محاكاة الواقع ومفارقة السرد الموحي،حول تجربة كتابة القصة القصيرة للكاتب د. توفيق رفيق التونجي

 

 

قراءة ونقد الأديب: حكيم نديم الداوودي

اصدر الكاتب والباحث الدكتور توفيق رفيق التونجي مجموعتين من القصص القصيرة من منشورات دار فيشون ميديا السويد (تحت ظلال شهب نيران بابا گرگر، 2006) و(حكايات من ارباخا، 2015) بالعربية وترجم الأخيرة من قبل الصحفي گوران فتحي الى الكردية نشر في مدينة السليمانية وكركوك ويتوفر في مكتباتها. جميع القصص تدور أحداثها ومعظم شخصياتها لهم ارتباط بمدينة كركوك وكوردستان.

 

أبناء السواد عجنوا بالحزن والموت والمرارة والإحباط والقنوط كشغاف الحجاب الحاجز ليفصلونا من أبناء جلدتنا بني البشر … هل عندكم سيّافٌ مشهور كمسرور؟ أبو عروبة هذا ما جاء في قصة (حنفيش سارقة عشب الخلود التي ضمتها المجموعة القصصية الجديدة للقاص والكاتب الأكاديمي توفيق رفيق التونجي والصادرة مؤخراً عن دار النشر فيشون ميديا في السويد بعنوان (تحت ظلال شهب نیران بابا گرگر) طبعة 2006.

 

كل الآلام التي وخزت قلوب أحبتنا في ساعة خروجنا من محيط ذكرياتنا الطفولية. لم تنسينا وحشية جلادنا الذي هشم أمام مسجد القرية جمجمة إبن الراعي الطرية عندما رفض الالتحاق بقاطع الجيش الشعبي الطغياني. فمن السياف العباسي مسرور الى أبي عروبة وأبي تحرير والى أبي بريص. الفرهود هو العنوان البارز لوجوههم الكالحة، تتلطخ الأرض بالدّم والخراب والسطو أينما حلّت هذه المكنيات المشؤومة. حتى في حلمنا وفي منفانا القسري تتداخل علينا مساراتنا المثيرة للدهشة.

 

إنها هي نفسها أحلامنا الفنتازية لا يمكن تفسيرها في جلسة تلفزيونية واحدة ولا بمداخلة سريعة، إنها أحلام فوق تفسير البشر. كم شكونا من جُروح حروبنا الطاحنة، وكتبنا في صباحات المدينة الملتهبة بنارها الأزلية إنها مدينة لا تبتسم الاّ بالنار ولا تمسي مثل ليالي أرض السواد إلا بالنور. وعلى غفلة من تاريخنا الناصعة واجهتنا وحوش الغابة الحجرية. وقلنا بصوت واحد يا آلتونجي لحنفيشك السارقة لعشب الخلود ما تلك الأتربة المتصاعدة أتراها جحافل جيوش آشور أم أسكندر أم المغول أو ربما رجع سرجون أو كسرى أو…. قعقاع وملك الحوثيين وسلطان الروم… جيوش الروس والسيخ وطغرل بك وهولاكو القبيح .. لا بربي إنهن راقصات بنات الريف، وحمدية صالح والجوقة الموسيقية.

 

. تتميز القصة القصيرة كجنس أدبي له خصوصيته، وحسب تعريف الناقد شوقي بدر في بحثه القيم حول المفارقة في قصص محمد – صدقي بأنها لا تستطيع إلا أن تختار الى مسوية في حياة إنسان يتحول – إما داخليا أو خارجيا – تحولا ذاتيا عميقا في مطالع يبنى فيه تصوراته وأحلامه، ويشاهد فيه لحظات آلامه وأحزانه وتأزماته ويؤنس لأفكاره ورؤاه، ويبحث عن خصائص وجوده في هذا العالم المليء بالقهر والتزم والتهرؤ.

