نزيف الكلمات

دلزار اسماعيل رسول

اشتاق جدا لطفولتي…فبعدها انقلبت حياتي راساً على عقب…و ذهبت جهودي عبثا للرجوع إلى سابق عهدي…فبين يوم و ضحاها…بت أعيش في زمان غير زماني…و اضحت الوجوه المألوفة لدي تبدو امامي كوحوش مسخة …تريد القضاء علي و ابادتي بشتى الطرق و الوسائل
بين الخطا و الصواب خيط رفيع…و التفريق بينهما امر صعب للغاية…و بذلك يكون العظماء عظماء…و السفلاء سفلاء…و خطأ واحد…قد يميل دفة حياتك الى الحظيظ…فلا تقدر ان ترجع إلى جادة الصواب مرة أخرى ابداً…لذلك بت أعيش مع أناس هم اقرب الى الغرباء منهم الى الاقرباء…و صرت أبحث و أبحث و أبحث عن تؤم روحي …وبعد أن وجدته …أصبت بخيبة الامل مرة أخرى …
لأني لم أعد اتحمل هذا الكم الهائل من المشاعر …لقد أنهكتني ….ولم يعد بمقدور قلبي و جسمي أن يستوعبها …فهي تأتي مثل موج هائل تريد أن تبتلعني و تقضي علي …فلقد حاولت مرارا و تكرارا …وفي كل مرة تضربني .عاصفتها…اتحملها …و أصل الى بر الامان مرة اخرى …ولا تقضي علي…
لم أعد أتحمل هذا الدفق الهائل من  مشاعر الغيرة .هي تتعامل معي كصديق أكثر من حبيب…و أحيانا تستحوذ كفة الاخير على الاخرى. ..و أحياناً… تعاملني كصديق و حبيب في ان معا…و كلاهما متضادان …فمن الممكن أن يتحول الصداقة إلى حب…ولكن من المستحيل أن يرجع الحب إلى سابق عهده…فهي المحطة الأخيرة التي ليس بمقدورك أن ترجع القهقرى ابدا مهما حاولت…بل يزيدك الما و عذابا فوق عذابك السابق…فكيف تستطيع أن تستمع لها و هي تحدثك عن غريم لك…لو سنحت لك الفرصة…لاذقته الامرين…مثلما يذيقك من حيث لا يشعر…..
ليست لي أي صفة رسمية لكي استحوذ عليها …فما زال امامها مشوارها الطويل للبحث عن رفيق الدرب…وقد أكون انا أو غيري…فهذا بيد القدر …وليس بايدينا…فقد أظلمها من حيث أدري ولا أدري…من حيث أشعر ولا اشعر…سأكتفي بالصمت …مثل ديدني دائماً …و أنا أراها تتقرب من غيري و أذوق العذاب …و يا له من عذاب …هذا الامتلاك الناقص يؤرقني و يقض مضجعي …و ليس لي الحق بأن امتلكها بالكامل …فهي لها حياتها و محيطها و اصدقاؤها .. انها ملكي وليست ملكي…. حالة وسط تقلقني و تقض مضجعي و يترك المجال لكي ياتي اناس اخرون الى حماي و ينتهكوا حرمتي…. انا لا أطيق أن ارى غريما لي ولا ان ارى ملامحه…حينها سوف تظهر جميع علامات الجنون لدي… وقتها  سوف تظهر اولى خيوط هذا الصداع القديم الذي طالما راودني في أيام صباي و تهجم علي مرة أخرى.

لا ادري ما الذي يثير  نار الغيرة هذه…. فتجعله  تؤجج هذه النار المشتعلة في داخلي مرة أخرى…و التي خبت فيما مضى…فتستفز كياني و يقلب مكنوناتي و ترجعني إلى زمن العذاب و المعاناة و الالم الذي عشناه فيما سبق من مراحل علاقتنا…
هل أصبت بحالة مرضية يحول بيني و بين الحب…هل ما أمر به قد أصاب غيري …أم انا الوحيد في هذا الدرب الموحش و هذا الطريق المظلم الذي لا ترى له نهاية …ولا تجد له مخرجا رغم مرور الايام و السنين …لقد راجعت الاطباء …و جلست مع المعذبين امثالي على مصطبة واحدة ننتظر زر الدخول …لكي يكتب لنا ترياق الشفاء …و أنى له ذلك… لقد شاب شعري من اجل هذا العشق و ذبت فيه…لا اجد لها نهاية …ولا يوجد مخرج لها…فنحن في دوامة من المشاعر المتضاربة…تلفحنا بحرارتها و تحولنا إلى رماد…ولا احد يستطيع أن يمد لنا يد العون إلا الله سبحانه…فهو  وحده على جمعنا لقدير….
