مع تزايد عدد قادة العالم الذين يضعون مصالحهم الشخصية والمالية فوق المصلحة العامة، تدق آن آبلباوم مؤلفة كتاب “شركة الاستبداد المتحدة” ناقوس الخطر وتشرح الأسباب التي تدفعها إلى الاعتقاد أن الديمقراطية الغربية قد تنهار بسهولة إذا ما استمر هذا الاتجاه
جون كامبفنر
“ما من مسار مضمون في التاريخ، فبقاء الديمقراطية أو تعثرها وانهيارها ليس محدداً مسبقاً، فمصيرها هو بين أيدينا”.
هذه هي الرسالة التي وجهتها الكاتبة الشهيرة آن آبلباوم – الحائزة جوائز عدة – في معرض تسليطها الضوء على الخطر المتزايد الذي يشكله المستبدون داخل المجتمعات الغربية وخارجها.
الكاتبة التي تحمل الجنسية الأميركية تقسم وقتها ما بين وطنها الولايات المتحدة وبلدين آخرين واجها خلال الأعوام الأخيرة موجة واضحة من الشعبوية اليمينية وعملا على مكافحتها. وفي أحدث كتاب لها بعنوان “شركة الاستبداد المتحدة، الطغاة الذين يريدون أن يحكموا العالم” Autocracy Inc. The Dictators Who Want To Run The World، تقوم بدراسة الجيل الراهن من الديكتاتوريين في مختلف أنحاء العالم الذين تدفعهم رغبتهم نحو تحقيق الثراء الشخصي أكثر من التزامهم بأية أيديولوجية معينة.
فهؤلاء القادة يسعون إلى ضمان سلطتهم من خلال إضعاف المجتمع المدني وتفكيك نظام الضوابط والتوازنات، والأهم من ذلك إيجاد حال من عدم الاستقرار والفوضى حيثما أمكن. ولتحقيق ازدهارهم الشخصي يعتمد المستبدون على مجموعتين من المتواطئين، الأولى تشمل السياسيين الشعبويين والثانية تتمثل في شبكة من المحاسبين والممولين ووكلاء العقارات العالميين، الذين يساهمون في غسل مبالغ ضخمة من المال تصل إلى عشرات المليارات من الدولارات.
وترى المؤلفة كما جاء في كتابها أن “عولمة التمويل وتوسعه ووفرة الملاذات الآمنة المخفية، والتساهل الذي تعاملت من خلاله الديمقراطيات مع الفساد الأجنبي، جميعها عوامل توفر الآن للاستبداديين فرصاً لم يكن ليتصورها سوى قليلين قبل نحو عقدين من الزمن”.
وتعد آبلباوم في هذا الإطار أن اليد الخبيثة للرئيس الروسي فلاديمير بوتين واضحة في مختلف أنحاء العالم، مشيرة إلى أن “روسيا تشكل مركز الشبكة الاستبدادية وتضطلع بدور خاص فيها، إن لجهة اعتبارها رائدة في الدمج بين الديكتاتورية والـ”كليبتوقراطية” Kleptocracy (الحكم الذي يستخدم فيه القادة سلطتهم لاستغلال الموارد الوطنية، وسرقة ثروات البلاد بهدف تحقيق مكاسب شخصية)، أو كدولة تسعى بكل قوة إلى زعزعة النظام العالمي القائم”.
عند أية مناقشة للصراع بين الديمقراطية والاستبداد من المهم أن نعمل على تقييم المشهد الراهن. ففي الأسابيع الأخيرة حققت أوكرانيا تقدماً جريئاً في الأراضي الروسية في وقت كانت فيه بريطانيا تتعافى من آثار أعمال الشغب الأخيرة، وتعود فرنسا إلى حال من عدم الاستقرار السياسي بعد فترة الألعاب الأولمبية القصيرة، وتستعد ألمانيا لإجراء انتخابات إقليمية يتوقع أن يحقق فيها حزب “البديل من أجل ألمانيا” Alternative for Germany (AfD) اليميني المتطرف مكاسب كبيرة.
إلا أن الانتخابات الأميركية المقبلة ستطغى بلا شك على جميع هذه الأوضاع والتطورات. وعلى رغم أن المرشحة الديمقراطية كامالا هاريس قد تكون حققت بعض التقدم الملحوظ في حملتها، من خلال تفوقها هذا الأسبوع على منافسها “الجمهوري” دونالد ترمب في استطلاعات الرأي الوطنية، فإن شهر الانتخابات نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل ما زال بعيداً، ويظل إلى حينه فوز ترمب احتمالاً قوياً.
في الكتاب السابق الذي ألفته آن آبلباوم وكان بعنوان “شفق الديمقراطية” Twilight of Democracy قدمت تأملاً شخصياً وعاطفياً عميقاً للسهولة التي تحول من خلالها بعض أصدقائها السابقين إلى التطرف. وقامت بمهارة بتحليل هذا التحول موضحة كيف كان دونالد ترمب عاملاً محفزاً على نشر الفوضى والتشتيت.