 

 

 

القاص توفيق التونجي وعبر أربع عشرة قصة قصيرة، بدءاً من قصته الأولى” وصية على قرص ذي ٣.٥ عقدة” الى آخر قصة تنقلنا الى أجواء المدن التي تركنا فيها أسئلة دهشتنا من دون أن يمهلنا الزمن فسحة مضيئة كي نتلقى أجوبتنا من شفاه الراحلين في طرق ذات الاتجاهات المتعددة، يقول القاص توفيق وعلى لسان أحد أبطال گرميان الذي جرفه هدير أمواج النسيان في قصة (ضد التيار):

” كانت عربة القطار مليئة بالجنود بينما كان صبياً في الرابعة من العمر يركض فرحاً بين المسافرين.. في محطة القطار الوحيدة في مدينة كركوك لم يكن أحد في انتظاري فذهبت الى القهوة القريبة من المحطة علني أجد أحداً أعرفه أو ألتقي بمن يعرف من قصدته وهو أحد الفلاحين الذين تركوا الأرض وتوجهوا الى المدينة للعمل بعد أن ضاق بهم العيش في القرية ووجد عمل كأحد عمال السكك القريبة من المحطة…

 

يتقارب القاص التونجي مع القاص احمد محمد عبدة في بنية حكاياته القصصية وإنتشاله المرارة الواقع اليومي لجملة من معاناة المهمشين تحت ظلال الفقر المدقع. ويقول الناقد جمال سعد محمد في بحثه القيم في موقع القصة العربية ملامح العزلة والتفاعل في القصة القصيرة في قراءته لقصص أحمد محمد عبدة، بأن قصصه تعتمد على الواقع الحي الذي تعيشه الأغلبية المهمشة اجتماعياً وسياسياً وعلى نفس الهم الوطني وأمام وصية شاب يكتب آخر حشرجات إفتنانه لذلك الهدوء المغتال بصرخات زوار الفجر. لا أسمع في البيت الا لبحة ذلك المؤذن الذي يوقظ كل صباح الأبناء أوهمتها الغرباء، بأن اء من غفوتهم أن لا يتخلفوا تلك النار المشتعلة التي الفجر أوانه سيكون بعيداً مثل سؤال الحفاة عن نصيبهم من نقمة عن قوافل المسافرين لطقوس بت رول نارهم المشتعلة بالذهب المهدور.

 

التونجي ينشر ونيابة عن تلك النفس المدفونة تجتمع با نام المقابر الناطقة بالأدلة القطعية من هنا خطوا لنا بمداد الدم التاريخ يشهد ثانية بأن الأمم تشيخ ولا يمكنها أن تموت هذه وصية وعبر قصة وصية على قرص ذي سرديته المحببة لم تراوح فى محيط الخطاب المباشر بقدر نقله للحدث بنكهته الطازجة و كأن المتلقى يعيشه للتو والذكريات الحية تبقى تعيش فى خلايا الذاكرة بأبهى صورها وبأعذب عباراتها لحظة تصفح ألبوم حضور المنفيين من تلك المدينة. نقلية الحركة وسينمائية اللقطة الموحية في عموم قصص القاص توفيق التونجي توحي للمتلقي قدرته على التقاط الحدث اليومي وقدرته على توظيف خزين أحداث الأيام التي مرت على زمنين زمن عصر إزدهار المدينة في أبهى عصورها وزمن أفول تألقها بعد قدوم الطوفان البشري بالنكبات من فراق وانزياح واقتلاع ومسميات تجعل الولدان شيباً من هول تجفيف منابع النماء والفرح .

