المرايا والرؤى من خلال المجموعة الشعرية (ظلال لامرأة واحدة)/2

 

الهادي عرجون

 

كما أن عالم المرايا عالم مدهش وجميل ومخيف في ذات الوقت، فالمرايا تعيش معنا كأنها رفيق العمر الذي نتحاور معه دائما وفي كل الأزمات والمواقف، كما أن عالم المرايا لطيف وساحر وحتى كوميدي عندما يتعلق الأمر بتجسيد حركات تعبيرية ساخرة. كما تتعدد رمزية المرآة (المرايا) عند المبدعين على اختلاف تياراتهم ولغاتهم، فتغدو نماذج تجريبية الملامح، سريالية القسمات، أو إشارة إلى ما يصور به المبدعون وعيهم في لوحات قلمية، ابتداءً من أمثال نيتشه وليس انتهاء بفلاسفة ما بعد الحداثة ومبدعيها، وذلك في التقاليد التي استهلها نيتشه – في “هكذا تكلم زرادشت” – بأقوال من مثل: “عندما نظرت في المرآة صرخت، وقد ارتجّ قلبي هلعا، إذ لم أر نفسي هناك، بل وجها بشعا لشيطان وتكشيرة ساخرة”.

كما نلاحظ أيضا حرص الشاعرة في نصوص مجموعتها على تكرار ثيمة (الرؤى) التي لها نفس معنى الحلم تقريبا، (24 مرة) بمختلف اشتقاقاتها (رؤى/ رؤيا…) وهي بذلك تسلط الضوء عليها، لتصبح الرؤيا مركز الإشعاع في النص دلاليا وايقاعيا. فمعنى كلمة “رُؤى”: اسم علم مؤنث عربي، وهو جمع رؤيا. ومعناه: النظر بالعين، أو بالعقل، أو بالحلم. وفي اللسان: الرؤيا (بالألف) جمعها رؤى: ما تراه في المنام. والرؤية (بالمربوطة) جمعها رؤى: النظر بالعين أو القلب.

“كما المرايا

أنادي ظلك الخجلا إلى سمائي

ليبقى فجرها وجلا

وذي رؤانا

وقد سدت نبوءتها

كأي جب يغني ليله جذلا”(ص81)

والرؤى كذلك جمع رؤيا وهي ما يراه الإنسان في منامه، لكن غلبت الرؤيا على ما يراه من خير، والشيء الحسن، والرؤيا من الله، لتتحسس الشاعرة رؤاها وأحلامها، وتنتقل من خلالها من رؤيا أخرى، لتنقل صورا ومشاهد تعكس حالتها النفسية بما فيها من آلام وأحزان وقلق وجداني. وهي نظرة شاملة هادئة ورصينة، منسابة متهادية، هي لغة الروح لحظة تجليها، لغة الحكمة العميقة، أو هي شرارة تنبثق في لحظة إشراق نورانية، كأنها إشراق الصوفي في مقام تجليه، تأتي من أعماق الشاعر كأنها هبطت عليه من الأعلى. والرؤيا قد تكون ” كشفاً مُنح القدرة عليه شاعر أو نبي أو قديس وهي نوع من التجربة الفلسفية أو الصوفية” وهي كذلك عملية واعية، تنبثق في لحظة إشراق روحي، أو تتوّج تجربة حياتية غنية. والرؤيا في تعريف أدونيس أنها “قفزة خارج المفهومات السائدة ” و”تغيير في نظام الأشياء ونظام النظر إليها “.

“هذي الحكاية

بعض آيات السرى

خذ من رؤاها غيمة قد تبرق

واقصص رؤاك علي،

لا تحزن على حلمي الذي جبهه

يستنطق”(ص16)

ليولد الحلم من الرؤيا التي تقود الشاعرة نحو عوالم مختلفة تجمع ظلال شخصيات أنثوية من رحم التاريخ والأساطير وتبثها على رقعة شعرية جمالية تغري القارئ لمزيد البحث في الكون الشعري الذي تتسم به الشاعرة هندة محمد.

