الحصيري أمير صعاليك بغداد… المتشرد والأسطورة

حاتم الصكر

شاعر شريد ينزل شاباً من النجف بجوها الروحي شديد الصلابة، إلى بغداد التي تفتح له أواخر الخمسينيات شوارعها وحاناتها ومنتدياتها. ذاك هو عبد

الأمير الحُصَيْري (النجف 1943-بغداد 1978). ينزع عنه ثياب الكهنوت والعلوم الفقهية ويرضى بقليلِ بغداد: يسارياً أمينا لمكتبة اتحاد الادباء الناشئ بعد الجمهورية، ثم الحييّ جليس الشعراء الكبار. يهمه منهم بالمقام الأول الجواهري الذي يظل متعلقاً به كتعلقه بشعره مقلدا ومحتذيا أسلوبه ومدرسته.. يدخل بيته دون موعد من بين قلائل يقبل الجواهري ومزاجه الخاص زوراتهم المفاجئة.

كتاب الشاعر عبد المنعم حمندي ابن مدينته “أمير صعاليك بغداد” يضيء جوانب مهمة من حياة المتشرد الذي يردد في أخريات ليالي سكره، حيث الطرقات الفارغة والسكارى العائدون مترنحين أنه عروة بن الورد وأمير الصعاليك. لم يدقق أحد حينها في مغزى أن تكون للصعلكة إمارة، ويكون عبد الأمير أميرها ببغداد التي ستتغير موجاتها الثقافية وتتجدد، وتنزل بها أقدار العسف وتضيق الحريات، ولا يعود أحد يأبه بمتمرد يوجه لعناته للمجهول، ويعاقب نفسه منتحراً ببطء عبر السكر المفرط بلا صحو، كأنه يلاحق قدراً يجذبه بسحر غامض.. لكن عبد الأمير يستثمر المتاح ليحقق صعلكته، يدخل حيث تشاء خطاه، وينزع عنه في الليل ثياب النهار الثقيلة، ويمضي هكذا بلا قصد.. حتى أنه يروّض شراسة المسؤولين والرسميين بشعره الذي ينتابه لحظات صحوه القليلة؛ ليغريهم به، ويسدون له خدمات تنتشله مؤقتاً من فقره ومرضه وضياعه لكنه سرعان ما يعود ضائعاً وحيداً. وتتسع أسطورته في الوسط الثقافي، فتتغلب على نصوصه. وتتسع دائرتها ليكون الشخص -شخص الشاعر- مقروءا بتصرفاته وصعلكته وأخباره وتعليقاته وخصوماته أكثر من النصوص.

يروي حمندي أن مسؤولا كبيرا هو وزير ثقافة العراق بعد تسلم البعث للسلطة يطلب أن يقابله، بعد أن انتزع من الجواهري اعترافاً بأنه لو كان له خليفة في الشعر لكان الحصيري. يسأل عنه الوزير، ويستقدمه بمعرفة الكاتب الشهيد عزيز السيد جاسم. ويمنحه وظيفة ومرتبا. سرعان ما تذرو رياح سكره وصعلكته تلك التفاصيل التي يضيق بها.

لكن ما يحزن حقا هو حديث حمندي عن (شعراء) تقليديين عديمي الموهبة يستثمرون عطالة الحصيري وفقره، فيشترون قصائده بأسعار بخسة. ويشهد حمندي على بعض تلك الصفقات دون ذكر الأشخاص. والأكثر مأساوية ما يذكره الشاعر سعدي يوسف في كلمة الغلاف حول رؤيته، مرات، عبد الأمير الحصيري ممددا في باب مبنى اتحاد الأدباء، وقد أدمى وجهه الضرب، فيأخذه سعدي لبيته ليستحم ويحلق ذقنه ويستريح. لكنه سينسى كل ذلك ويستأنف صعلكته صباحا في مقاهي شارع الرشيد، وليبدأ يوم صعلكة آخر بقنينة خمر يتدبرها بشتى السبل.

 

 

المتنبي والجواهري هما مرجعية شعر الحصيري الأولى. مدرسة تقوم على التعبير التصويري والفكرة المغلفة بجمال الاستعارات والبلاغة المخففة لعمق الفكرة. لكن الحصيري يرتبط بأناه بطريقة أبعدته قليلاً عن التقليد. لكنه ظل بعين اللماح ينظر لشاعريه نموذجا لعافية الشعر وجوهره المشع.

نصوصه توصف غالبا بالتقليد. إنه أمين على تقاليد الشعر العمودي كما يفهمها. يرقق ذلك العمود بأساليب شتى: منها عذوبة ألفاظه التي ينتقيها بشاعرية ويستثمر ظلالها الرمزية غالبا. الصور المبتكرة التي تحفر الفكرة في ذاكرة القراءة وتعمقها.. لقد تبدد الكثير من شعره، سرقةً أثناء سكره، أو ضياعاً في ظلمات الطرق الليلية، أو بيعا بمبالغ ضئيلة ساعات افتقاره لما يوفر له شرابه. وينبه حمندي إلى سطو منظم كما يبدو لقصائد الحصيري.. يعرف المبتزون ضعاف الموهبة كيف – ومتى – يستولون على نصوصه التي لكثرتها كانت قبيلة قصائد كما يصفها الشاعر.