كنت أحسب أن كل الطرق مؤصدة…ولكن بعث نور في وسط الظلام الحالك و فتح الدرب مرة أخرى …فتراني أجدها امامي روحا و جسداً من غير سدود تمنعنا و من غير بحار يحجبنا …فأصبحنا تحت سماء واحدة أنا و هي ولو لبعض أيام محدودة …نترجى الشمس لكي لا تغيب …و نرجو القمر لكي يبقى بدرا سرمديا …ولكن الايام سرعان ما انطوت …فصرنا نتمسك بتلابيب الذكريات الجميلة التي قضيناها معا …و نستذكر اللحظات الحلوة التي عشنا ثوانيها مع بعضنا البعض بحلوها و مرها ….
كان يراودني رؤيا السفر وحيدا مراراً وتكرارا وكلما انهض من النوم اقول لنفسي هل يعقل أني سوف اسافر لوحدي بدونها …فكنت أقول في نفسي من المستحيل أن أزور وطنها من غيرها …ولن تطأ قدمي موطنها ما حييت إلاّ بدونها و معها فقط دون غيرها .. كيف تطا اقدامي وطنها بدونها …فهذا خارج استطاعتي و من سابع المستحيلات  .فهي الانثى الوحيدة التي تملكت قلبي و عشعشت فيه فاضحت لها موطنا لا تفارقه …و طيفها السرمدي لا يفارقني …لا ليلا و لا نهارا …كسحابة تلازمني أينما حللت و أينما نزلت…و أبادلها الحديث و ترد علي طيفها الماثل أمامي دائماً…فبات هذا ديدننا منذ سنين خلت…أكلمها و تكلمني …و ابوح لها فيما يجول في وجداني…وهي غائبة عني جسداً …و حاضرة أمامي  روحا ووجداناً…
و تحول الحلم إلى حقيقة و بقيت عذراء كل هذه السنوات و سافرت معها و غرفنا كاس الشوق معا و سكرنا في هذه النشوة العذبة…و ارتويت من ماء حياتها حتى الثمالة ..لكي أعوض عطش السنين الماضية التي أمضيتها و انا بعيد عنها….و نسينا الزمن فكنا في حالة خَدَرٍ حقيقي …من دون أن نتجرع ما يسكرنا …ولكن كان كأس الهوى أشد و أقوى .
لم اكن أتصور أننا  في يوم من ألأيام…سوف نصاب بدوار الذكريات معا…و نسافر مع بعضنا البعض في محطات ألأيام…يداً بيد…و جنبا الى جنب …لا تسعنا الشوارع …و تتهافت علينا العيون …و ضحكاتنا تدوي بين رحاب البحار و في أزقة الحواري و في جنبات الجدران …حلم طالما حلمته بتلابيبها و اضع لها سيناريوهات مختلفة …اغير فيها بين الفينة و الاخرى لكي اضع عليها الرتوش الاخيرة ، ولكن سرعان ما كنت أبدد كل ما صنعته و أعيد صياغته من جديد…و أخيرا جاء الميعاد …و حولت ذاك الحلم الى حقيقة ملموسة…فها هي في يدي …..نطوي الارض معا …بسعادة و هناء…لا يمنعنا مانع …ولا يحول بيننا رادع…
كنت اتاملها وهي نائمة حتى اصاب بخدر النوم و اصحو لك اجدها بجانبي…ضائعة في أحضاني ، مستغرقة في نوم سرمدي ، مثل غزالة بريئة وجدت أخيرا مستقرها و مأواها بعد بحث مضني و ألم شديد و مخاض طويل …. ولا اصدق نفسي…هل هي نفسها أم أعيش أحلامي السابقة …و أعود الى نفسي …كلا…أنا في الواقع …أنها هي هي …فأتمسك باللحظات …علّها لا تتسرب بين أناملنا بسرعة …ولكنها تسربت و بسرعة طاغية و بدون رحمة …
كنت اتاملها وهي تقود السيارة و افتش في ملامح وجهها التي لم اكتشفها بعد…كنت اشفق عليها وهي تبدد علامات التعب عن وجهها من أجلي …فاضحت أكثر جمالا فيما مضى ..فتشع نورا يزيد من تألقها ..فأزيد لها أنجذابا و تودداً …كانت في قمة نسيان الذات من أجلي …حتى أننا أصبحنا كينونة واحدة لا اثنين …كأن حواسي في أجازة و استعمل كل حواسها نيابة عن حواسي …كأني طيف في أحشائها …فتراءت لي طبيعتها الخلابة أكثر …و تراءت لي جمالها الداخلي أكثر من جمالها الخارجي …لذلك بت لها اكثر عشقا و اكثر انسيابا وراء حبها الخالد …