“سلام

لكل الخارجين من الرؤى

وفي ليلهم أنثى رؤاها مداخل

لمريم

أغصان البلاد تظلها

ويسقى أمانيها سحاب مخاتل”(ص97)

فرؤى الشاعرة ليست مجرد عاطفة فحسب، بل تظهر وتورق وتزهر كشجرة، وكذلك شِعرها يُزهر بواسطة أهم الصفات الأسلوبية التي تعد قوام العمل الشعري الناضج، من خلال اعتمادها على التصوير والخيال والانفعال والعاطفة وقوة الاحساس والقدرة على نقله للمتلقي. فالشعر هو أحد الممكنات الجمالية في تصوير الحياة، فالحلم والرؤيا هما عماد الشعر، دونهما لا يبقى شعر ولا يكون قصيد. وقيمة الشعر تسمو أو توضُع بمقدار ما يحمل من رؤى، وشأن الشاعر يعلو أو يهبط بقدر ما يملكه من رؤيا. يقول محمد العلي: “الذي لا يملك رؤية لا يملك حداثة… ونحن إذا جردنا الإنسان من الحداثة… جردناه من الرؤية ومن الخصوصية…”(3).

ولكن مع هذه الشخصيات التي تراها الشاعرة بمثابة ظلال هي بمثابة المرايا لها فهي بعض تلك الظلال إن لم نقل كلها فسيرة الشاعرة هندة محمد تشبه سير تلك الظلال وتلك المرايا، في قولها:

“أنا بعض تلك الظلال التي يتّمتني

ورحتُ بكلّ الموانئِ حيث تحط جراحي

أرمم صوتَ البكاءْ

أنا بعض اسمي القديمِ

تلاشى به الضوءُ حتى استطابَ المقامْ

أنا بنت بعض الحكايا

وماءٌ تلبّس بالليل حتى السهادْ”(ص43)

ليولد من خلال هذه الظلال ذلك الأمل المتعطش للحياة لترسم غوايتها وتفتح روحها وأنفاسها لظلال ومرايا ترصد عوالم المرأة التي لها كل الظلال لأن الشاعرة تمثل البعض من تلك الظلال التي تتقاطع مع تجربة الشاعرة الوجودية وطريقة تقديمها لها بمنطق الفاعل القادر، فجنحت نحو التصويرية التي ترصد انفلات الذات والتحام الكون معها، فتشاكلت مع الوقائع التي حوّلت الشاعرة إلى رائية لتحضن الرؤيا فيها حين تعبر عن حاضرها المر تتداخل فيه أزمنة متعددة من خلال قضايا وجودية مشدودة إلى المطلق والجوهري لتستقبل من خلال هذه الظلال الشمس والريح وموج البحر بروحها المتعطشة لأنفاس الحياة. تقول الكاتبة السورية مفيدة خنسة في دراسة للمجموعة الشعرية “إن مركز توازن القصيدة هي المرأة التي تمثلها الظلال المذكورة في القصيدة، فهي تمثل مركز انطلاقها ونقطة انبثاقها، ولعلها تمثل ذات الشاعرة”.

فالشاعرة هندة محمد عاشقة الحلم الذي يبرق دوما في سواد الليالي. تستخدم رموز شخصياتها بشكل لا يستقبلها القارئ بسهولة إلا أنها قابلة للفهم ومعانيها في متناول يد القارئ رغم أنها يمكن أن تفتح قصائدها على معاني عدة. مع العلم أن كثرة الرمز في نصوصها لا تؤدي بالضرورة إلى الإبهام والغموض.

بالإضافة إلى الحزن والشجن الذي ولد لدى شاعرتنا غربة تحاول الخروج منها فهي كالريح الثملة التي تترنح عنوة في مخيلة الوقت تصارع ذاتها وانفعالاتها وهذا ما يعكس ألوان الحزن والشجن المصاحب لإيقاع النص ممّا يعطي ألفاظ كلفظ الريح التي ترد فيها تلك الحروف أبعاداً تكشف عن حالة الشاعرة النفسية. والذي جاء لإثراء القصيدة إيقاعيا وكذلك لإثارة المعنى بتراكيب جديدة لم تكن دارجة أو شائعة الاستعمال في الشعر الحديث خاصة مع أنسنه لفظ (الريح) التي تكررت 26 مرة حيث بدت أفعال الريح أفعال إنسانية فهي (كأن الريح تسكن قلبها/ الريح تأخذني/ الريح كانت تداري لحن أشرعتي/مذ أيقظ الريح/ تفتح الريح بابا وسط أوردتي// كأن الريح تعرفني/الريح تدنو من جراحي خلسة)

