أحمد عواد الخزاعي
بمعزل عن عناصر الرواية الرئيسة، التي يستمد القارئ منها معطيات النص ودلالاته، كتب سعد سعيد روايته «فيرجوالية» لتكون نصا حكائيا مجرداً، يشكل الحوار عموده الفقري، بغياب عنصر الزمان، الذي يلعب دوراً مهما في بناء النسق الحكائي وتسلسله، وعنصر المكان المسؤول عن منح القارئ منصة لرؤية الأحداث والتفاعل مع بيئتها، إضافة إلى افتقادها أهم عنصر في السرد الروائي وهو (الحدث الحقيقي) الذي يشكل قطب الرحى الذي يدور حوله النص ويستمد منه شرعيته ووجوده. كل هذا الإرباك الذي أحدثه سعد سعيد في أبجديات السرد الروائي، هو بالمحصلة لا يشكل مثلبة عليه، بقدر ما هو إيذان بولادة أسلوب سردي حداثي، يمكن أن يتواكب مع التطور الحضاري والتقني، الذي يشهده العالم، برؤية فنية تفاعلية تستمد أدواتها منه، فهو نص افتراضي غرائبي غير واقعي في معطياته وبواعثه، ينشأ من حصول عطل في حاسوب روائي، ينتج عنه حوارات جدلية افتراضية بين الكاتب ووحدة (SSR2981957-TS) في الحاسوب التي لم تخل هذه الجدليات من حضور المنطق والفلسفة فيها.. (SSR2981957-TS لا يفهم معنى كثير من الكلمات يستخدمها بشر مثل فلوس، جنس، أنثى، رجل، امرأة، شرف، أخلاق، مبادئ وغيرها) بعد هذا الحوار بين أنس حلمي مع وحدة SSR في الحاسوب، الذي يطلق عليه اصطلاحا (السرد الكاذب) كون أحد طرفي الحوار ليس له وجود حسي على أرض الواقع.. تقرر وحدة SSR الحاسوب أن تنشر كل حوارات الروائي أنس حلمي على مواقع التواصل الاجتماعي (قرر SSR2981957-TS أن يستعيد معلومات محذوفة وينشرها على مواقع حقيقة حيث تعود مدير أنس حلمي أن ينشر بعض ما يكتب). هذا الحوار الافتراضي الكاذب، يفتح للنص مدخلاً آخر أكثر صدقاً من سببيته، عندما يبدأ جهاز الحاسوب باستعراض حوارات أنس حلمي مع مجموعة من أصدقائه الذين كان معظمهم من النساء، وهنا يبدأ سعد سعيد باستخدام أدواته الفنية والمعرفية في صياغة شخصياته وميولها وأفكارها وتناقضاتها، بغياب البعد السيميائي عن النص وتفاعلاته البيئية (تأثيث مكان الحدث) و(التشيؤ: أي ارتباط الأبطال بالمكان وتأثيراته النفسية والسلوكية فيهم). سبع شخصيات مختلفة (بيئياً ومعرفياً وثقافياً ونفسياً وسلوكياً) اتجاه ثابت معرفي وثقافي ونفسي واحد هو (أنس حلمي) الذي أشار النص في بعض محطاته إلى أنه الروائي نفسه، وذلك بذكر اسم روايته محل النقد (فيرجوالية) وهذا إشعار تطميني للقارئ لإيقاعه بما يعرف بـ(وهم الإقناع) أي حضور الروائي في نصه.