حينما كانت معي و انا ممسك يدها نتمشى في دروب هذا العالم الرحب …كنت احسب نفسي ممسكا بتلابيب ذرات جميع نساء العالم ….فهي تمثل لي كلهن اجمعين…فلم يعد بي رغبة ان انظر لغيرها حتى…فقد ولدت عندي اشباعا روحياً …قبل جسديا…فصرت مكتفيا بها من دون جميع اناث الدنيا قاطبة…فلم اعد ارى غيرها…حتى و ان وقعت عيني على غيرها و هي غائبة عني…اقول هذه تشبهها في عينها…و هذه تشبهها في خصرها…و هذه…و هذه…و هلم جرا…الى ان استجمع كيانها امامي من التماثيل البشرية…
هناك اعمال تقدم عليها …هي خطيئة بنظر العقل تقوم باقترافها …ولكن من وجهة القلب …هي ما يتوجب عليك فعله رغما عن العقل…فتكون في صراع بينهما …ولكن في لحظة من اللحظات …زادت كفة القلب على العقل …و  استغلتها ..و أقدمت على ما أقدمت عليه …رغم نصح الناصحين …و موعظة الواعظين …ولست نادماً…ولا ادري لماذا…هل هناك عقد قلبي بين و بينها أم هناك رابط روحي اكبر من جميع العقود الارضية حسب الشرائع الموضوعة …لا ادري …ولم أجد لها جوابا لحد الان…
كنا نسافر في مسافات بعيدة و في نفس الوقت كنا نطوي المراحل الزمنية التي كنا نعيشها في ما مضى والتي مررنا بها في مشوارنا الطويل مع بعضنا البعض في مراحل سابقة مرت علينا …مكتوبة باقلام من دم…ولم نفسح لها المجال لكي تخرج رأسها و تكدر علينا هذه اللحظات الرائعة …فعشنا أياما جميلة من دون أن ننكأ الجروح …ولا نفتح المواجع…بل نعيش اللحظة و كفى …
لا اعرف لماذا صرت شخصية قلقة غير مستقرة ولا متزنة …حين أقترب منها …تصاب كل خلايا جسمي بالاهتزاز و عدم الاستقرار …لا ادري ما الحل لذلك …لا أعرف ما هذا الدوار الذي يصيبني حينما نستذكر ما مضى و نريد أن نعيد مع بعضنا البعض كيان حب مضى و نريد استرجاعه الى الحياة مرة اخرى…حينما نقص على بعضنا البعض احداث قد مرت علينا و اضحت تشوه ما رسمناه مع بعضنا …و نريد أن نزيل هذا الغبش عليه…
حينما افترقنا عن بعضنا البعض…كانت تلازمني في جميع رحلاتي و أسفاري …كنت اشعر بطيفها يلاحقني …و خيالها يمر من أمامي…مرارا و تكرارا…و روحها مثل سحابة تظلني …كنت اجمع شتات جسدها من طيف النساء اللاتي أراهن أمامي …هذه تشبهها في تلك…و هذه تشببها في ذاك…و كنت ألملم شتات نفسي بهذه التهيئات الرائعة …
هي من غيرت في داخلي تصورات الجاهلية …و غيرت في شخصيتي صفات كثيرة …بصبرها و أناتها …و بقوة حجتها…هي من علمتني الابجدية الاولى للخطاب مع المراءة …و كيفية الوصول الى قلبها…بتودد و حلم…هي من تسببت في قراراتي المستقبلية المصيرية الصائبة…
و حينما رجعت الى وطني… كنت أسلي نفسي و أقول…هذه نفس الشمس التي كانت تظلنا …و هذا هو نفس القمر الذي يطلنا و الذي كنا نتأملها سوية مع بعضنا البعض . حينما كنا نتهامس على شاطئ البحر و نهمس لها باسرارنا و دفائننا……فيا لها سلوى للمعذبين المعدمين أمثالي..التي رمى بهم القدر خارج حماهم …و باتوا أسرى لدى أناس لا يمتون لهم بصلة …سوى ما فرض عليهم الواقع أن يرضخوا له رغم أنوفهم…
