عصام الياسري
خلال زيارتي له قبل أيام – وضع في عهدتي الصديق الفنان السينمائي العراقي قيس الزبيدي، للقراءة الطبعة الأولى من النسخة الوحيدة لديه من كتابه الجديد الموسوم «في البدء كانت الكلمة- السيناريو»… وفيه يكون السؤال: هل كتابة السيناريو معرفة قابلة للتعلم؟ أم كتابا عن: السيناريو تعليمي وتاريخي في آن معا؟، أقول: كلاهما حينما يضع الكاتب، مخرجا ومنظرا سينمائيا بحجم قيس الزبيدي، المتلقي، وليس أي متلق، أمام كتاب جدير بالاهمام يقدم كل مستلزمات تأليف السيناريو بما يجعل كما يشير الناشر: المكتوب على الورق جديرا بالانتقال الى الشاشة…
صدر الكتاب في أواسط 2024 عن دار “محترف أوكسجين للنشر” في أونتاريو كندا، توزيع دار ممدوح عدوان للنشر والتوزيع. قام بمراجعته ومتابعة نشره الصديق الكاتب والإعلامي السوري زياد عبد الله. يقع الكتاب في 136 صفحة من حجم (المتوسط) ما يعرف بكتاب “الجيب” ويتميز بجودة الورق والطباعة وحرف من حجم 14 يحرر القارئ من استعمال العوينات من دون الإشارة إلى اسم مصمم الغلاف. يضم مقدمة وتسعة عشر فصلا، تبدأ بتطور الوسيط السينمائي: مرورا بـ (مدخل إلى فهم السيناريو، عملية كتابة السيناريو، البنية الفيلمية: الفصول الثلاثة، قاعدة الفصول الثلاثة، البنية الأدبية السردية السينمائية، بناء المكان والزمان في السينما، الوسائل السمعية في الفيلم، كيف يتطور السيناريو، إشكالية كتابة “نص” الفيلم الوثائقي، وصولا إلى الخيارات الجمالية لصانع الفيلم الوثائقي وأنواعه).
وفي كتابه الفريد من نوعه يقول الكاتب في الصفحة 58 تحت عنوان “أرسطو في السينما”: ((ننطلق في البداية، من مفهوم السيناريو السينمائي، ونعده كبنية ادبية سردية، وبما انه يرتكز على عناصر عديدة، الهدف منها، اساسا، يتلخص في خلق بنية درامية ترتكز قبل كل شيء، حسب مفهوم ارسطو، على تمثيل افعال لبشر يفعلون.)) وفي صفحة 59 جاء: ((علينا أن نعود إلى الدراما الأسطورية، كاساس لنقترب من خاصية بنيتها كدراما مبنية وفق قواعد دوّنها أرسطو في كتاب “فن الشعر”.. وفيه يتحدث أرسطو عن حكايات بسيطة وأخرى معقدة، وعنده المعقدة هي القدوة. والحكاية المعقدة تكون كذلك عندما يقع تغير القدر بواسطة “مشهد معرفة” او بواسطة “تقلب حاسم” ويعني تغير أحداث في ضدها: “أوديب يعلم أنه متزوج بأمه، وبهذا تكون نبوءة أبوللو قد تحققت)). وفي صفحة 60 ينتهي بالقول (( ولا شك ان بنية الدراما عند أرسطو تقوم على اساس بنية حكاية درامية مغلقة، وهي البنية التي تشكل بالنسبة الى “سيد فيلد” اساس نظريته في السيناريو الادبي، على هذا نريد ان نبدأ، أولا في مقارنة بنية الحكاية الدرامية المغلقة بشكلها الكلاسيكي عند أرسطو وفرايتاغ في الماضي وعند سيد فيلد في الحاضر)).
يوعز ما تقدم به الفنان “قيس الزبيدي” بهذه الجزئية، على قدر أهمية هذا الفصل الذي كان يفترض من وجهة نظري، أن يكون المقدمة التي تقود إلى ان موضوعات كتابه حول السيناريو، لا يمكن فصلها عن الخلفية التاريخية البالغة الأهمية. من حيث ان كتابة السيناريو المعروف أيضا “بالنص السينمائي”، بدأت مع بدايات السينما الصامتة في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين. وتطورت هذه الممارسة مع الحاجة حيث أصبح من الضروري وجود وثيقة تفصيلية لتوجيه المخرجين والممثلين وفريق الإنتاج حول ما يجب تصويره وكيفية سير الأحداث في زمن كان التواصل المباشر فيه صعبا خلال التصوير.
نستنج من الاحاطات العلمية والفكرية التي يستند إليها الزبيدي في كتابه الذي يحمل تسعة عشر بحثا مفصلا، بأن علم كتابة السيناريو ليس مفردة او مصطلحا عاما، إنما، عملية لها تقنياتها الفكرية إلى جانب أدواتها الحرفية ومنها: الأهمية الفنية، لأن يوفر السيناريو هيكلا منظما للأحداث، مما يساعد على ضمان تدفق السرد بشكل منطقي وسلس، كما يتيح للمؤلفين تطوير الشخصيات بعمق، مما يجعلها أكثر واقعية وجاذبية للجمهور. ويجعل الحوار جزءا أساسيا من السيناريو، حيث يعبر عن الأفكار والمشاعر ويعزز تفاعل الشخصيات.
