أمين بوتاني
ببساطة شديدة ومن دون أية مقدمات، انها دعوة جادة و مخلصة للتنقيب والعثور على مكملات الذات المرهَقة والمُهانة؛ اكثر من كونها كتابة تريد الإشادة بشخصية سياسية مرموقة هي بغنى عن كيل المدائح او ما شابه ذلك، بل ان الواقع السياسي والإجتماعي المرير الذي يعيشه العالم عموما ومنطقتنا بالذات والعراق على وجه الخصوص، والذي هو نتاج ارث فكري تناحري مقيت، أمسى وكأنه ماكنة عملاقة تنتج المآسي والويلات بإستمرار، والذي نحن بصدده يتضمن مقرونات الهوية القاتلة والإنتماء المميت والفرادة النزقة، ولابد هنا من إسداء الشكر لصاحب الرؤية الثاقبة والطرح السديد، الكاتب والروائي اللبناني الفرنسي (أمين معلوف) الذي أغنى الفكر الإنساني والمكتبة العالمية من خلال كتابه القيم المعنون (الهويات القاتلة)، انه خاض في حقل فكري معرفي شائك بغية صياغة و كشف جديد لمفهوم الانتماء الشائع وترسيم جديد لحدود الهوية وجذورها المتفرعة والمتداخلة، فكل مجتمعاتنا و هوياتنا وإنتماءاتنا على مر العصور خلقت لنا فرادة سلبية زائفة أتاحت وأباحت لنا القتل والإبادة ناهيك عن التنقيص والتهميش.
قرأنا قصصا عن المظالم وأسودت في أعيننا الوان الحياة، سمعنا حكايات عن الحروب والدمار وإنتابنا أسى قاتم، مع الأيام تعرفنا على مديات ماكرة لصيقة بالذات الإنساني لكنها خفية متربصة، مما أصابنا بذهول أليم، قرأنا تودوروف و آلان تورين و معلوف و بياتريكس وآخرينعن مفارقات ال(أنا) الغريبة، وإكتشفنا معهم العلة العتيدة التي تنخر ذاتنا الإنساني المترنحة بين الإستقامة و القيامة، ولكننا الى جانب ذلك قرأنا عن ذوات عظام أيضا، شهدنا أناسا أفذاذا كذلك، ولكن يبدو ان الوقت قد تأخر كثيراً لإخراج مدية الجسارة بغية إستئصال نزعة الأنانية المحتكِرة لنفسها كل مقدرات القوامة و شرعية الوجود من رحم (أنا) التكافؤ والتماثل والتشارك.
ان الاعتزاز بسمو الهوية والفرادة القصوى لا يعني اننا ذوات خالصة نقية، او اننا بمنأى عن ظلال جينات و وجود الآخرين أبدا، لأننا مأهولون ب(الآخرين) دوما، لذا يجب ان تنبني هوياتنا لتشمل الذوات المكملة لوجودنا أصلاً، وان كل (أنا) يعيش وسط جمع غفير من (الآخرين).
سبيل للمخادعة
الكل بمقدوره قراءة مقال عن موضوع كهذا و يتشدق بمضمونه دون أن يكون مؤمنا به، كأن يجعل ذلك سبيلا للمخادعة كما اليوم تماماً، فإلى جانب الإدعاء بمبادئ جميلة و سمحة من قبيل تقبل الاخر واحترام المختلف وصون حقوقه و مكانته، الا ان الواقع يظهر لنا عكس ذلك، وان رفوف الاحداث التاريخية والراهنة أيضاً مليئة بالكوراث والفظائع، فكثيرون يتكلمون بإسم قداسة الآخر (جارك قبل دارك) بينما هم ابعد ما يكونون عن ذلك، ومجتمعاتنا تدفع فواتير هذه النزعة المخادعة كل يوم.