 

اللغة عند التونجي لحظات تشهق النفس لوطأة الحزن على لسان أبطاله، وفي جانبها التالية تندر وفكاهة تكسر قوالب جليد الصمت والقتامة. صعب التعبير بتلك الألسنة في سرد حدث غابر، وبتلك العفوية المقبولة التي لا تعافها الحس الأدبي الرفيع. حفلت قصص توفيق بالعديد من العبارات الموشاة بتلك العفوية والواقع الذي عاشه جيل من دون أن يدرك عبء مرارته الجيل التالي يقول على لسان أحدهم في قصته تحت ظلال شهب نيران بابا كركر يصف حالة مدينة كركوك ابان انقلاب 1963.

 

“كان أفراد شرطة المرور أكثر الناس هرجاً ومرجاً وفوضوية، فكانوا قد أطلقوا العنان الى رئاتهم فملؤها بالهواء وهم ينفخون في صفاراتهم بينما بدأ عدد من أصحاب السيارات بإطلاق أصوات الإنذار من سياراتهم فتحولت المدينة وأبنائها كمن مسّهم الجنون يهرولون هنا وهناك بينما وقف أحدهم في مكانه قرب أحد أعمدة الكهرباء ينفث بدخان سيكارته وينظر الى الجموع مبتسماً وهو يقول: إشبيكم قابل هاي أول مرة يصير انقلاب بالعراق ….. كان أول ما قرأناه بعد ذلك اليوم هو كتاب بعنوان (المنحرفون) ملئ بصور ضحايا الحرس القومي البعثي.

 

وفي قصة ( عودة أبو شارد الى كنف داره يصف حالة البطل الدرامي أبا شارد بأنه – كان جالساً في إحدى دور العرض في مدينة السليمانية بدشداشات المرقعة وقد أطلق العنان للحيته ربما تهرباً من عيون الناس فقد كان خلال السنوات يعاني من آلام مبرحة في الرأس كداء العديدة الماضية يعاني من الأرق والكوابيس السوداء الشقيقة والذهول والنسيان يتفرج على أحد الأفلام الوثائقية من أيام الحرب والتي يحرم عرضا في الطرف الآخر وبصدد البيئة الجديدة للقصة المغربية يؤكد القادم والمناقل المبدع عبد الإله الميسي في شهادته القصصية على تجربة الكشف عن المدينة في تكوينات المحيط وترتيباته مستندة فى ذلك على خلفية جمالية والذى اختزل معاييرها في الاقتصاد اللغوي، والاقتصاد الأيديولوجي والاقتصاد التخيلي والاقتصاد المرجعي.

 

وحول تعبير اللغة المستخدمة عن عوالم القصة القصيرة المغربية يؤكد على اللغة بأنها عبرت القصة القصيرة المغربية لغويا في تجربتها التدشينية عما يكفي من النمطية والرتابة اللغوية إن لم أقل الجمود والانطفاء ، وعبرت في تجربة ثانية عما يكفي من البذخ والرفاهية والإسراف” وإن سياق قصص التونجي ترى في قسم منها ملامح إبداعية ضمن سرده الموفق كي يبحث عن هويته الخاصة وفق صياغة خاصة، التي انعكست في إطارها رؤى القاص وأفكاره حول الحياة ومعاناة الشريحة المعذبة وفي قصة لا وقت للعناق … لا وقت للوداع…. يا أماه وحقا لم يتسع الوقت عند القاص للوداع. ولم يتمكن من وقف نزف ذكرياته الطفولية المؤلمة. يقول في نهايتة القصة التي تمثل حل العقدة المستعصية في القصة وبمسحة فنية يسقط ضوء الختام على خلفية المشهد مع بقاء العيون في انتهاء الومضة لجلاء الظلام:

“طلبوا مني ترديل النية في أول أيام رمضان وقبل العيد إصطحبني عمي الى إحدى المحلات التي تبيع الملابس في نهاية شارع الأوقاف كي أختار بنطالاً تقديراً ومكافأة لصومي خلال الأسابيع الأربعة الماضية وهو يهم بدفع قيمة البنطال قال لصاحب المحل هامساً.

-إنه أبن أخي اليتيم لم يكن والدي قد وافاه الأجل.