ولكن هنا لنتوقف عند لفظ الريح في التفسير الديني، لماذا لفظ الريح الذي يدل على معنى العذاب والهلاك، حيث ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه كان يفزع إذا رأى الريح ويقول ” اللهم إني أسألك خيرها وخير ما أرسلت به، وأعوذ بك من شرها وشر ما أرسلت به “، وسُميت لفظ الريح في القراًن بالعاصف، في قوله تعالى ” ولسليمان الريح عاصفة تجري بأمره”.

أما لفظ الرياح إذا نظرنا للمنظور القرآني الذي يشير أن لفظ الرياح يدل على موضع الرحمة في القرآن، والرياح يأتي منها الفوائد الكثيرة، مثل إصلاح الهواء، وإثارة السحاب، ونزول المطر، ومنها أيضاً الرياح المُبشرات التي وردت في القراًن بلفظ ” المبشرات ” مرة، وبلفظ “بُشراً” مرةً أخرى حسب المفسرين. والتي جاءت في ثلاثة مواضع مختلفة في المجموعة الشعرية.

حيث تُعدّ مفردة “الريح” من أبرز عناصر الطبيعية التي وجد فيها الشعراء قيمة جمالية وطاقة دلالية للتعبير عن رؤيتهم الحديثة. وقد استخدم الشعراء هذه المفردة رمزاً لدلالات متعدّدة ومتناقضة أحياناً. وهذه التعدّدية الدلاليّة تنبع من حركة الريح وتقلّباتها، ومدی علاقتها بمختلف أشكال الحياة الاجتماعية. كما تظهر أهمّ دلالات مفردة الريح في نصوصها الشعرية هي الخوف، العذاب، والجدب، والخراب، والعقم، وأحياناً الرحمة والخصب والدفء والخير. فالرمز الطبيعي للريح له دلالات عميقة وموحية تتجاوز معناها المعجمي المألوف لتحمل دلالات جديدة وفقاً للسياق الشعري، أبرزها دلالة التغيير الناتجة من حركة الريح وتقلّبها، ومن هنا يقابلها تقلبات النفس الشاعرة وتعابيرها.

وفي الختام يمكن القول أن نص هندة محمد كشف عن روح شاعرة أبحرت بنا نحو عوالم التاريخ تحمل عبقه و تداعب بنسماته روح الظلال التي تسكنها و تتشكل في داخلها لينبثق نبع الشعر ورذاذ الكلمات ليكون الشعر ميلاد وموت وإبحار وحيوات أخرى فالشاعر الأصيل لا يمكن له أن يكون مبدعًا ومميزًا ما لم يتبلل بتراثه، ويؤثر على حياته الجديدة بلا شعور…فالشعر لا يعيش على الحاضر فقط، بل يتوغل في الماضي إلى تراث الأمة وأصالتها، والأدب والشعر جزء لا يتجزأ من تراث الأمة، ولا شك أنّ عواطف الإنسان تتشكل عبر التاريخ القديم والأسطورة التي تحيا داخلنا. يقول اليوت: “إن التراث لا يمكن أن يورث ومن أراده يجب أن يبذل جهدا وعناء كبيرين. فهو يتضمن بالدرجة الأولى الحس التاريخي الذي لا غناء عنه لأي شخص يكون شاعرا”. لتبحث عن ذاتها في عزلتها الطويلة لتصل إلى الحقائق التي تؤرقها من خلال استحضار هذه الشخصيات وما تعانيه لتكون الرؤى والمرايا لواقعها الذي تتقاطع أزمنة تلك الظلال فيه مع زمن الشاعرة.

– ابن جني: سر صناعة الأعراب، م1، ص217.

– التكرير بين المثير والتأثر ، عز الدين علي السيد، ص 84

محمد العلي شاعراً ومفكراً – ص 579

قد يعجبك ايضا