ومن الملاحظات المهمة المثيرة للإنتباه يتعرض الكاتب لجملة من الأمور المعنية بصناعة السينما والتي على كاتب السيناريو مراعتها، دون الإشارة إلى بعضها بشكل مباشر في كتابه: الأهمية العلمية، من حيث إن: يسهم السيناريو في التخطيط الدقيق لجميع جوانب الإنتاج، من الزوايا التصويرية إلى المؤثرات الصوتية والمرئية. إن يكون كتابة السيناريو بحثا مكثفا وتحليلا دقيقا لضمان دقة المعلومات والحقائق المقدمة، خاصة في الأفلام التاريخية والوثائقية. كما يعكس تطبيقات نظرية السينما والنظريات الأدبية في سرد القصص وتطوير الحبكة. الأهمية الثقافية: إن يكون للسيناريو وسيلة فعالة لنقل الرسائل الثقافية والاجتماعية والسياسية ويسمح بفتح أبواب الإبداع والابتكار في سرد القصص، مما يؤدي إلى إنتاج أفلام ذات تأثير ثقافي عميق..
بطريقته المعهودة ـ في مجمل إصداراته العديدة حول السينما، كشف المفكر قيس الزبيدي من جديد: أهمية السيناريو كونه العمود الفقري لصناعة الأفلام السينمائية، حيث يجمع بين الفن والعلم والاقتصاد والثقافة في وثيقة واحدة. بفضله، يمكن تحويل الأفكار والرؤى إلى أعمال سينمائية قادرة على التأثير والإلهام.. لكن كيف تطور كتابة السيناريو: عصر السينما الصامتة (1890- 1920: بدأت كتابة السيناريوهات بشكل بدائي كمجرد توجيهات ونصوص قصيرة. العصر الذهبي لهوليوود (1930- 1950 ازدهرت كتابة السيناريوهات مع ظهور الأفلام الناطقة، وبدأت النصوص تصبح أكثر تعقيدًا وهيكلة. إن الحقبة الحديثة 1960 حتى الآن: تطورت كتابة السيناريو فيها لتشمل تقنيات السرد المعقدة وتنوع الأنماط والأجناس السينمائية، مع زيادة التركيز على تطوير الشخصيات والحبكة.
الجدير بالذكر أن الكتاب لا يخلو من ذكر أهم أبرز الباحثين والممارسين في كتابة السيناريو منهم: سيد فيلد Syd Field، وضع هيكل الثلاثة فصول كإطار لكتابة السيناريو، مما ساعد الكتاب على تنظيم نصوصهم بشكل أكثر فعالية. روبرت ماكيRobert McKee ، تعمق في تحليل السرد وعلم القصص، مع التركيز على أهمية تطوير الشخصيات والصراع. بليك سنايدر Blake Snyder، تقديم صيغة “Save the Cat” التي توفر هيكلا عمليا وسهل الاستخدام لكتابة السيناريوهات. لندا سيجرLinda Seger التركيز على تحسين النصوص وتطويرها، مع نصائح عملية لتحسين الهيكل والشخصيات والحبكة. جون تروبي John Truby تقديم منهج شامل لتطوير السرد القصصي يتجاوز الهيكل التقليدي للثلاثة فصول، مع التركيز على العناصر السردية المتعددة.
هؤلاء الأفراد لم يقوموا فقط بتطوير تقنيات جديدة في كتابة السيناريو، بل أيضا بتقديم أطر ونظريات ساعدت الكتاب على تحسين نصوصهم والوصول إلى جمهور أوسع. وبفضل مساهمات العديد من الباحثين والممارسين شهدت كتابة السيناريو تطورا كبيرا عبر العقود الماضية. وأصبح السيناريو يلعب دورا مركزيا ومحوريا في صناعة الفيلم السينمائي، حيث يربط بين جميع العناصر الأساسية للإنتاج. من الإخراج إلى التصوير، ومن المونتاج إلى الموسيقى. ويعتمد كل جانب من جوانب صناعة الفيلم على السيناريو لتحقيق رؤية متكاملة ومتناسقة. هذا التعاون الوثيق بين السيناريو وبقية أدوات صناعة الفيلم يضمن إنتاج عمل فني متكامل وذو جودة عالية. وعلينا ان لا ننسى دور الأبحاث الأكاديمية والجامعات والمعاهد السينمائية والورش حول العالم على تقديم العديد من البرامج والدراسات التي تركز على كتابة السيناريو، مما يتيح للكتاب تبادل الأفكار والتعلم من خبراء صناعة السينما.. ينسحب ذلك، بالتأكيد، على أهمية كتاب الفنان قيس الزبيدي الجديد المعنون «في البدء كانت الكلمة- السيناريو» لما يتضمنه من فصول قيمة حول أدب كتابة السيناريو المعاصرة، المثيرة للقراءة.