اتفاقية الجزائر وتوزيع الأدوار

 د. توفيق رفيق التونچي

اذا لم تخني ذاكرتي قرأت عن ما كتبه احد الصحفيين الأجانب عن لقاءه بالقائد الخالد المرحوم مصطفى محمد البارزاني في إحدى اللقاءات الصحفية في الستينيات قائلا: كان بيده مطواة ( سكينة صغيرة) وبدأ كأنه يقطع رؤوس بعض العود ويحده ويضعه جانبا الواحد تلوى الأخرى. حيث كان من عادته أن يصنع (أنابيب التدخين) للسكاير ويهديه لزواره ويستخدمه بنفسه كذلك . مما حدا به أن يتساءل عن سر فعلته تلك فرد القائد الكوردي بما معناه: 
“هذه العملية تشبه السياسة (الأمريكية) فبين فترة واخرى يتم تحضير أحدهم ودفعه إلى الأمام بعد أن يحدوا راسه جيدا ، يدفعون به إلى قمة قيادة شعوبهم ، كما يحد راس القلم، ثم يستغنون عنه بعد فترة ويأتون بآخر”.
وتلك موعظة حكيم غالية لقادة اليوم في كل مكان في العالم. 

عالم اليوم يتالف من العديد من الدول والدويلات والكيانات السياسية وجزر مستقلة وحتى دوقيات وامارات يزيد مجموعها على المائتين وهناك دول تقودها عائلة واحدة بعضها في نظام ملكي واخرى حتى جمهورية تسمى بجمهورية العائلة الحاكمة. لكل منها دور معين في السياسة الدولية. تصور قارئي الكريم اننا امام مشهد في مسرحية هناك شخصيات لكل منهم دوره حتى للكومبارس دورهم ومكانتهم، والديكور والإضاءة والملابس والموسيقى، هناك مؤثرات صوتيه و موسيقى وضوء ملون يساير تمثيل الممثلين، واللحظة الدرامية هناك أثاث وكواليس هناك مهندسون رسامون وإداريون، مدير مسرح ومخرج له مساعدون هناك بناية للمسرح هناك عاملون في هذه البناية ومطابع يطبع البطاقات و الإعلانات. هناك ادارة للمسرح وامور أخرى كثيرة.  

هكذا هي الدنيا كذلك. مسرح كبير توزع فيها الأدوار يتم تحليل كل دولة واتجاهاتها السياسية والفكرية للحكم فيها ويعطى لها دورا تحدد لمدة معينة وقد يتم تغير الدور اذا ما غير الممثل النص، هنا رئيس السلطة الحاكمة حين يعارض ويخرج من النص.

هناك أساليب اخرى للتغير وحسب الحاجة. فهناك دول تحصل فيها فجأة انقلاب عسكري، تظاهرات احتجاجات و ثورات تؤدي الى تغير الحاكم وطبعا ناهيك عن الاغتيالات السياسية والسجن والإبعاد والنفي والقتل وامور عنيفة اخرى.
 
هذا الحاكم وذاك مناط به مهمة معينة ويستخدم بصورة ذكية من اجل الوصول الى هدف وحلول معينة. خاصة عند الأزمات والحروب وما اكثرها. يعتقد البعض بان هناك نوع من التناقض في توزيع الأدوار لكن في نهاية الامر تكون النتائج مضمونة للمخططين. ليس غريبا ان نرى دولا ، او رؤساء دول كانت تعادي دولة معينة او نظاما سياسيا ان تتحول الى صديقة وقريبة منها تناجيها وتمدحها وتقوم بزيارات متكررة ، مادحا النظام ورئيسه. هذه المهمة او الدور تناط لهم لامور معينة كثيرة اهمها خرق قواعد اللعبة الدولية والوصول الى الطرف الاخر بسهولة عند الحاجة. طبعا هناك دراسات أولية لسلوك الأشخاص وكذلك دراسات للخطورة ونتائج كل خطوة وتأثيرها ومدى خطورتها ودراسات اخرى تشمل حسابات الربح والخسارة.

تستخدم كل ذلك كثيرا في الأعراف الدبلوماسية وفي حل المشاكل والصراعات بين القوى و الدول للوصول الى اتفاقيات كما في اتفاقيات السلام. النموذج العراقي للحكم مليئ بتلك التناقضات ومنذ تأسيسه ككيان سياسي.

