أربيل آخر قِلاع الهويّة الكوردية

 

شڤان إبراهيم

 

الجزء الثاني

 

مع تعمّق العلاقة الطردية بين مكانة كوردستان في المدرك والتوجّهات الاستراتيجية الأميركية في الشرق الأوسط والخليج العربي، وفي كلّ تعامل إيجابي من واشنطن مع هذه العلاقة والمكانة، تنجح واشنطن أكثر في تحقيق الأهداف الاستراتيجية في الشرق الأوسط، إذ تمثّل أربيل قاعدةً رئيسيةً في مواجهة التمدّد الإيراني في تلك الخاصرة، خاصّة بعد سيطرة طهران على الغالبية العظمى من العراق، بما فيها أطرافٌ من كوردستان نفسها، وتمكين العلاقة بين أربيل ومجلس التعاون الخليجي يعني تمكين الأهداف الاستراتيجية الأميركية في الخليج، والعلاقة عكسية، فكلّ قصور في التعامل، أو في كلّ سوء فهم، انعكاس سالب على ملفّات محورية عديدة، مثل قضية الغاز والقوى السياسية والعسكرية الديمقراطية. وكلّها عوامل مهمّة لواشنطن في تثبيت الاستقرار السياسي الهشّ في العراق، وفي الأدوار المستقبلية التي يمكن لها أن تلعبها بين الكورد في سوريا لاحقاً، بناءً على المدّ القومي والوجداني لأربيل ضمن كورد سوريا. ولا يمكن فصل العلاقة بين واشنطن وأربيل مع وجود الجيش الأميركي في سوريا والعراق، وأهمّية أربيل ودهوك في الدعم اللوجستي للقوات الأميركية المنتشرة في الجانب السوري.

 

ما يملكه إقليم كوردستان في العراق من موقع جيواستراتيجي، وعمق ثقافي، ورمزية حضارية، ومداخيل اقتصادية هائلة، وما تشكّله أربيل من رمزية قومية كوردية (بل أكثر قلاع الدفاع عن الهويّة القومية الكوردية)، ودور “البيشمركة” في تغيير النظام العراقي السابق، وتأمين الاستقرار بعده… هذه كلّها مرتكزاتٌ مادّيةٌ ومعنويةٌ وقوميةٌ ووطنيةٌ عزّزت أهمّية إقليم كوردستان الاستراتيجية، إقليمياً ودولياً، فأصبح محطّ أنظار الدول الكُبرى وتطلعاتها، وضمن المرتكزات الأساسية للمجتمع الدولي، وباتت له أدوارٌ واضحةٌ ضمن التوازنات الإقليمية والدولية، خاصّة بعد عام 2003.

 

أدّى ذلك إلى تزايد أهمّية الإقليم في مدركات أغلب الدول، فوجد بعضها في أربيل وسيلةً لبناء علاقات جديدة، والحصول على فرص اقتصادية وعسكرية واستراتيجية عن طريق تحقيق التفاهم مع الإقليم. في حين تجد أطراف وأحزاب أخرى في تطوّر النظام السياسي والحوكمي والاقتصادي في الإقليم، والتقدّم الدبلوماسي والعسكري للعاصمة أربيل خسارةً لها وتهديداً لمشاريعها، فبدأت بإحداث أزمات داخلية، ثمّ توظيفها، على أمل إعادة الإقليم إلى نظام المحافظات، وكسر شوكة أربيل وهيبتها في المدّ القومي والهويّاتي الكوردي، ولا تجد حرجاً أو مشكلةً في إعادة الإقليم إلى ما قبل سقوط النظام العراقي السابق. في المقابل، لطالما كانت أربيل الحامل الجمعي للهويّة القومية الكوردية، التي لم تدّخر جهداً في مدّ يد العون للكورد أينما كانوا، دبلوماسياً ولوجستياً، أو غير ذلك. والخدمات التي قدّمتها أربيل للكورد وللعرب السوريين واضحةٌ بيّنة؛ من اصطاف بجانب القواعد الاجتماعية، إلى احتضان قرابة المليون لاجئ، وصولاً إلى معبر سيمالكا الحدودي، الذي فُتِحَ لأسباب إنسانية لمساعدة الأهالي في عموم مناطق وجود الكورد في سوريا.

 

أمام ذلك كلّه ، وبدلاً من التقارب والعمل الكوردستاني المشترك، والبحث عن التقاطعات بين مختلف مناطق الوجود الكوردي في سوريا والعراق وإيران وتركيا مع أربيل، واغتنام الفرص لتحقيق المصالح الاستراتيجية الكوردية العليا في المستويين، الإقليمي والدولي، بما ينعكس على الوضع الكوردي الداخلي أينما وجدوا، وهي فرصة سانحة في ظلّ فشل أغلب الأنظمة في “الربيع العربي”، وانشغال الدول الإقليمية المعادية للكورد بهمومها ومشكلاتها المحلّية والخارجية… نقول، بدلاً من ذلك تستمرّ آلة التخطيط المُدبَّر للقضاء على الإقليم، وإضعافه قدر الممكن، علماً أنّ الأهمية الاستراتيجية لكوردستان يمكن توظيفها في تحقيق المصالح الكوردية المشتركة، وأهداف الكورد في أماكن وجودهم ، انطلاقاً من توظيف مقوّمات كوردستان الاستراتيجية خدمةً للمصالح الكوردية، وهي كفيلة بتحقيق مصالحَ مستقبليةٍ استراتيجيةٍ، سواء على صعيد الحقوق السياسية والدستورية، أو الاقتصادية. وفي المقابل، يتطلّب الأمر أيضاً التموضع بعيداً عن محاور (ومصالح) أطراف لم تمنح الكورد، في القرن الماضي كلّه، سوى القتل والتشريد والتدمير.

قد يعجبك ايضا