وقالت آبلباوم محذرة “قد نصل قريباً إلى مرحلة لا تعود فيها الولايات المتحدة قائدة للديمقراطيات الغربية الأخرى أو حتى متحالفة معها. وقد تصبح الولايات المتحدة متخبطة بأزماتها الخاصة، إلى حد أنها لن تستطيع أن تعير القضايا العالمية أي اهتمام”. وفيما تبدو وجهة نظرها متشائمة إلى حد كبير فإنها تستدرك قائلة “أنا أكره التفكير في الاحتمالات الكئيبة”.
وفي ما يتعلق بأوكرانيا تعتقد آبلباوم أن ترمب قد يسعى إلى اتباع نهج مختلف من شأنه ربما أن يؤدي، لكن ليس بالضرورة، إلى وقف مبيعات الأسلحة لكييف، وكذلك الضغط على الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي للسعي إلى حل سلمي. وتقول “إنه شخص لا يمكن توقع أفعاله ولا يمتلك سياسة أمنية ثابتة خاصة به”. أما أوكرانيا – وعلى رغم التحديات التي تواجهها – فإن الأحداث الأخيرة لم تظهر أي مؤشر إلى أنها ستخضع لمطالب موسكو.
وترى الكاتبة أن “نهج دونالد ترمب في السياسة الخارجية كما في سياساته الداخلية، تحكمه المصالح الشخصية والمكاسب المالية وليس الأمن القومي، فيما قراراته تنبع من مصالحه الذاتية ونرجسيته”.
وتشير إلى أنه أمام هذه الفجوة توجد في الواقع فرصة لأوروبا للتدخل بصورة كبيرة. وتقول إن “الفكرة تكمن في إنشاء نواة أو دائرة داخل حلف شمال الأطلسي (ناتو) – تضم دولاً مثل بولندا والمملكة المتحدة ودول الشمال الأوروبي ودول البلطيق وربما ألمانيا – أي البلدان التي تشعر بتهديد مباشر أو ناجم عن الصراع. إلا أن هذا النهج لا يستبعد إمكانية القيادة أو المشاركة من دول أوروبية كبرى أخرى مثل ألمانيا وفرنسا”.
وتجد آبلباوم كما غيرها من الذين كثيراً ما دافعوا عن وجوب اتخاذ موقف أكثر صرامة ضد روسيا صعوبة في التغلب على شكوكهم حيال ألمانيا، التي يرون أنها كانت متساهلة للغاية مع فلاديمير بوتين. وتشير في كتابها الأخير كيف تشبثت الحكومات الألمانية المتعاقبة بفكرة “التغيير من خلال التجارة” Wandel durch Handel التي أثبتت الآن فشلها، لاعتقادها بأن زيادة الاعتماد على الطاقة من خلال خطوط أنابيب “نورد ستريم” Nord Stream من شأنه أن يساعد في دمج روسيا بصورة أفضل في الاقتصاد العالمي وتحفيزها على الالتزام بالمعايير الدولية. وقد أثبتت الأحداث اللاحقة عدم جدوى هذه الاستراتيجية.
ونظراً إلى تاريخ آن آبلباوم الحافل بالانتقاد الحاد لأولئك الذين كانوا متساهلين مع بوتين تعرب المؤلفة عن دهشتها وسعادتها بحصولها على “جائزة الحرية” Freedom Prize التي تمنح سنوياً في “معرض فرانكفورت للكتاب” Frankfurt Book Fair، وذلك خلال شهر أكتوبر (تشرين الأول) من هذا العام (فاز بهذه الجائزة خلال العام الماضي الكاتب سلمان رشدي).
أعتقد أن التقدير الذي نالته يعود إلى هذا السجل الحافل وإلى موقفها الحازم، بحيث يقر كثير من الألمان الآن بالحاجة لوضع سياسة دفاعية تكون أكثر صرامة. وهي توافق على أن ألمانيا شهدت تغييرات كبيرة وتشبهها بناقلة نفط ضخمة تتحرك ببطء، لكنها تعوض في نهاية المطاف الوقت الضائع.
صحيح أن الرأي العام في ألمانيا قد تغير إلى حد ما لكن كما يتضح من استمرار نفوذ حزب “البديل من أجل ألمانيا” اليميني المتطرف لا يزال عدد كبير من الألمان يتعاطفون بصورة قوية مع روسيا، ولديهم رغبة كبيرة في تحقيق “السلام” بأي ثمن.
وتروي آبلباوم قصة عن صديق ألماني لها يتخيل أحد السيناريوهات الكابوسية الذي تواجه فيه بلاده تهديدات من ثلاث قوى عظمى هي روسيا والصين والولايات المتحدة. وفيما يمثل هذا السيناريو النظرة الأكثر تطرفاً للتأثير المحتمل لدونالد ترمب فإن الطبيعة غير المتوقعة للسياسة المعاصرة تعني أنه لا يمكن استبعاد أي احتمال تماماً.
