لكن خَرْق الدُّستور، والفكر الدِّكتاتوريّ، ونزعات الهيمنة، والتَّهميش حَالتْ دون إنجاح جهود كوردستان.
في يوم الأربعاء (7 حزيران2017م) خلال اجتماع تأريخي قررتْ رئاسة إقليم كوردستان، والأطراف السِّياسيَّة، وممثلو المُكوّنات في إقليم كوردستان قرارًا تاريخيًّا، وحدّدتْ يوم (25أيلول 2017م) لإجراء الاستفتاء في إقليم كوردستان، والمناطق الكوردستانيَّة التي تقع خارج إدارة حكومة إقليم كوردستان، وبالأمر الإقليميّ ذي العدد (106) في (8 حزيران 2017م) أصدرت أمر إجراء الاستفتاء، وكلفتُ-أي البارزاني- المفوضيَّة العُليا للانتخابات والاستفتاء لتنفيذ ذلك الأمر، كما تَمَّ في الأمر تعيين الحُدود التي يشملها الاستفتاء في كوردستان، والمناطق الإداريَّة خارج إدارة إقليم كوردستان. وكان سؤال الاستفتاء بالشَّكل الآتي:(هل تُريد أَنْ يُصبحَ إِقليمُ كوردستان، والمناطق الكوردستانيَّة خارج الإقليم دولة مُستقلّة؟). وتكون الإجابة على السُّؤال بـ (نعم)، أو (لا)، كما أَنَّ الأمر كلّف المفوضيَّة بتهيئة المجال أمام مواطني كوردستان في خارج البلاد للمشاركة في الاستفتاء. في النِّهاية جاء اليوم العظيم، وفي صبيحة (25 أيلول 2017م) توجّه المواطنون في إقليم كوردستان، والمناطق الكوردستانيَّة خارج إدارة إقليم كوردستان، ولأوّل مرّة في التّاريخ، وبصورة حُرّة، وسلميَّة، وبعيدة عن العنف، والهيمنة، والفوضى نحو صناديق الاقتراع، وأدلوا بأصواتهم، وكان يوم الاستفتاء شبيهًا بالعيد، عيدٌ وضع فيه جميع مواطني كوردستان اختلافاتهم، ونزاعاتهم جانبًا، وشاركوا في عمليَّة مشروعة، وتاريخيَّة، ولم يدلُ أحد بصوته لهذا الشَّخص، أو تلك الجهة الجميع صوّتوا لأنفسهم، ولبلدهم صوّتوا لبعضهم، وللأجيال القادمة، ولمصيرهم. كان ذلك اليوم صناعة الرُّوح الوطنيَّة المشتركة، وتوافقًا بين المواطنين الكوردستانيين. كان الهدف من الاستفتاء هو اطّلاع العراق، وبلدان المنطقة، والعالم على الرَّغبة الحقيقيَّة لشعب كوردستان، ولم يُقرِّر أحد أنه بعد يوم الاستفتاء سيقوم بإعلان الدَّولة المستقلّة، بل كان من أجل حصول القيادة السِّياسيَّة للإقليم على تفويض الشَّعب، وتخويله في المرحلة المقبلة، والتَّفاوض، والحوار مع حكومة العراق، وقد بحثنا هذا الموضوع بصراحة مع بغداد، وأمريكا، والبلدان الأخرى، وقلنا لهم أَنَّ الاستفتاء هو السَّماح لشعب كوردستان ليقول كلمته. بعد الاستفتاء بيومين أعلنت المفوضيَّة العليا للانتخابات، والاستفتاء في إقليم كوردستان عن النَّتائج الأوليَّة للاستفتاء، وكان (92.73%) من المصوّتين قد صوّتوا بــ (نعم)، وكان ذلك انتصارًا لإرادة الشَّعب للوصول إلى الاستقلال. إِنَّ الأغلبيَّة العظمى من كوردستان كانوا لا يريدون استمرار المأساة، والظُّلم والتَّجربة الفاشلة، بل كانوا يريدون دولة مستقلة. في الحقيقة بعد عشرات السَّنين لم تتغيِّر العقليَّة، والتَّفكير الشُّوفينيّ في بغداد، وكنْتُ-أي البارزاني- على يقين أَنَّ التَّغيير في بغداد شمل الوجوه فقط، وأَنَّ العقليَّة الشُّوفينيَّة المتسلّطة في بغداد على الدَّوام لا تؤمن بالشَّراكة وصوت الحقّ، والعدالة. ومن خلال قرارات پرلمان العراق، والتَّصرّفات القاسيَّة وغير الدُّستوريَّة لرئيس الوزراء في ذلك الوقت تبيّن أَنَّ عدم ثقتنا بالوعود، والضَّمانات الفارغة الأمريكيَّة، والحُكومة العراقيَّة قبل الاستفتاء كانت صحيحة، وفي محلّها. تجاوزات رئيس مجلس الوزراء العراقيّ السَّابق (حيدر العبادي) وصلت إلى حد إغلاق مطارات إقليم كوردستان، وفي أحاديثه استعمل مفردة (شمال العراق) بدلًا من (إقليم كوردستان) كما كان شائعًا في عهد (صدام حسين)، وكان يتبجّحُ أَنّه يفرض سلطة القانون على كوردستان في حين عجز عن فرض سلطة القانون حتَّى على المنطقة الخضراء!