اننا اليوم بحاجة اكثر من اي وقت مضى الى إشاعة ثقافة التكامل والاعتراف بالذوات الشرعية والشريكة في هويتنا وفرادتنا، والكل مطالبون بالتعاطي مع آخريهم وفق نظرة متكافئة منصفة تأتي بالنفع على الجميع على حد سواء، لكن للأسف الشديد؛ نرى بأن حتى الجبهة الثقافية والفكرية السائدة في مجتمعاتنا التي نعول عليها، نراها تقف الى جانب النزعة الإقصائية من خلال تشجيع روح الاستعلاء والإستعداء بين مكونات وأطياف البلد الواحد. والمنحى المغاير إنما يحتم على المثقفين والأشخاص والقوى الخيرة قيامهم بالدفاع عن قيم الحياة والحرية والعدل والمساواة وعدم الانجرار وراء النزعة المخلة بحرمة العقل و مكانة الإنسان. مما لاشك فيه؛ ان المشهد العام وفي ظل سيادة الصراعات الراهنة التي تشهدها البلاد، لايبدو أي انفراجة تلوح في الافق، في الوقت الذي كنا ننشد حصول تغيرات كبيرة تطرأ على وتيرة التعايش بين المختلفين و المخالفين بعد عام 2003، الا ان (الآخر) هذه المرة بدا في نظر (الأنا) سعيراً على أشده وفقا ل سارتر، حينما قال على لسان غارسان في مسرحية»الابواب المغلقة» ان(الجحيم هو الآخرون).
نحن اليوم بحاجة الى من يرينا جانب (النعيم) في وجود الآخرين، نحن بحاجة الى من لديه القدرة على إستئصال علقة الغدر والمكر من ذواتنا المريضة الممانعة الممتنعة ويغرس محلها التكافل والتكامل، فتأريخنا مليء بالأخيار والأطهار من ذوي الهمة والمروءة والإقدام، لدينا الكثير والكثير ممن أقدموا على تخطي الصعاب و ركوب الخطر من أجل إحقاق الحق وإنصاف المظلومين والمستضعفين، وسجلات تأريخنا المشترك حافلة بمواقف مشرقة ومشرفة تخص جميع المكونات الإثنية والدينية والمذهبية دون إستثناء.
السيد نيجيرفان بارزاني يمثل اليوم واحدا من هؤلاء الكبار الذين لديهم التجربة و الحنكة والبصيرة النافذة للتغلب على كثير من القضايا المعقدة، فضلا عن امتلاكه للمكانة والقدرة الكافية والكفيلة بالتعاطي الإيجابي مع الجميع مع ضمان إشراكهم في تفكيك الأزمات و تخطيها، لذا ان وجوده على الساحة السياسية العراقية يعد فرصة أكيدة للتغلب على كثير من الملفات والمشاكل المزمنة. رئيس إقليم كوردستان الذي يشهد له الغالبية ان لم نقل الجميع؛ بأن سيادته لديه خطابا مرنا يراعي فيه مصالح الجميع بمن فيهم الخصوم والأضداد، فضلا عن كونه سليل عائلة مناضلة حاربت الظلم والإستبداد على مدى عقود ضد الأنظمة الجائرة، فجده الأكبر (عبدالسلام بارزاني) الذي اعدم على يد العثمانيين في الموصل سنة 1914 كان يلقب ب (شيخ النصارى) لشدة دفاعه عن الأديان والطوائف الاخرى أيضاً، وكذلك جده المرحوم (مصطفى بارزاني) الخالد الذي كان لديه مواقف مشهوده في الشهامة والإستقامة والسلوك السياسي القويم، وأيضاً سمو و عظمة خودان بارزان (الشيخ أحمد بارزاني) صاحب الإصلاحات الكبيرة بخصوص حماية البيئة وحقوق المرأة وإحقاق العدل والمساواة بين الناس، وأخيراً فخامة (الرئيس مسعود بارزاني) و شقيقه المرحوم والد نيجيرفان (إدريس بارزاني) وهما شخصيتان فذتان غنيتان عن التعريف والإشادة، نيجيرفان بارزاني ترعرع في كنف هذه العائلة الكريمة التي لديها علاقات وطيدة مع كافة المكونات من الأديان والطوائف والشخصيات الوطنية والعشائر العراقية والعربية، وكذلك مع دول الجوار ومع كل من ينشد السلم والإستقرار والتسامح والتعايش، أضف الى ذلك ان الحزب السياسي الذي ينتمي إليه (الحزب الديمقراطي الكوردستاني)؛ قاد مسيرة النضال للحركة التحررية الكوردستانية منذ مايقارب الثمانين عاماً، يتبنى ثوابت فكرية ومبدئية تحث على العدالة و الحرية والسلم و التآخي والمستمدة أصلاً من نهج البارزاني الخالد.