 

فأبيت إلاّ أنْ أُمَّزِقَ البنطال لاحقاً إربا إرباً رغم العقاب القاسي الذي لاقيته من والدي رحمة الله عليه … لم أفكر قطعاً أن أشرح لهم لاحقاً سبب فعلي ذلك لحد هذا اليوم. يصف الكاتب ذكرياته في السويد في لا وقت للعناق. هناك في الخارج البرد والظلام يلف البيوت أيتها القديسة لوسيا.. أيتها القديسة لوسيا … ترك الصغار القاعة بينما تعالى التصفيق.. لفلذة أكبادنا ” كل قراءة تتبعها المتعة، وثمة كلام في التواصل من خلال هذه القراءة السريعة لمجموعة (تحت ظلال شهب نيران بابا گرگر وعلى ذلك الطريق السالك نحو مقتربات عالمنا المنسي. نجد في محطات القاص قصص مضيئة تشع بمقومات الإبداع، والتي تؤشر بداية قوية لولادة قصص واقعية من غير إبتذال، وإجترار الماضي بثوب الحكائية الدارجة ليست كل المحكيات تنبض بروحية الإبداع.

 

القاص في قصصه الأخرى مشحونة بيوميات تحتاجها ذاكرة الجيل، الذى لم يهزه صوت مدافع الحرس الشمولي. ولم يوخزه الجوع أيام مزج الطحين ببرادة الحديد وفي بقيتها قصص تصلح كإرث لمن لم تحالفه رؤية هجرة المدينة لفرحها الطارئ في تلك المساحة المضيئة من قصص التونجي وجدنا ذواتنا في أكثر من مشهد ولقطة تذكرية تركت القصص بساطة ملحوظة في حركة أبطاله، وانسيابية التفاعل مع أحداثها أثراً بيننا فينا كي نقول رأياً متواضعاً تحت ظلال شهب نيران التونجي بأنها حقاً شعرتنا بالدفء والحنين في ظلام تلك المأساة جعلنا أن نوقد شموع فرحتنا، كلما اقتربنا من نیران بابا گرگر.

 

ننتظر للقاص توفيق التونجي إبداعاً آخر في تقنية فنية أخرى تواكب مع تطور أدوات القصة القصيرة لديه، مع تجاوز بعض المشاهد المتكررة والابتعاد عن نقل بعض الصور التقليدية في نعت المشاهد التي تحتاج الى لمسة فنان حاذق في تكملة القصة كلوحة معبرة بكل شروطها الفنية، صديقي الدكتور توفيق أبدع في مجموعته القصصية، وهو في طريقه للعبور الى ضفاف إبداع آخر تلك أمنية كل مبدع لا يمل في البحث عن خلود روح الإبداع، في الكلمة والفن. وفي توصيل الرسالة الإنسانية في معناها المعرفي لتطوير المجتمع.

 

 

المصادر:

 

  1. تحت ظلال شهب نیران بابا گرگر توفيق رفيق آلتونجي السويد دار نشر فيشون ميديا ٢٠٠
  2. 2. الناقد شوقي بدر المفارقة في قصص محمد صدقي، مجلة افق الثقافية ٢٠٠٦ ع آذار.
  3. 3. الناقد جمال سعد محمد، ملامح العزلة والتفاعل في القصة القصيرة في قراءته لقصص أحمد محمد عبده، موقع القصة (العربية).

. –  الأديب خليل النعيمي مخيلة الأمكنة، مدن ونصوص، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ٢٠٠٣ مصر.4

5 – منذر الشوفي. شهادات ومداخلات عن القصة في سوريا، جريدة الزمان، ع ١٣٦٣ – ٢٠٠٢.

6.- د. أميرة حلمي. فلسفة الجمال، أعلامها ومذاهبها 2002، الهيئة المصرية العامة للكتاب.

 

 

 

 

قد يعجبك ايضا