الشاعر القتيل   

 

 د . صباح ايليا القس

سلاما لك أيها الشاعر الشاب المسكين القتيل الجاهلي طرفة بن العبد , يا من تتفقدك ربات الشعر وتنتظرك باصطبار الصبايا والمراهقات بوصفك ما تزال تتمايل بشبابك , أنت المسكين الذي قال لاحقا ابو فراس الحمداني جملة تنصفه وتنصفك ( لم يمتَّع بالشباب ) . كنت في الخامسة والعشرين حين داهمتك مقصلة الموت وجرى تسجيلك في سجل المعدومين حيث ماتت المشاعر والاحاسيس ودفنت العبقرية الطرية والعقلية الناضجة ومن دون ان تدري فقد خسرتك الخمارات ايضا ولكن الخسارة الكبرى كانت في ضياع عقلك الفلسفي برغم الصبوات والتهتك وحزن الدنان .

من والد من سادات بكر بن وائل وعلى فراش الرمال الصحراوية ولد طرفة بن العبد وعاش الطفولة في اجواء المساحات المفتوحة على الافق غير المنتهي متباهيا بولادته من عائلة ذات شرف ومقام محمود ومنزلة يحسده عليها الاقران .

يقول متباهيا :

لقـــد علـــم الاقوام انّا بنجـــــوةٍ      علتْ شرفا أن تضام وتشتمـــا

لنا هضْبة لا يدخل الذل وسطها      ويأوي اليها المستجير فيعصما

وتشاء الاقدار ان تسلبه ابويه فيعيش محروما يتيما لا يعرف للابوة والامومة طعما حتى ان اعمامه أهملوه بل سلبوا حقه .

حتى تراه يقول في ثورته على أهله من الاعمام والاخوال :

فما أراني وابن عمــــي مالكــــا         متى أدن منـه ينأ عنــــي ويبعـــدِ

وظلم ذوي القربي أشد مضاضة        على  المرء من وقع الحسام المهنّد

إن أقسى انواع الظلم حينما يجد الانسان أن أقرب الناس اليه لا سيما في الطفولة والشباب وعوضا عن الحنان والحب تكون جريمة النكران والحرمان بل والتجاوز .

إن البيت الثاني من الابيات المشهورة والتي يتمثل بها في نكران الاقارب ومدى القسوة التي تفوق ضربة السيف .

طرفة بن العبد هو ابن اخت المتلمس ( جرير بن عبد المسيح ) الشاعر الجاهلي المعروف واسمه دليل مسيحيته وعلى الاغلب يكون ابن اخته مسيحيا ايضا .. وكلاهما يشترك في قصة الصحيفة لانهما قاما بهجاء عمرو بن هند عظيم المناذرة فأضمر لهما امرا حاقدا ظل في نفسه .

ومر زمن وتصالحوا فمدحاه واكراما لمدحهما فقد طلب منهما أن يذهبا الى البحرين ليقبضا الجوائز .. وكان قد كتب الى والي البحرين بضرورة قتلهما اذا وصلا وسلمهما الصحيفتين .. فخرجا يطلبان البحرين وفي الطريق شك المتلمس في الامر فعرض الصحيفة على غلام يقرأ فقال الغلام : ثكلتْ المتلمسَ أُمُّه فصدق شك المتلمس ورمى الصحيفة في النهر وانطلق الى الغساسنة في الشام . اما طرفة فلم يسمع النصيحة ومضى الى عامل البحرين فأنفذ فيه وقتله .

وطرفة من شعراء المعلقات فهو على الرغم من شبابه وقصر عمره الى انه تجاوز شيوخ الشعر الجاهلي وسجل اسمه بوصفه واحدا من شعراء المعلقات التي هي من أحسن ما قيل في الشعر الجاهلي كما قرر النقاد ذلك لانه شب عبقريا ربما كان لليتم دور في ذلك اما المعلقة فمطلعها يبدأ بالبكاء على الاطلال واستذكار خولة التي يبكيها بوصفها الحبيبة   الغائبة .

لخولـــــة أطلالٌ ببرقـــة ثهمـــــدِ          تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليدِ

وقوفا بها صحبي عليّ مطيهـــــم          يقولـون لا تهلك أســــىً وتجلّــــدِ

وقد علق ابو العلاء المعري على هذه القصيدة ( المعلقة ) في كتابه رسالة الغفران يقول ( لو لم يكن لطرفة أثر إلا قصيدته على حرف الدال ( يقصد القافية ) لكان قد أبقى أثراً حسنا ) .

إن طرفة لم يكن في شعره عامة ومعلقته خاصة شابا اعتياديا بل كان خارقا عبقريا ملهما مقتدرا له عقلية رجل قد احكمته التجارب لا يقدر عليها إلا من اعطاه الله موهبة الابداع .

قد يعجبك ايضا