(الجزء الثالث )
الدكتور محمد الربيعي
اهمية وضرورة إصلاح التعليم العالي، يتعين علينا الآن تحديد العناصر الأساسية لهذا الإصلاح، والتي أعتقد أنها تتمثل في النقاط التالية:
1- تطوير المناهج وطرائق التدريس والتخلص من اسلوب التلقين وحشو المعلومات واعتماد التفكير النقدي معيارا رئيسيا في القبول والتدريس والبحث العلمي. وهذا يعني التحول من التعليم الى التعلم والتأكيد على نشاط الطالب وانتاجاته من خلال اعادة انتاج معارف الاخرين وابتكار اخرى جديدة، اي تحويل الطالب من دوره السلبي بتلقي المعلومات فقط الى دور ايجابي يعتمد بدرجة كبيرة على استنباط المعلومات بنفسه وبمشاركة زملائه وتوجيه واشراف استاذهم، وحيث يتطلب منه (اي الطالب) اتقان جميع ما اكتسبه من مهارات الدروس.
2- اعادة هيكلية الجامعات بما يساير التطور العالمي في الادارة الجامعية والتنظيم الاداري للجامعات ومنع الفساد. وبالرغم اني لا ارغب هنا من اقتراح نظام اداري واكاديمي معين الا اني ارى اهمية في نظام ادارة الجامعات يتضمن لمجلس امناء بالإضافة لمجلس اكاديمي ومجالس استشارية خارجية، ودمج الجامعات القريبة من بعضها وتقليل عدد الكليات في الجامعة الواحدة.
3- نظام فاعل لضمان الجودة والاعتماد الاكاديمي، يمكن ان يكون عبر تأسيس هيئة مستقلة لضبط الجودة مرتبطة بمجلس الوزراء. وهذا النظام يحتاج الى ادوات تقييم انتاجية لكي توفر اجابات واضحة لما هي رؤية الجامعة والاهداف التي تسعى لتحقيقها؟ كيف يمكن قياس نجاح الجامعة؟ ما هي انظمة التقييم وقياس النوعية والجودة؟ وما هي المواضيع التي تسعى الجامعة لتحقيق الصدارة والتميز فيها؟ والتقييم يبنى بالاساس على توفير اجابات شافية للأسئلة التالية: ماذا تحاول أن تفعل الجامعة؟ لماذا تحاول أن تفعل ذلك؟ ما هي الطريقة التي ستتبعها؟ لماذا تفعل ذلك وبهذه الطريقة؟ لماذا تعتقد ان هذه هي الطريقة المثلى للقيام بذلك؟ وهل تعرف الجامعة كيف يتم التحسين؟
4- تنمية مستوى كفاءات ومؤهلات الموارد البشرية ومنها اكتساب مهارات تقنية متقدمة وتعزيز المهارات الأساسية وتنمية المهارات الشخصية وتعزيز المهارات اللغوية والحصول على شهادات احترافية بحيث يكون هدفها تحسين الاداء والابتكار وتعزيز قدرة المنافسة.
5- تعزيز تنافسية الجامعات من خلال ربط سياساتها وسلوكياتها بمتطلبات سوق العمل واحتياجات المجتمع العراقي، بدلا من التركيز الحصري على ابتكار برامج تماثل تلك المطبقة في الدول المتقدمة.
6- تطهير الجامعات من الفاسدين وانصاف المتعلمين وحملة الشهادات المزورة والمتهربين من العمل.
7- الإدارة اللامركزية للجامعات والمرونة التنظيمية والهيكلية وضمان الحرية الاكاديمية. ان تطبيق مفهوم استقلالية الجامعة يعتبر الضمانة الرئيسية لاداء الاستاذ لمهماته الاكاديمية وكذلك للتخلص من قبضة الثقافة البيروقراطية، فالاستقلالية تشجع الاختلاف في المناهج الدراسية بين الجامعات المختلفة وبما يتناسب مع قدرات كل جامعة وامكانياتها البشرية وحاجة مجتمعها، وفي هذه الوصفة يكون لقيادات الجامعات والكليات والاقسام حقوق كاملة في الادارة، وعندئذ يكون حجر الاساس في ادارة الجامعة هو التدريسي، والمرونة التنظيمية والهيكلية لمختلف مؤسساتها هو جوهر ادارتها.
8- التعاون الأكاديمي والعلمي مع جامعات الدول المتطورة لكون التعاون الأكاديمي والعلمي مع جامعات الدول المتطورة أداة استراتيجية لتعزيز قدرات العراق في مجالات التعليم والبحث العلمي. من خلال تنفيذ مشاريع بحثية وبرامج تدريسية مشتركة، وعقد مؤتمرات وندوات علمية، وتأسيس مراكز أبحاث مشتركة، تتيح هذه الشراكات تبادل المعرفة والخبرات وتطوير المهارات وتعزيز الابتكار وبناء علاقات دولية قوية.
9- زيادة مصادر التمويل والانفاق بسخاء على البنية التحتية للجامعات ومؤسسات التعليم الاخرى، وإقامة المشاريع التعليمية سواء الدراسات الأولية، أم الجامعات، أم مدن العلم (التي يمكنها من جذب أفضل العقول من الخارج) أم مشاريع البحث العلمي والتطوير، اذ يصب كل هذا في تنمية الموارد البشرية التي هي أساس التنمية الاقتصادية واستثمار عقول الشباب العراقي لمواجهة تحديات العصر والاستجابة لمتطلباته. ان اي اصلاح بدون توفير اموال جديدة وكافية لا يمكن ان يحقق الغاية منه.
10- برنامج ابتعاث واسع النطاق. الشهادات العليا وخصوصا الدكتوراه من الجامعات العالمية الرائدة ضرورية لتطور التعليم ولاقتصاد البلدان النامية، لذلك ركزت هذه البلدان خصوصا بلدان جنوب شرق اسيا وبلدان الخليج العربي والصين على تمكين ابنائها من الدراسة في الخارج.
11- تأسيس مجلس للتربية والتعليم العالي والبحث العلمي والابتكار والتطوير مرتبط برئاسة الوزراء، بحيث يمثل هيئة مستقلة ذات طبيعة استشارية للتفكير الاستراتيجي في قضايا التربية والتكوين والبحث العلمي، وآلية لرصد عمل وتطور المنظومة التربوية.
هذه هي المكونات الجوهرية لإصلاح التعليم العالي، وهي نفس العناصر التي تناولتها في مقالاتي السابقة حول الاصلاح وشددت على أهميتها في سياقات متعددة. بالطبع، هناك جوانب أخرى قد تكون ذات أهمية بالغة للتدريسيين الذين تعاملوا مع تحديات التعليم ومشكلاته في الجامعات العراقية. ومن هنا، تبرز الحاجة الى تأسيس لجنة عليا مختصة بتحديد المعايير الرئيسية واعداد خطة متكاملة للإصلاح.
والخلاصة، لقد أصبح ضروريا اصلاح نظام التعليم العالي والبحث العلمي بشكل شامل لمواكبة متطلبات القرن الواحد والعشرين، فالتأخر الزمني وضعف الجودة يعيقنا عن التقدم في هذا المجال، وان مسألة العلاقة بين التدريب وسوق العمل هي المسألة الأساس في أي مشروع للإصلاح الجامعي، بالإضافة الى ان عملية الاصلاح والتطوير وتغيير القوانين غدت حتمية لا مناص منها، ونتطلع من خلال هذه العملية لمستقبل باهر للتعليم العالي والبحث العلمي في العراق .