حوارات مطولة وأخرى مقتضبة، وانتقالات سردية سريعة بين هذه الحوارات، التي تنوعت بين شاخصين رئيسيين هما (الثقافة والجنس) مع الحفاظ على بؤرة علائقية مركزية، هي علاقة البطل أنس حلمي مع (روح هائمة) التي سعى الروائي إلى انتشال هذه العلاقة من واقعها الافتراضي إلى الوجودي، حين أقدم بطله على السفر إلى أستراليا لرؤيتها، بعد أن عرفت بطبيعة علاقته الجنسية مع قريبتها ميساء، في انتقالة سردية عمودية، غريبة ومفاجئة تقاطعت مع أفقية النص ونسقه الحكائي، الذي أخذ منحاً حوارياً افتراضياً هو أقرب إلى ما يسمى بـ(مسرح العبث) فانتقل النص من التعاطي مع العالم الافتراضي وبواعثه النفسية وتأثيراته في سلوك الإنسان المعاصر، إلى الحديث عن أخلاق ومبادئ البطل أنس حلمي، الذي رفض أن يمارس الجنس مع روح هائمة، لتعارض هذا الفعل مع مبادئه وأخلاقه وقيمه السامية.. لكنه برر هذا العمل على لسان بطله في حوار لاحق بينهما:
روح هائمة: لكن أعبرت المحيط الهادئ لتبقى ثلاثة ايام فقط هل أنت مجنون؟
أنس حلمي: لقد أخبرتك منذ البداية
روح هائمة: ما الذي أخبرتني به؟
أنس حلمي: إنني مجنون
ربما فسرت مفردة (مجنون) الكثير من التذبذب الذي طال شخصية البطل أنس حلمي، وتأرجحها بين (الرذيلة والفضيلة، العهر والشرف، الصدق والكذب، المكر والنبل) وما يفسر جزء من هذا التذبذب، هو الإطار الحكائي العام الذي منحه صفة (الصياد) في العالم الافتراضي الذي زج نفسه فيه هربا من مشاكل زوجية معقدة.. لكنه حاول أن يظهر خلاف ذلك، بلعبه لدور الضحية بين الحين والاَخر، كما في طبيعة علاقته مع (ميساء) التي لقبها بالعاهرة، حين خطط وألح عليها لاستدراجها إلى لقاء حقيقي كي يمارس معها الجنس، وعندما تحقق له ما أراد، استنكر ما حصل، وألقى باللوم عليها.
«فيرجوالية» نص رائد في عالم السرد الروائي، لأنه انتهج التجريد كأسلوب حداثوي، متعكزاً على ركيزتين أساسيتين:
أولا: العنوان الغريب «فيرجوالية» الذي أشار الروائي إلى معناه من خلال حوار ثقافي بين أنس حلمي وروح هائمة:
– أهلاً بك في العالم الافتراضي في الفيرجوالية
– ماذا؟
– الفيرجوالية هي كلمة من اختراعي مأخوذة من (virtual world) وهي تعني العالم الافتراضي.
لكن هذا المصطلح العلمي التقني الذي استنبطه الروائي من مفردتين إنكليزيتين، هو قريب من حيث اللفظ والمغزى من مصطلح طبي يسمى (متلازمة فيرجولي): وهو نوع من الاضطرابات النفسية النادرة، التي توهم الشخص أنه يرى جميع الناس شخصاً واحداً، فأي شخص يقابله سواء يحبه أو يكرهه هو الشخص نفسه. وهذه المقاربة التي ربما تكون قد حدثت مصادفة في العنوان، هي مماثلة لجزء من السلوك النفسي للبطل، الذي اعتمد على الشك والريبة والميل الغرائزي مع كل المتحاورات.. لكن يبقى ما أشار اليه الروائي في تعريف العنوان هو الأساس في تعاطينا مع النص وعنوانه.
ثانيا: العالم افتراضي، الذي زج الروائي أبطاله فيه، من خلال مواقع التواصل الاجتماعي ونوافذه التي تتيح للمستخدم التحاور مع الآخرين بكل حرية، وتجريد النص من كل أدواته الفاعلة والمؤثرة، التي تشكل دعائم رئيسية للفن الروائي التقليدي، واعتماده على الحوار فقط في إيصال ما يريد، مستخدماً لغة حداثية، وهي الأداة الوحيدة لدى سعد سعيد في إدارة النص، التي اتسمت بالبساطة والذكاء في انتقاء المفردات، ومراعاة المستوى الثقافي والمعرفي للمتحاورين، وحضور الاصطلاحات الحداثية العلمية والتكنولوجية المعاصرة، وكان يجب أن يبقى النص في هذا الإطار الافتراضي التجريدي، ومنعه من الانزلاق إلى الواقع الفعلي، كما حدث في علاقة البطل مع روح هائمة، وتطور هذه العلائق الافتراضية بدافع غرائزي منفلت، لكن الروائي أعاد النص إلى واقعه الافتراضي التجريدي، من خلال الخاتمة، التي مثلت حوارا افتراضيا كاذبا بين وحدة SSR وأنس حلمي، عَبر حوار فلسفي يعي جيدا أزمة الإنسان المعاصر في هذا العالم المادي وسطوته عليه:
– يا مسكين هذا الذي لن تستطيع إتقانه أبدا ولذلك ستبقى مجرد آلة
– قلت لك إني لست آلة
– كائنا ماكنت أنت لست إنسانا ولذلك لن تفقه المنطق الحقيقي
– لم أفهم ما تريد قوله
– ولن تفهم.. فالإنسان يستطيع أن يخرق المنطق أحيانا ومع ذلك يبقى بأمان.