عطا درغام
يصف الروائي والشاعر والمترجم الكردي السوري جان دوست..رواية “بالأمس كنت ميتًا ” بـأنها “مجموعة ولائم من خيبات ودموع وحب مهزوم جغرافيا وفيها تتوزع تلك الخيبات على أراض شاسعة بحجم الآلام البشرية، تمتد من مناطق الإمبراطورية العثمانية الآفلة ، وحتى مصر، وتختلط الأنساب بل وتتجاوز القوميات والهويات لتتصالح وتتناحر، كذلك يمتد الزمن في الرواية لأكثر من قرن وربع وتختصر هذه الملحمة على لسان شخوصها، لنقرأ عن الإبادة الجماعية للأرمن والكرد مع إظهار سياسات أفسدت حياة الشعوب مستخدمة الدين في الغزو والتنكيل لكل القوميات والهويات والأعراق”.
التاريخ بين الماضي والحاضر
وفي رحلة زمكانية شائقة ، ما بين ولاية آمد وديار بكر في نهاية القرن التاسع عشر وبورسعيد في بدايات القرن العشرين، ومرورًا بالقاهرة في السبعينيات والثمانينيات حتي الرحال إلي القاهرة مع بداية الألفية الجديدة ، تتناول الرواية قصة أربعة أجيال ما بين 1840 و 1915 من الإمبراطورية العثمانية وصولاً إلى مصر. ثم نرى جيلاً لاحقاً يعيش في مصر الجديدة، وبالتحديد في حي الزيتون، ممثلاً في أبطال هذه المرحلة وهم ليلى ولوسي ومالك، بعد أن نتعرف على تاريخ عائلة كل منهم، وتاريخ حي الزيتون ومصر الجديدة،وتنكشف لمحة عن بعض التغيرات والتطورات الاجتماعية في الطبقة الوسطى المصرية خلال تلك الفترة.
تبدأ الأحداث في المستشفي ،حيث تعاني ليلي من مرض عضال وليلي تمرضها، وكلتاهما تنتظران وصول مالك الحبيب..تنتقل الأحداث إلي الحقبة التاريخية التي نسجت حولها الكاتبة حبكتها الروائية. تاريخ عائلة لوسي التي نعرف أنها كردية- أرمنية الأصل، ونتتبع تاريخ عائلتها ومؤسسها الكردي” سالار فرهد منيكانيللي”منذ عام 1868 في ولاية ” آمد” التابعة للدولة العثمانية وحتي فرار جدها ” كيروان” وجدتها” بيروز” الأرمنية إلي بورسعيد في عام 1915.
الكرد والأرمن وأخوة روحية
تنقل لنا الكاتبة صورة حية نابضة عن تلك الفترة ، والعلاقة الوثيقة بين الأرمن والكرد متمثلة في علاقة الأخوة الروحية بين الكردي” سالار فرهد منديكانيلي” ورفيق طفولته الأرمني” آرام أرشاج كنديكانيان”:
“لماذا تضحك يا أخي ؟! الأرمن والكرد من أصل واحد لكن الذي حدث أنهما انقسما إلي عشائر وديانات. ألا تري أن التشابه الواضح بين اسمي عائلتينا؟! منديكانللي ومنديكانيان؟!.
أسس السلطان عبدالحميد ما عُرف بالفرق الحميدية وهي فرق ميلشيات مسلحة من الأكراد، وبدأ السلطان في تغذية أفكارهم بأن الأرمن كفار يشكلون خطرًا علي الأمة الإسلامة:
“آفة الناس الجهل؛الأمر الذي استغله العثمانيون في الأكراد؛ فحوَّلوا جزءًا كبيرًا منهم إلي آلات بلا عقول.كان يكفي يلوح لهم بخرافة الدفاع عن الدين ممن يريدون هدمه؛ لتندلع حرائق لا تنطفيء في الأنفس والأجساد”
ثم تنتقل الأحداث لعدة فصول متتالية؛ لنري”سالار” يتطوع بالانضمام إلي الفرق الحميدية ؛ حماية لأسرته وأصدقائه الأرمن،والتي شارك فيها الأتراك خطتهم الدامية لمحو وإبادة قري بأكملها. وقد عبَّر سالار في مشاعره المتضاربة بين خوفه من افتضاح أمره وشجاعته في اختيار مصيره:
“قتلت نفسي ؛لأنني لا أستطيع التعرف إليها، تخلصت منها كما تلصت من أبرياء لم جنوا شيئًا سوي انهم كانوا أفرادًا من إمبراطورية تشتهي الدماء”
الحب طريق النجاة
وتهتز المشاعر مع” كيروان” و”بيروز” عندما اختبآ من فرق الموت التي كانت تحصد أرواح الأبرياء بلا رحمة،حتي نجحا في الوصول إلي بورسعيد ،وتُكلل الرحلة بالزواج وتعود بعدها الأحداث إلي العصر الحالي من خلال العلاقة الثلاثية بين الشخصيات الرئيسية ليلي الأنثي المصرية حتي النخاع سلسلة العائلة الصوفية ذات الكرامات ،ولوسي الأنثي الجانحة المتفتحة علي الحياة ومالك الحائر.