لكن ماذا عن الشخصيات المؤثرة التي تعمل خلف الكواليس وتقوم بتحريك الدمى؟ نحن هنا في صدد مناقشة الطريقة التي تقوم من خلالها وسائل التواصل الاجتماعي والروبوتات وحملات التضليل بتغذية الحركات اليمينية المتطرفة في جميع أنحاء أوروبا، والمساهمة في أعمال الشغب العرقية الأخيرة داخل المملكة المتحدة.
المؤلفة الأميركية تجزم بأن “روسيا اضطلعت بدور في بعض المجالات – وهذا هو الاعتقاد السائد بين خبراء التكنولوجيا وأجهزة الأمن – إلا أن هذا لا يعني بالضرورة أن فلاديمير بوتين حرض بصورة مباشرة على تلك الأحداث. وهذا يتوافق مع الملاحظات السابقة، فهل كانت هناك صلات روسية غير عادية بحملة ’بريكست‘ (الخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي)؟ الجواب هو نعم بالتأكيد”.
أتذكر أنني كنت أنتقد في أوائل العقد الأول من القرن الـ21 وفي منتصفه مفهوم “لندن غراد” Londongrad (مصطلح استخدم للإشارة إلى نفوذ الأفراد والكيانات الروسية الغنية في العاصمة البريطانية وتحولها إلى مركز لثرواتهم) وتأثير الأموال الروسية على الحياة العامة البريطانية. وفي ذلك الوقت رد أحد أعضاء حكومة رئيس الوزراء توني بلير قائلاً “نحن في حاجة للمال لتمويل مدارسنا وقطاع الضيافة لدينا”. ومن حسن الحظ أن هذا المستوى من السذاجة قد تلاشى، لكن تأثير الروابط المالية المعقدة التي تأسست خلال تلك الفترة لا يزال قائماً.
وتتناول آن آبلباوم بصورة مقنعة الإحجام المستمر حتى يومنا هذا من جانب الغرب عن استهداف ثروة فلاديمير بوتين والتدقيق في الروابط المالية بين الكرملين وأولئك الذين يقيمون في دول الغرب ويعملون على تقويض الديمقراطية فيها، وقد لفت انتباهي خصوصاً جزء من كتابها تتحدث فيه عن مبعوث زعيم إقليم كتالونيا الهارب كارليس بويغديمونت الذي سافر إلى موسكو خلال عام 2019 طلباً للمساعدة في إنشاء حسابات مصرفية سرية وشركات، لدعم الأنشطة المؤيدة لاستقلال إقليم الباسك عن إسبانيا.
وعلى رغم أن بوتين نجح في صياغة أيديولوجية تصور صراعه على أنه معركة ضد نخبة منحلة أخلاقياً تدعم الهويات الجنسية المتنوعة و”مجتمع الميم” وتيار “اليقظة” Woke (الذي يركز على قضايا العدالة الاجتماعية)، فإن الواقع الأساس هو أكثر وضوحاً كما ترى آبلباوم، إذ إن “الاضطرابات يمكن أن تأتي من الجناح اليميني أو اليساري أو الانفصالي أو القومي، لا بل قد تتخذ حتى صورة مؤامرات طبية أو ذعر أخلاقي لكن الهدف يبقى ثابتاً، فكتاب ’شركة الاستبداد المتحدة‘ يسعى إلى تغيير إطار النظام الدولي ذاته”.
ويختتم الكتاب بدعوة إلى اتخاذ إجراءات فعالة، موضحاً أن الاستبداد ليس سمة متأصلة أو وراثية، كما هي الحال في دول مثل روسيا أو الصين. ويشدد على أنه “لا يوجد بلد محكوم عليه بالاستبداد إلى الأبد، تماماً كما أنه لا يمكن ضمان الديمقراطية في أية دولة”.
لذا، يتطلب الأمر التزاماً أقوى في مواجهة الزعماء الاستبداديين سواء في الميدان وساحات القتال كما يحدث في أوكرانيا، أو في المجال الرقمي. وتدعو آبلباوم في كتابها إلى “وجوب تعلم طرق التنافس مع الحفاظ في الوقت نفسه على قيمنا وتعزيزها. وينطوي ذلك على كسر احتكار المستبدين في استخدام المشاعر والتواصل مع الناس حول القضايا الأكثر إلحاحاً بالنسبة إليهم، والأهم من ذلك إظهار كيف أن النضال من أجل الحقيقة يمكن أن يفضي إلى التغيير”.
وتنهي آبلباوم حديثها بنبرة متفائلة، معترفة بأن كثيرين منا محظوظون بالعيش في كنف مجتمعات مستقرة واقتصادات قوية على مدى فترة طويلة من حياتنا. لكنها تشير إلى أن هذه اليقينيات لم تعد مضمونة بغض النظر عن نتائج الانتخابات المقبلة في الولايات المتحدة أو جهود قادة مثل كير ستارمر رئيس الوزراء البريطاني في التعامل مع التحديات القائمة.
وتقول أخيراً “لا أتوقع أن أشهد مرحلة في حياتي يمكننا فيها أن نؤكد بثقة تامة أن ’جميع المشكلات حلت وأننا لم نعد في حاجة لأن نقلق‘”.