في البدء كانت المدينة، والمدينة كانت – ارباخا كركوك 1959 الى 1968

 

 

الجزء الخامس والأخير

 

كركوك يا بوابة فردوس العشق والآهات

ويا سلالة الهزبر ورحلة الدم والعذاب

الشاعر المجدد عبد الحكيم نديم الداوودي

د. توفيق رفيق التونچي

 

 

 

 

 

 

 

اللغة التركية والعودة الى أصولها الحقيقية بتبني اللغة الكوردية في التداول اليومي في بيوتها. لأول مرة بدا بالظهور صور جديدة تباع على الطرقات في مركز المدينة وكان الرموز الوطنية الكوردية قد بدأت تحتل مكانها بالقرب من الصور المنتشرة وبكثرة للزعيم الشهيد عبد الكريم قاسم والسياسيين من مفكري الفكر الاشتراكي وصور الممثلين والمطربين وكانت تعلق للبيع على الحائط في مركز المدينة.

 

يجب ان لا ننسى اثر الأحزاب السياسية في المدينة ومقراتها التي كانت في مضمونها بداية الأمر تتجه باتجاه تركيبة انتماءات رجال الدولة الجمهورية الفتية الفكرية والقومية حيث الحزب الشيوعي والقومي ألبعثي العربي والناصري الذي تحول لاحقا إلى الاتحاد الاشتراكي العربي والبارتي أي “الحزب الديمقراطي الكوردستاني” الذي كان آنذاك احد الأحزاب المتحالفة مع الحكومة في بادئ الأمر وكانت هناك قوى مسيحية استفادت كثيرا من تواجد قوى الانتداب البريطاني في العهد الملكي “انظر مثلا الى قوات الليفي في العهد الملكي الذي كان جل أعضائها من المسيحيين ويروي أبناء كركوك عن حادثة ترجع الى أيام الانتداب البريطاني للعراق وعلى أثر سوء تفاهم بين بعض تجار التوركمان والزبائن الآشوريين   حصل شجار وفي لحظة طيش قام بعض المجندين من الكتيبة الآشورية “اليفي” بقتل ما يقارب 178 في صفوف المدنين التوركمان والاشورين بما فيهم أربعة من رجال الشرطة حسب المصادر الاثورية وهناك خلاف على مشاركة الطائرات البريطانية في القصف لا مجال لمناقشتها هنا في الرابع من أيار عام 1924.

المسيحيين في المدينة كونت لها كيانات تمركزت في حي عرفة وكما اسلفت والذي أنشاؤه البريطانيين للعاملين في شركة نفط الشمال “تغير اسم الشركة الى شركة النفط الوطنية العراقية – آي بي سي ” و شاركت هذه الشركة فعليا في رسم الخريطة السياسية والاجتماعية للمدينة وربما للعراق بأجمله وكانت لها دورا فعالا في جميع مجريات الأمور السياسية في المدينة وفي العراق خاصة بعد صدور قانون 80 من عام 1960 الذي تحول لاحقا الى احد الأسباب الرئيسة لإنهاء حكم الزعيم الراحل عبد الكريم قاسم.

أوشانا نيسان, الواقعية في الفكر الاشوري المعاصر, دار سركون للنشر, السويد, 1996.

كانت ثورة الرابع عشر من تموز قد زلزلت الأرضية السياسية العراقية الديمقراطية الناشئة وجاءت بالجديد في عالم السياسة من هيمنة الفكر العسكري والعسكريين والأفكار الشمولية على الحكم والسلطة ومؤسسات الدولة السياسية، المدنية، العسكرية، الاجتماعية، العلمية، التربوية وحتى الرياضية وكافة مرافق الحياة خلال ما يقارب الخمسة عقود الأخيرة. كنتيجة مباشرة لوجود تيار مسيس ضمن المؤسسة العسكرية العراقية حتى قبل تأسيسها بعد الحرب العالمية الأولى على اثر انهيار الدولة العثمانية حيث كان العديد من ضباط الجيش العثماني من العراقيين ضمن تشكيلات هذا الجيش العراقي الجديد.

 

 

مقر شركة نفط العراق في كركوك

كما نرى تأثير المؤسسة العسكرية في تسيير الأمور في المدينة خاصة قيادة الفرقة الثانية ظهرت تأثيرها لاحقا في انقلاب 8 شباط  من عام 1963. ولا ريب ان المؤسسة الدينية وبجميع اتجاهاتها كانت تنطلق دوما من توجهات غير قومية باعتبار جميع المسلمين سواسية في الدين. أما التجمعات التركمانية فقد انقسمت بعد زوال النظام البعثي بين انتماء طائفي شيعي وانتماء قومي مرتبط بدوائر القرار في انقرة.