هنا يبدأ المساران السرديان للرواية الماضي والمُعاصر في الالتقاء، بعد أن نتعرف على هوية “لوسي” سليلة هذا الأصل الأرميني والكردي معاً، المفتونة بالتنوع والتاريخ، الذي قادها لبحث طويل في تلك الجذور، علاوة على شغفها بمصريتها، وذلك بعد عملها كناشطة ضمن جمعية في ألمانيا لجمع الاعتراف الدولي بالإبادة الجماعية للأرمن. تطّلع في مهمتها على وثائق وحشية لإبادة الأرمن بينها حرق وذبح لنساء وأطفال، يصلها تهديدات بسبب نشاط جمعيتها
تصدُق التهديدات وتتعرض لوسي لحادث كاد يودي بحياتها، ويموت على إثره زوجها هاجوب،وتُقررهي مواصلة القضية، وتتعرض بسبب ذلك لألوان من التنكيل والأذى، حتى يتم نقلها في سياقات عصيبة إلى مستشفى بمصر، وهناك يلُازمها صديقا عمرها، إلى أن تلفظ أنفاسها الأخيرة بعد أن تتحرر أمامهما من ثقل مالاقت من تنكيل بسبب نشاطها الساعي للاعتراف بمذابح العثمانيين لأجدادها، وتأنس روحها في لحظة صعودها بوجوه شجرة عائلتها الأوائل «يترامى إلى مسامعهما أسماء آرشاك منديكانيان، سالار، آرام، فِرهد منديكانيلي، بابازيان، خُجى، هيفين، مريم، كِروان».
ترصد الكاتبة أيضاً الكيفية التي ضخمت بها النعرات الطائفية العدائية بين الأكراد والأرمن، وكيف تتحول قومية واحدة إلى ما يشبه شعبين متعاديين، أو راغبين في الانتقام من بعضهما بعضاً. وهو مثال رمزي مدهش في موضوع الطائفية يكشف كيف أنها لعبة سياسية قديمة مورست في كل زمان ومكان، وتصلح درساً أيضاً في الزمن المعاصر.
الحب تطهيير لآثام الماضي
الحب أحد الأبطال الأساسيين في هذا الرواية، وقد كان دوماً سبباً في نوع من الإنقاذ، أو لالتقاط البشر من مصائر مروعة، كأنه سبب من أسباب لطف الأقدار. ولعل أبرز تلك القصص قصة الحب التي جمعت بين كِروان (الكردي ابن سالار) وبيروز (ابنة آرام التي ربتها أم كروان)، فقد بلغا مصر بما يشبه معجزة وتزوجا بعد أن غير الزوج ديانته تضحية منه لحبيبته ولأمه، وفاء لوعده لها واستجابة لحلمها الذي همست به إليه منذ مولد الفتاة التي ماتت أمها وهي تلدها. ثم طبعاً القصة المرَّكبة جداً بين الثلاثي ليلى ومالك ولوسي، لأنهم عاشوا تعقيدات كبيرة في حياتهم بسبب حب الفتاتين لمالك والعكس. وحضور ذكرى ذبح الأجداد فى ذهن لوسي والتطَّهر منها فى ذهن مالك ليختلط الحب بالتاريخ ويأخذ مساحة سردية تتسع وتطرح الحب بديلا عن الاختلاف ومُذيبا له، وإنَّ العشق أعلى درجاته فى جَمْعِهِ بين ثلاثة محبين كان الحب خِيارهم وخَلاصِهم ومبدأهم ومنتهاهم، فبالأمس كان ثلاثتهم موتى غير أن الحب أحياهم من جديد على نحو ماقاله جلال الدين الرومي عندما قابل شمس الدين التبريزي الذي أحيا فى الرومي حياة جديدة ملؤها العشق والحب، فتكون عتبة العنوان لتختزل قصة الموت والحب.
صورة الكرد بين الإيجابية والسلبية:
ولم يغب التاريخ الكردي عن أحداث الرواية؛ حيث كان جزءاً من ملحمة رُويت على لسان شخوصها، وتكشف الرواية عن أن السياسة تفسد حياة الشعوب والأديان دائماً، فيصبح لكل قومية أو دين أنياب ومخالب، ينشبها في لحم الآخر المختلف عنهم.
