الترجمة والمترجمون

 

د . صباح ايليا القس

عرف العرب الترجمة منذ نهاية العصر الاموي , واشتدت الحاجة الى الترجمة التي شجع عليها الخلفاء وبذلوا في سبيلها الكثير من الاموال لان المترجمين ولا سيما السريان نقلوا الى الحضارة العربية اغلب ما موجود في الحضارة اليونانية ولا سيما في الفلسفة والرياضيات والفلك والطب , تلك العلوم التي لم يكن العرب على اطلاع واسع فيها غير ناسين ان فن الادارة لا سيما ما يتعلق بحقوق الجند والامور الدبلوماسية فلم يكن الخلفاء الامويون يعرفونها حينها اعتمدوا على المسيحيين في ترتيب الامور الادارية والحسابات وتنظيم المساكن واستقبال وتوديع الضيوف فضلا عن وسائل السكن والعيش التي ارتقت كثيرا عما كان معروف عند الجاهليين .

لم تكن للمترجمين المكانة التي ينعمون بها حاليا لا سيما في الوسط الادبي على قلتهم قبل قرن من الزمان مثلا وظل ذلك التصور حتى كدنا نعتقد انهم لم يحصلوا على مقعد في المقامات الادبية او ان للمترجمين قيمة بسيطة ولا يحشرون في خانة الادباء وربما لم تكن النقابات الادبية تقبلهم في صفوفها وربما تسرب اليأس اليهم حين يجري التعامل معهم في الميادين الادبية على انهم ضيوف على المهنة وليسوا اساسيين في المقامات المهنية وربما طعنوا في الصفة ايضا بحيث يحذفون صفة المترجم ويعيدون النسبة الى زمن العباسيين بلفظة ( المعرِّب ) وربما يتجاهل احدهم فيحذف هاتين الصفتين ويقول او يكتب جملة ( نقله عن اللغة … ) وفي هذا الامر اهانة وطعن وتجاهل يصعب تحمله ..

ينسى بعض المسؤولين غير المنصفين جهد المترجم ومدى معاناته وسهره وتعبه وجهوده عند نقل الفكرة لا سيما اذا استعصت عليه العبارة والكلمة وما يكابده المترجم من لوعة لاختيار الكلمة المناسبة للفكرة التي يعالجها فالامر ليس سهلا بل ان الامر بحاجة الى تقليب المعاجم والبحث في المصادر لمزيد من المصداقية لا سيما اذا كان المترجم لم يفهم اساسا بعض الافكار الغريبة والعبارات الفلسفسة الدقيقة في توصيفاتها ..

لم يكن المترجم يبتغي سوى نقل المعارف الى المتلقي والناس ربما لم تكن على وفاق مع المترجم اذ كان يعد رجسا من عمل الشيطان فالكتب المترجمة لم تكن تجد المكانة المناسبة لها في صفوف المثقفين الا اقلهم ممن يعرف حقيقة التبادل الثقافي بين المجتمعات بل حتى لم يتوقف النقاد عند الكتب المترجمة بالشرح والتحليل وبيان الغث من السمين كما يحدث بالنسبة للكتب والاصدارات الادبية الاخرى لا سيما الدوايين والقصص والروايات والمسرحيات والدراسات وغيرها من الابداعات ..

هذا اذا لم يتناولوه بالنقد السلبي فضلا عن التأنيب والتجريح مقللين من قيمته الشخصية وانجازاته الادبية لا سيما الطعن في الامانة والاسلوب والمعنى والدس وضعف القدرات وضياع الطاقات وغير ذلك من انواع التسقيط .. ولكن عميد الادب العربي انصفهم وكان لقوله فيهم القول الفصل حيث تغيرت الفكرة وتبدلت النظرة حين قال ( ان الذين يترجمون آيات الادب والفن والفلسفة ينسون انفسهم ويمحون شخصياتهم ويقتنعون بمكان المترجم الذي ليس هو بالقارئ المستريح ولا المنتج النابغة , لكنه صلة بين الرجلين : ولا حظَّ له من راحة الاول ولا حظَّ له من مجد الثاني وانما هو خادم مخلص آمين , يرفع القارئ الى حيث يذوق جمال الفن وجلاله , وحيث يشق لآثار النابهين من الادباء والفلاسفة طرقا جديدة .. هذه منزلة المترجم يراها الناس بسيرة وأراها جليلة الخطر . وحسبك انها هي التي تحقق الصلة القوية بين الاجيال والشعوب . فتزيل ما بينهم من الفروق وتدني بعضهم الى بعض ) .

وليس لي قول أقوى وأفضل من قول طه الحسين في حق المترجمين ولهم حق المباهاة بما جاءهم من اديب له مكانته غير الخافية لانهم يستحقون الاحترام والمقام السامي لاعلاء شأن التلاقح والتبادل الحضاري والادبي والانساني .

قد يعجبك ايضا