وقد تذكر تلك القصائد المنهوبة ذات يوم؛ فكتب راثياً مصيرها بقصيدة ذات عنوان شديد الدلالة “مرثية قبيلة قصائد مفقودة” نشرها في ديوانه “تموز يبتكر الشمس” 1976:

قبيلةَ شعريَ المفقود إني            بُعيْد نواكِ من ألمٍ قتيلُ

ومما زاد في البلوى اتقادًا         سؤالي أين حطَّ بك الرحيلُ

ولكني فقدتكِ حيث كانت           بي الظلماء عابثة تجولُ

وبنوع من التعزي عن ذلك الفقد يقول:

فإن لديَّ من وقدات ذهني         قبائلَ لا تزولُ ولا تحولُ

ولكن ما يعلق في الذاكرة الشعرية مطولته “أنا الشريد” التي أخذت شهرة كبيرة لما فيها من جرأة وتصريح بوحدته وصعلكته، ولصياغاتها الفنية التي خرج فيها من عباءة التقليد:

أجائع؟ أيّ شيء ثَمَّ يا قلقُ           أمِن حطاميَ هذا يمطر العبقُ؟

وينبئ استهلال القصيدة عما تكتنز من خزين صوري وبلاغي، تتصاعد نبرته الشاكية المتبرمة كلما توغلنا في القراءة:

إن كنتَ تحلم في قلبي فإن دمي        من جوعه بات فيه الجوع يحترقُ

ألم يشرّدْك تشريدٌ يمزقني           عيناي أظفاره العمياء تأتلق

مازلت طفلا غريرا كيف تقربني     أنا التشرد والحرمان والأرق

أنا الشريد لماذا الناس تذعر من         وجهي وتهرب من أقدامي الطرق

وسيرد في القصيدة بيتان سرعان ما انتشرا وحفظهما قراء الشعر. وصارا علامة تعمل للإعلان عن هوية خطاب الحصيري. بجانب ما تلقى من تعنيف نقدي محافظ بسبب استعاراته ورمزية القصيدة التي – كعادة القراءات التقليدية – تحولت إلى ألفاظ ومعان مباشرة؛ لكي يدان الشاعر دون الالتفات للسياق الرمزي وغلبة الطابع التصويري:

أنا الإله وندماني ملائكة         والحانة الكون والجلّاس من خُلقوا

والنادلون وإن غنت كؤوسهمُ     كالأنبياء بنور الخمر قد عبقوا

لم تكن تلك مخاطبة للقلق بل لنفس الشاعر التي لا تهدأ، بعدما غادر المدينة التي قال عنها كما ينقل حمندي إنها تحولت إلى مقبرة كبيرة.. وصارت مملكة موت خرافية تحمل على أكتافها جماجم التاريخ.. ومن المؤكد أنه قد دار في خلده ما ينتظره من مصير، إذ عاد لوادي السلام مقبرة المدينة الكبرى؛ ليدفن وحيدا كما عاش.

كلمات عزيز السيد جاسم عن الحصيري التي استعادها المؤلف مفتتحا لكتابه تلخص القراءة الشائعة للحصيري، والتي تركز على شهرته الذائعة وشخصيته الغريبة: “هو مَثّل الشعراء الجوّابين المغنين المتشردين الذين لا يحتاجون إلى المصفقين.. ورغم الرثاثة البادية في زيه كان بيرقا.. وصلت إليه الشهرة طائعة وتمسحت بحذائه المثقوب”.

 

 

 

لقد غدا الصعلوك أسطورة تتداولها القراءات المتعاقبة، والأجيال الشعرية اللاحقة التي سيظهر فيها صعاليك جوابو آفاق مترحلون وسكارى ومشردون. لكن مثال الحصيري لم يتكرر بعفويته وموهبته، وكـأنه استكمال لصعلكة ناقصة جربها من قبل ببغداد حسين مردان وأثرت في معاصريه كثيرا.

الحصيري في ميزان النقد الشعري هو من أواخر الأصوات العمودية المجددة المتابعة لمدرسة الجواهري إن لم يكن آخرها، والتي خسرت بغيابه تجربة فذة انتقصت منها أسطورته وطغت عليها.

كتاب عبد المنعم حمندي المتردد بين الوثيقة والذكريات والأخبار والأشعار، يذكّر بهذا الشاعر الذي غادر في يوم بارد من أيام شباط ببغداد، ورحل جسده عكسيا عائداً لمدينته، لكن روحه تظل ساكنة قصائده التي تهفو لفضاءات لا تحدها أسوار المدن.

 

قد يعجبك ايضا