أريدها أن تكون بقربي اجوب معها الوديان و الجبال…و احلم بذلك دائما…و اتمناه من كل قلبي…و طالما تخيلت ذلك…ولا ادري هل يتحول ذلك الحلم الي حقيقة ام لا…ام خلق الله سبحانه الخيال للمعذبين امثالي…الذين لا يسمح لهم الواقع ما يحلمون به…بل يظل بين طيات الفؤاد…يطل بين الفينة و الأخرى…و يحل علينا مثل شذى الندى…و يهب علينا كريح الصبا…
في كل صباح …حينما أنهض من النوم…اتذكرها و ارسل لها على نسماتها الرقيقة…تحياتي و شوقي لها…لكي توصلها إلى بلادها البعيدة عني…و تعلمها اني اتذكرها دائما و اريح دموعي المحملة عليها شاهدة على صدقي و مودتي…
لقد اشتقت الى ملمس بشرتها الناعمة و اشتقت الى احاديثنا الشيقة على البحر على إيقاع أصوات الامواج المتلاطمة…و اشتقت إلى صوتها العذب الرقيق الذي يتسرب إلى القلب قبل الأسماع من شدة عذوبتها…و اشتقت الى لقائها مرة أخرى…
كفى بنا سلوى لاحزاننا…أن ذوو الوجدان و القلوب…يشاركوننا وجعنا ….و نهمس لهم الامنا…و تصغى أسماعهم لنا…و يشحذوا هممنا للاستمرار في هذا الحب السامي…و عدم الاستسلام او المخاذلة في طريق الهوى الصادق…و كفى به سلوىً لقلبي…من يشاركني أحزاني و همومي..فصار ثقلي الذي يئن له فؤادي …يحمله عني أصحابي…و يخففوا وزرها عني ولو لبعض الوقت…و يتحملوا جزءاً من عبئها و ثقلها… و يشاركوننا في طريقنا الانساني السامي… 
كفى بنا فخرا…اننا حتى حينما افترقنا عن بعضنا البعض…فيما مضى…لم تهن علينا عشرتنا…فكنا دائما نذكر بعضنا البعض بالخير…و نحن لا نعلم اخبار بعضنا البعض…و نذرف الدمع حينما نسمع،احبب من شئت فانك مفارقه…و لكن شاء الله…ان نجتمع بعد فراق طويل…عسى أن لا نفترق ابدا…سوى ان يغيبنا غياهب الموت…
هناك سمة مشتركة بيننا…و هي التخاطر…فكنت اعرف احزانها …و هي بعيدة عني آلاف الكيلومترات و نحن مفترقان و لا يعرف احدنا شيئا عن الآخر …و قد شعرت بموت شخص مقرب منها و كتبت عن الموت في الجرائد…وهي مثلي كنا نشعر بآلام بعضنا البعض من حيث نشعر ولا نشعر…و لكن شعورى كان اشد و أطغى…
حتى اني في احد الصباحات في قريتي…شعرت كأن شيئا وقع مني…اكاد اسمع صوت ارتطامه بالأرض…و شهقت شهقة عنيفة…ارتجت لها أوصالي…و نزفت لها قلبي…عرفت فيما بعد…انها قد خطبت لرجل ما على هذه البسيطة…و شائت حظه العاثر ان يعبث بارضي و يصول و يجول في املاكي…لا ادري كيف يهنأ لرجل ان يغرس رمحه في شعاب غيره…و يطيب به المقام ان ينام قرير العين في فراش رجل اخر  مسكين…قد رمت به الأقدار  بالشقاء …لا ادري كيف يطيب له العيش…سؤال يحيرني و يقض مضجعي…و الحمدلله قد فسخت ولم يكتب له الدوام…و إلا كنت أدعو عليه الى يوم الدين…دعاء يصل الى السموات السبع و كل من فيها يسمع اهاتي …و تلاحقه سخطي الى يوم مماتي…
ولا زلت احقد عليه حقدا…لو وقع تحت يدي…لقطعته اربا…و مزقته بيدي العاريتين…فمثله قد طغى و بغى…ولا يستحق الرحمة و الغفران…و مصيرهم في مزبلة التاريخ…لانه سفك دما سفاحا…و سبى محارم غيره…

قد يعجبك ايضا