وجاءت صورة الشخصية الكردية في رواية “بالأمس كنت ميتًا” مُغايرة تمامًا للصورة السلبية التي ترسمها الأدبيات التي تناولت الإبادة الأرمنية؛ حيث تشَّكل مجاذر الأرمن نقطة إشكالية في العلاقات التاريخية بين الكرد والأتراك نظرًا لتأثير تلك المجاذر والنتائج الكارثية التي نتجت عنها، ومحاولة بعض الكتَّاب والباحثين بقصد أو بغير قصد تحميل الشعب الكردي كشعب، وليس بعض الكرد كأفراد أو مجموعات تبعية تلك المجاذر، رغم أن الشعب الكردي مثله مثل الشعب الأرمني تعرض لمجاذر مُماثلة، وعلي أيدي نفس السلطات التي قامت بإبادة الشعب الأرمني…ولم يقل حقد السلطات العثمانية ، ومن ثم التركية ضد الشعب الكردي عن حقدهم ضد الشعب الأرمني، ولم تطرح خطة القضاء علي الأرمن إلا في خمسينيات القرن التاسع عشر بالتدريج.ويًشير الضابط “جلادت بدرخان” الذي شارك في الحرب العالمية الأولي في الجيش العثماني في منطقة أذربيچان ومع الطابور العسكري الذي يقوده “أنور باشا” إلي أن الأتراك كانوا يخططون لمجزرة مماثلة للكُرد شبيهة بالمجاذر التي نفذَّت بحق الأرمن… كما أن الأرمن وقفوا إلي جانب الكرد في معظم الثورات التي قاموا بها ضد الدولة العثمانية، وكذلك الأرمن.
ولا يذكر تاريخ العلاقة بين الشعبين الذي يمتد لأكثر من خمسة وعشرين قرنًا من الزمن شواهد وحوادث عن حالة العداء التاريخية بين الجانبين تؤدي إلي ارتكاب المجاذر الوحشية بسبب الخلافات السياسية أو الاقتصادية ، أو بسبب التعصب والاختلاط الديني.
ولقد شاركت قلة من الكرد في المجاذر ضد الأرمن، إلا أن الغالبية العظمي منهم، والذين كانوا يعيشون مع الأرمن في نفس المناطق، ويتعرضون للاضطهاد الذي يتعرض له الأرمن، فقد تعاطف الكرد مع الأرمن في محنتهم، وحاولوا مد يد العون لهم..وقد اتخذ الآلاف من الأرمن من قري وخيام وبيوت الكرد ملاجيء ومخابيء لهم، كما تمتع الأرمن بالأمان والاطمئنان طالما كانوا في حدود منطقة العشائر الملية، حيث كانوا يلقون المعاملة اللائقة.
و في الرواية جاءت الشخصيات الكردية نابضة حية ، معبرة عن الصورة الحقيقية للشخصية الكردية التي تتسم بالنجدة والشجاعة ، والعفو وإغاثة الملهوف ، والالتزام بالعهد، وحفظ الأمانة، والكرم، وحفلت بنماذج عديدة لهذه الشخصيات التي صححت الصورة السلبية عن الشخصية الكردية وهذه النماذج هي:
ليلى
مثَّلت للأكراد الذين تعاطفوا وساندوا الأرمن، كردية مسلمة، فهي صورة الفتاة الكردية الإنسانة.
سالار فرهد منديكانيلي
نموذج الكرديّ الذي شارك في الفرق الحميدية لصالح الأرمن؛ وقتل نفسه بسبب ما حدث للأرمن من تلك الفرق، تركتْ له الكاتبة السرد فترةً من زمن الرواية، وأسقطت به على كثير من الأفكار، الصديق الصدوق (لآرام)، وهما الأحفاد، فيقول (سالار): ” أنا وآرام توأمان لروح واحدة، وتلك العلاقة تكمل علاقتي المحبة والأخوة التي جمعت أبي بعمي آرشاج، وأمي خجى بعمتي مريم.” شارك (آرام) الأرمنيّ الزراعة والطفولة، واستمرت العلاقة لسنوات، وهو الكرديّ المسلم .