فقد كانت” ولا تزال وبذلك يغيب القرار التوركماني المستقل” تدار قوميا وتوجه عن طريق قوى الخارجية الأمنية ومراكز استخباراتية في تركيا وتستند على أفكار قومية كمالية تنطلق من عدم الاعتراف بوجود قوميات في تركيا وترفض حتى بالاعتراف بوجود الشعب الكوردي انطلاقا من توجهات حزب الحركة

————————————-

يقول الاستاذ حامد الحمداني في مقالة له وتحت عنوان : هكذا وقع انقلاب 8 شباط الفاشي عام 1963 ان ” قيام التمرد الكردي بقيادة الإقطاعيين [ رشيد لولان ]و [عباس مامند] ، وانجرار الحزب الديمقراطي الكردستاني إلى تلك الحركة ، ولجوء السلطة إلى القوة العسكرية لحل التناقض مع الأكراد،  مما سبب إضعافاً خطيراً للسلطة ، وشق جبهة الاتحاد الوطني ، ودفع الحزب الديمقراطي الكردستاني للتعاون مع انقلابي 8 شباط ، ومع التمرد الرجعي لرشيد لولان ، وعباس مامند ، المدعم من قبل الإمبريالية الأمريكية وحليفها [شاه إيران].” ويذكر علاقة الزعيم بالحركة الكوردية قائلا: لقد اخطأ الزعيم في أسلوب التعامل مع القيادة الكردية المتمثلة بالزعيم مصطفى البارزاني ، على الرغم من أنه لم يكن يحمل أي أفكار شوفينية تجاه القومية الكردية،وأن استقباله للسيد البارزاني ورفاقه العائدين من الاتحاد السوفيتي وتكريمهم،والتأكيد على الحقوق القومية للشعب الكردي في الدستور المؤقت يؤكد هذا الموقف لدى الزعيم ، في حين أن القوى القومية التي نفذت انقلاب شباط كانت غارقة في شوفينيتها وكراهيتها للشعب الكردي بحيث لم تصبر على المباشرة بقمع الحركة الكردية سوى أقل من ثلاثة أشهر،منزلة الخراب والدمار بكردستان بشكل وحشي يندى له جبين الإنسانية. انظر الفصل الرابع من كتابه الموسوم : لمحات من تأريخ حركة التحرر الكوردية في العراق.

 

 

القومية وحزب الشعب الجمهوري “الحزب أسسه مصطفى كمال أتاتورك ومن مصائب القدر ان يليه في قيادة الحزب والدولة كوردي مستترك واعني المرحوم السيد عصمت ايننو وكوردي آخر في السبعينيات هو السيد بولند اجاويد كل تلك الأفكار تمازجت مع بقايا وتأثير نشوة الفكر الإمبراطوري العثماني ونظرته السلطوية الفوقية رغم انهيار دولتهم واختفاء عرشهم ولكن وكما أسلفت ان فكرهم السلطوي التهميشين لشعوب التي كانت يوما خاضعة للسيطرة العثمانية، خاصة الشعب العربي و الكوردي مع احتقار واضح للمنتمين الى الديانة المسيحية “كاور” والكلمة على الأرجح تتريك لكلمة كافر العربية، من أرمن ، السريان او الكلدان، كانت آنذاك لا تزال لم تفقد بريقها ولمعانها خاصة ان المتعلمين من أبناء المدينة وبكافة انتماءاتهم العرقية والقومية كانوا لا يزالون يفتخرون بانتمائهم الثقافي التركي. راجع مادتنا حول تركيا في التاخي:

مئوية جمهورية تركيا و حلم تحديث الدولة السلطان       – جريدة التآخي (altaakhi.net)

ان الجدير بالذكر ان هناك العديد من الأصوات الغير عقلانية من المحسوبين على التوركمان لا يزالون لم يغيروا وجه نظرهم ويعيشون اليوم على بقايا نشوة أمجاد أيام الإمبراطورية العثمانية حتى بعد مضي قرن من الزمان على سقوطها وانهيارها وانتشار النسبي للأفكار الديمقراطية في تركيا الحديثة نفسها ودعاوى الانتماء إلى الاتحاد الأوربي وأمور تخص بحقوق الإنسان وحقوق الشعوب الأصلية لأناضول من كورد وأرمن وسريان وعرب وروم.