ولدينا في عموم العراق ايضاً، قديماً وحديثاً، شخصيات وأقطاب سياسية و دينية إجتماعية مرموقة و مؤثرة تحظى بمكانة كبيرة على المستويين الرسمي والشعبي، يمكن لهؤلاء الإضطلاع بأدوار حاسمة إن ارادت ان تبادر وتأخذ مكانها لإصلاح ذات البين وإنتشال المجتمع من الواقع المتأزم وإحداث التغييرات المنشودة بهذا الخصوص.
منذ تأسيس الدولة العراقية (1921)وعلى مدى قرن كامل والعراق لم ينعم بالإستقرار والأمان، وذاق أهله ويلات الحروب والتناحرات بصورة دائمة و تناوبت عليه عهود مظلمة طاحنة، وعلى حد الفرضية التي اطلقها (توينبي) التي تنص على ان المجتمع الإنساني مر بثلاث مراحل من حيث التباعد والتواصل بفعل بطء و سرعة الإتصالات، ففي الحقبتين الأولى والثانية ترسخت لدى المجتمعات مسألة التمايز والفرادة بشكل كامل، بينما في الحقبة الثالثة وبفضل الثورة المعلوماتية وعلى حد قوله ان حدة الاختلاف والتمايز قد خفت و تقلصت كثيراً بين الهويات والإنتماءات، مما كان مؤداه في صالح رصد الطاقات الممكنة لتفكيك غطرسة(الأنا) المتعالي والإسراع في إعادة توزيع المكانة والقوامة على الآخرين و الذوات سواء بسواء.
واليوم في العراق، وبعد مرور عقدين على التغيير، نكاد ان نقول بأن الذي إقترفته أيادينا من مظالم بحق مجتمعنا لا يقل عما إرتكبته الأنظمة والعهود السابقة من قتل وتشريد وإنكار للحقوق، لذا وفي الوقت الذي نقف فيه على عتبة تحولات كبرى مرتقبة، حيث تمر بلادنا والمنطقة بأسرها بفترة مخاض عصيبة، علينا تدارك الأمر والإحتكام الى صوت العقل والعقلاء وبذل جهود حثيثة لترميم هوياتنا وإنتماءاتنا وفرادتنا الخاوية والمهترئة، تلك الفرادة الرافضة لكل خوارزميات العقل و معطيات العصر بدءا من الانفتاح على الاخرين وتقبل وجودهم وتقاسم شرعية البقاء معهم تحت قبة الثقة المتبادلة والنوايا الطيبة، فنحن اهل الدار ومنذ فجر التأريخ من الأولى لنا ان نتكاتف ونتكامل معاً ونلتقي مجتمعين على كلمة سواء بيننا، لنضع حداً لكل من يريد إلحاق الأذى بنا ويسيء الى شراكتنا الراسخة التي بناها الآباء، والكل منا لديه ما يقدمه لبناء الصرح الذي ينشده الجميع كي نطوي صفحات الخلاف والغدر بين أبناء البلد الواحد ونضمن لحاضرنا ومستقبل أجيالنا كل ماهو مشرق وجميل.