ومن خلال سالار سردت الكاتبة خلال (سالار) بعض النقاط المهمة الفاصلة، التي أدت إلى تطور أحداث الرواية، كموقفه من خطبة الإمام عن الأرمن، فترك المسجد حيث يقول:” وجدتني لا أستمع إلى بقية الخطبة، فقد كان خطاب كراهية يزلزل بيت الحب… بيت الله وكان آخر يوم لي في المسجد.” أصبح (سالار) فردًا في الفرق الحميدية، فيقول:” كي أكون العين الحارسة لكم جميعًا.” من خلاله سردت الكاتبة أحداثًا حقيقية، كالفرق الحميدية، ظنه أهله خائن، وتوفيت أمه (خجى)؛ بسبب ذلك الظن، حيث يقول (آرام):” كان سالار مُحقًا في كل شيء. محقًا عندما التحق بالفرق الحميدية، ومُحقًا عندما حذرنا من القادم.” الكرديّ الذي أنقذ من يقدر عليه من إخوانه الأرمن من الموت، فقد نقلهم من (آمد) إلى (ماردين)، وصف رحلات تهجير الأرمن، وما تمَّ بها من تعذيب لهم، وقَتَلَ نفسه في النهاية؛ لإحساسه بذنب قتل الأبرياء، وكتب ورقة بجواره نصها كالآتي: ” قتلت نفسي؛ لأنني بت لا أستطيع التعرف عليها، تخلصت منها كما تخلصت من أبرياء، لم يجنوا شيئًا سوى أنهم كانوا أفرادًا في إمبراطورية تشتهي الدماء.” ، هكذا كان سالار شخصية كردية متعاطفة مع الأرمن.
خجى
صورة المرأة الكردية المسلمة المتعاطفة مع الأرمن، علاقتها وطيدة (بمريم ) زوجة (آرشاج) الأرمنية، اتضح ذلك عبر الاحتفالات بولائم الأعياد، مثَّلت (خجى) في علاقتها (بمريم) الوحدة بين الكرد والأرمن قديمًا، بيَّن ذلك المقطع الآتي على لسان (سالار):” كانت أمي وعمتي مريم تقفان عند عتبات المنزلين، تتضرعان إلى الله بالدعاء، والصلوات؛ ليزيد في أمد السلم بين العثمانيين والروس.” .
روشنا
نموذجٌ للفتاة الكرديَّة المسلمة ، من الشخصيات الثانوية بالنسبة للأحداث، ساكنةٌ من ناحية التطور، ظهرت فقط في موقف علاقتها (بآرام) الأرمني، فقد أحبها وأحبته، لكنها خافت أن يخدعها مثل الكردي المسلم، فهجرته، ورحلت عن المكان، وهذه العلاقة لها مغزاها، وهي الإفصاح عن العلاقات بين الأرمن والكرد، وإبراز صورة الحياة الاجتماعية بينهم في تلك الآونة.
كروان سالار فرهد منديكانيللي
نموذج الكرديّ المسلم المتعاطف الذي تنصَّر؛ بسبب شدة تعاطفه مع الشعب الأرمنيّ التي مثَّلته (بيروز) في نظره، شخصية نامية وعميقة؛ لأن دوره قوي التأثير في بناء الحدث وتطوره، أظهرت شخصيته كثيرًا من صور الشعب الأرمنيّ، أحب (بيروز) التي توفيت عنها والدتها وقت وضعها، ذاق العذاب لأجلها؛ فكان صورة للكرديّ الذي تعاطف حتى تخلى عن هويته ودينه، حين أمره والده بالهروب وترك (بيروز )؛ لأنها أرمنية رفض حيث: ” انتفض صائحًا، سأبقى معها كلمة نهائية لا رجعة فيها ،اخرجوا جميعًا بسرعة ولا تضيعوا الوقت، الثانية الآن إما أن تحيي أو تميت.” استمر مع (بيروز)، ورحل معها إلى مصر، أخذ بيدها وأنقذها.
والدة ليلى
نموذجٌ لامتداد العلاقات القديمة بين الأرمن والكرد، حيث قوة العلاقة بينها وبين (ميرا) والدة (لوسي) الأرمنية، فتقول (لوسي) عن والدة (ليلى):” أمها الطيبة الحنون، هادئة الطباع.”
والد ليلى
نموذج للرجل الكرديّ الظالم لبيته، مهندسٌ كبيرٌ عنده شركة مقاولات، رجلٌ عنيفٌ في بيته، لا يحترم حرية أفراد أسرته، تقول (لوسي):” صحيح أنه كان قليلًا ما يأتي وقليلًا ، ما يمكث لكن وجوده يعني أن يتوقف كل شيء، تتوقف الزيارات، يتوقف صنع الكيك، يتوقف التنفس، تتوقف الحياة وتموت كل مظاهرها.” استعانت به الروائية؛ لتوضح الإصرار على استمرار علاقة الود القديمة بين الأرمن والكرد في القدم برغم كثرة الموانع، منهم ذلك الرجل رب الأسرة الكردية عنيف الشخصية، متسلط الفكر