 

بابا كركر ونيرانه الأزلية

إشراقات كوردية … دلالات التعدد العرقي والقومي في الأزياء الشعبية في كركوك وضواحيها – جريدة التآخي (altaakhi.net)

لا بد ان يكون الناس قد صحو إلى أهمية الهوية الوطنية تلك الأيام إلى درجة نرى أن العديد منهم وتحت تأثير نتائج الأحداث المأساوية أيام 14 الى 16 تموز1959 قد تحول بيوم يوم وضحاها الى ادعاء عكس انتماءه الاصلي وتبديل وتغير قوميته وكلنا نعرف ما حصل بعد ذلك حين قام القوميين والبعثيين بانقلاب شباط وقتل الزعيم وضرب القوى الوطنية وإعدام خيرة أبناء المدينة في ساحات كركوك.. تلك الأيام تركت وكما أسلفت أثرا سلبيا نرى تداعياتها لحد يومنا هذا على مجمل العلاقات الإنسانية بين ابناء ألمدينة.

لا بد من ان يكون المستقبل يحمل أجوبة كثيرة لمن يدعون انتمائهم القومي البعيد عن أصولهم الحقيقية وهي نتيجة لسياسات الحكومات المركزية وسياسة البطش والقتل والسجن التي مارسها السلطة المركزية بصورة منظمة وبتخطيط مباشر من القيادة الفاشية لجميع الأحزاب السياسية التي توالت على السلطة المركزية في بغداد فهي جميعا كانت ولا تزال ومع الأسف الشديد متفقة تماما أمام ما يسمى بمشكلة مدينة كركوك و حتى يومنا هذا بعد سقوط النظام السابق حيث نرى تلكأ واضحا في سياسة الحكومة العراقية تجاه تطبيق القانون والدستور العراقي بما يخص المدينة وإعادة الأوضاع الى حالتها الطبيعية و التركيبة الحقيقية لسكان المدينة وإبعاد جميع المستوطنين ممن ساعدوا في تنفيذ مآرب قوى الفاشية في تهجير وإبعاد أبنائها وتغير الطابع الجغرافي والسكاني والسياسي للمدينة.

 

 

هنا أود ختاما الإشارة إلى موضوع مهم ألا وهو أن مدينة كركوك كأي مدينة ضمن إقليم كوردستان وضمن دولة العراق الموحد يجب ان تبقى مفتوحة القلب لاستقبال أي استيطان طبيعي من قادمين او عائدين من جميع أرجاء كوردستان ومن مدن العراق بالعموم اذا كانوا من القادمين ممن يرغبون في الكد والعمل والعيش المشترك بين أبنائها وان الإحصاء السكان العام القادم سيوضح التركيبة الحقيقية القومية والثقافية للمدينة باعتبار ان اللغة الثقافية ليست هوية قومية “انظر الى ملايين الناطقين بالإنكليزية او الفرنسية ومليار من الناطقين بالإسبانية او حتى العربية والتركية وأصولهم القومية الحقيقية” ويمكن إجراء أي استفتاء آخر في المستقبل بعد تصحيح أوضاع المدينة وإعادة الأمور الى نصابها الصحيح استنادا الى المادة 58 من قانون الإدارة الدولة المؤقت وما تضمنه لاحقا المواد  140،136 من الدستور العراقي الدائم”   بين أبناء المدينة لتحديد رغباتهم وميولهم. كما أني أرى ان على جميع الأطراف الإيمان التام بمبدأ الحوار لحل النزاعات واحترام الرأي المخالف ومناقشة أصحاب الرأي للتوصل على الأقل إلى حلول ترضي كافة الاطراف، حلولا توافقية حوارية سلمية. هذه ممارسة للمبادئ الديمقراطية في إرساء بنيان المجتمعات المدنية المتحضرة مهمة جدا لسيادة روح الاخوة والتسامح وحلول الامن والوئام بين ابناء المدينة. وعداها تسير في طريق الدكتاتورية وبناء المجتمعات العسكرية والأمنية الاستخباراتية والمستعدة دوما لاستخدام العنف الشديد في الحروب والغزوات والصراعات مرورا حتى ب أبادة البشرية نوويا وتخريب الديار وقتل الأبرياء بغز الخردل ولم لا باستخدام القنابل الذرية.

قد يعجبك ايضا