اتفاقية الجزائر المشؤمة ١٩٧٥ وتبعاتها احدى تلك الاتفاقيات المتناقضة التي وقعها النظام البعثي البائد مع نظام كان يعتبره عدوا للعرب باحتلاله الجزر العربية في الخليج، والتي لا تزال تحت سيطرة الجمهورية الإسلامية. فقد صحى هذا النظام ليجد نفسه يخوض حربا أهلية داخلية مع شعبه في الداخل في كوردستان وذلك بعد تنصله من تطبيق جميع بنود اتفاقية اذار الذي وقع عام ١٩٧٠* وتكوين كيانات كارتونية تابعة للدولة وتنفذ أوامرها وامور تخص برسم حدود اقليم كوردستان تلك المشكلة التي لا تزال قائمة لحد اليوم ورثتها جميع الانظمة منذ
 تأسيس بريطانيا لدولة العراق الملكية عام ١٩٢١ وقد رسم تخطيط حدودها الحالية مع اتفاقية سايكس- بيكو البريطانية الفرنسية ١٩١٦. وبدلا ان تقوم الحكومات العراقية المتعاقبة، و لحد اليوم، من معالجة الامور سلميا مع شعبهم توجهت الى التهديد باستخدام السلاح و الحرب في الإبادة الجماعية وسياسة الارض المحروقة في كوردستان ووجهت بنادقها وكافة أسلحتها وطائراتها لتدمير والقتل والانفال والتهجير والإبادة الجماعية في القبور الجماعية المنتشرة في جميع انحاء العراق.

وحين أفلس النظام عسكريا عام ١٩٧٥ من مواجهة الثورة الكوردية اتجه الدكتاتور الى شاه ايران الراحل كي يتنازل عن مئات الكيلومترات من الأراضي على طول حدود العراق مع ايران وامور بقت سرية في نص الاتفاق ولا تزال تعمل بنصوصه لحد اليوم. طبعا كان هناك طرف ثالث في التفاوض في تلك الصفقة وهو الرئيس الجزائري الراحل هواري بومدين، آنذاك. الدور الجزائري محير ومتناقض في تلك العملية ولم تبحث وتدرس كثيرا. هؤلاء الثلاث اختفوا من الحياة وبقى نتائج أفعالهم الإجرامية.

تلك الاتفاقية كلفت العراق وميزانيته الكثير. و ادى الى ما نراه لحد اليوم في مباحثات العراق المستمرة مع ايران حول الحدود وشط العرب. كما ان العراق مايزال يدفع من ثروته الوطنية المستحقات و فواتير الأسلحة والمعدات التي استخدمها النظام في حروبه مع ايران والكويت والتحالف وكوردستان. كانت من نتائج تلك الاتفاقية اضطرار الحركة الكوردية الى وقف القتال وتأجيل النضال و كان من نتائجها مآسي عددة نفسية للثوار البيشمركة وانقسامات شتى وتهجير ونزوح المقاتلين وعوائلهم عبر الحدود الى الدول المجاورة. كان من نتائج الغير مباشرة لتك الاتفاقية المشؤمة حرب الثماني سنوات مع الجارة ايران وذلك بعد ان الغى العراق تلك الاتفاقية من طرف واحد عام ١٩٨٠ ومع تأسيس الجمهورية الإسلامية في ايران ولا تزال اثار وتبعات تلك السياسة باقية تظلل على سياسة الحكومات العراقية المتعاقبة بعد سقوط النظام عام ٢٠٠٣ و لحد يومنا هذا.

اما كوردستان اليوم فعادت الى اهلها يانعة ليعمروها وفقط خلال عشرون عاما تحول الحلم الى حقيقة بيد أبناءه الأوفياء وبعد ان كان جبالها ووديانها وقراها تدك بالمدافع وتحرق بالقنابل المحرقة والغاز الطائرات المقاتلة أصبحت اليوم تستقبل ملايين السياح وتم اعمار البنى التحتية من شوارع وأنفاق وعمران مدنها وساد السلام والوئام ربوعها. السؤال من يوزع تلك الأدوار ومن هو الرابح في نهاية المطاف وكم من الملفات السرية تنتظر البت بها وما سوف نراه من تغيرات في خارطة دول الشرق الأوسط والعالم.

. الأندلس ٢٠٢٤ 

 *البند الخاص بمحافظة كركوك في اتفاقية اذار وما يسمى اليوم بالمناطق المتنازع عليها اجلت عام ١٩٧٠ كي يتم البث فيه بعد اربع سنوات من الاتفاقية. لكن الحكومة البعثية تنصلت من الاتفاق وقامت باجراء تغيرات في الحدود الادارية في محافظة ديالى و كركوك بطريقة شاذه وعنصرية. لا تزال اثار و تبعات تلك السياسة وانعكاساتها قائمة ومن ضمنها المادة ١٤٠ الدستورية المؤجلة التنفيذ ولحد اليوم.

قد يعجبك ايضا