الجزء الرابع
كركوك يا بوابة فردوس العشق والآهات
ويا سلالة الهزبر ورحلة الدم والعذاب
الشاعر المجدد عبد الحكيم نديم الداوودي
د. توفيق رفيق التونچي
البعض الآخر من العرب منتشرين في مناطق الحويجة والرياض والقرى والنواحي المحيطة ويرجع استيطانهم الى مشاريع العهد الملكي الاروائية الاستراتيجية فيما سمي فيما بعد بمشروع ماء دبس الاروائي لإيصال المياه الى منطقة العظيم الشبه صحراوية وما يسمى ب” صحراء القرفة”. تغيرت تسمية المشروع مع توالي الحكومات وبعد كل انقلاب” مع تواجد عربي داخل حدود المدينة في “عرب محلسي” وآخرون من عشائر الحديديين في تلك الحقبة في وسط المدينة وكانوا يمتهنون تربية الجاموس ويبيعون منتجاتها في الأسواق الشعبية وفي دورهم وسط المدينة بالقرب من بهو البلدية عند ساحة الزعيم الذي كان فيها نصب الزعيم الراحل. يجب ان نفرق بين هؤلاء العرب الأصلين وهؤلاء المستقدمين من قبل الحكومات الفاشية لتغير الطابع السكاني للمدينة والحصول على قوى عاملة مخلصة من رجال الأمن والشرطة والجيش ورجال الدولة من الموظفين والمستخدمين ورجال امن. تلك الحملات التعريبية التي جلبه قوى الغدر القومية السلبية الحاقدة الشوفينية خاصة بعد سقوط الحكم الملكي. كانت تلك هي الأسواء حيث جرى أعمال النهب التي أصابت المدينة وأهلها من الكورد خاصة في حيها الشمالي على خط الشارع العام المؤدي الى مدينة هولير المسماة ” رحيم آوى” ذو الأغلبية الكوردية حيث هاجمها تلك القوات الخفيفة والمسماة قوات “خالد بن وليد” بمؤازرة المرتزقة من الكورد “فرسان صلاح الدين” وعاثت فيها نهبا وفسادا ابان حكم الرئيس”عبد السلام عارف” .
كما كانت التواجد المسيحي من الاشوريين والكلدان والارمن العديد من تلك العوائل كانو من النازحين من تركيا وإيران والبعض القادمين من مدن عراقية أخرى كالحبانبيه انتشروا في مناطق مختلفة في المدينة وازداد تواجدهم بعد بناء التجمعات السكنية في حي عرفة كما كانت هناك عوائل مسيحية قد استوطنت المدينة منذ أمد بعيد كما ان المدينة احتضنت عوائل يهودية سكنت المدينة ومارست التجارة في سوق القيصرية الواقعة على أقطاف قلعة كركوك التاريخية وسكن عدد ليس بقليل الأرياف القريبة منها هاجروا معظمهم إلى فلسطين بعد عام 1948.
كما نرى ان هناك اثرا كبيرا للعديد من العوائل من أصول اذرية وكوردية نزحت الى المدينة من كوردستان إيران في أوقات مختلفة ونتيجة للصراع الدائر على الحكم في إيران وامور اخى اجتماعية واقتصادية و خاصة بعد انهيار الحلم الكوردي ابان حكم الزندين ولاحقا ايام انهيار الحلم الكوردي بإنشاء دولة كوردستان في مهاباد عام 1947 واعدم قادتها البررة في ساحة القناديل الأربعة. تزاول معظم تلكم العوائل التجارة ومن الكسبة والصناع والعمال. كانت العوائل الغنية و المتنفذة قد اختارت اللغة التركية تقربا من لغة الحاكم آنذاك أي الدولة العثمانية مع العلم ان اكثرية التوركمان هم من الشيعة الاثنا عشرية والمقلدة للإمام أي المرجع الديني اذ ينتشرون شمالا في مدينة تل عفر وداخل مدينة كركوك ومن ثم في بشير، داقوق، طوز، امرلي، خانقين، مندلي اما السنة منهم فنراهم في كركوك وأربيل والتون كوبري وبعض القرى القريبة من كركوك ناهيك عن تواجدهم في العاصمة بغداد. مع العلم بان العثمانيين كانوا من الطائفة السنية و كي تميز انتمائها الطبقي والاجتماعي أكثر من ان تكون ذو أصول تركية او توركمانية واني اجري ها هنا تميزا بين الانتماءين التوركماني القادم من الشرق ذو التأثير الاوغزي ،الاذري ، السلجوقي ، الصفوي والقاجاري ، التتري والمغولي الذي بطبيعته بقى يميل الى الشرق ” تحت تأثير الصراع الصفوي الشيعي و العثماني السني وكان الصفويين التوركمان في بادئ الأمر من طائفة السنة وتشيعوا لاحقا ايام الشاه إسماعيل الصفوي.
كان للانتماء العقائدي الشيعي للتوركمان التأثير الكبير عليهم وأبعدهم عن الانخراط في أي حركة قومية بينما كانوا على وعي تام بما يدور داخل تركيا وسياسة التهميشية للمنتمين الى العقيدة الاثنا عشرية والآخرون من أهل الطرق الصوفية. وهناك عدد من التوركمان ينتمون الى قبائل التركمانية القوقازية القادمة من أواسط آسيا “كقبائل الاوغوز” يعتقد بأنهم قدموا الى العراق مع طلائع الجيش العباسي عام 54 للهجرة. وهذا ما أثبته الاتجاه الفكري لهم مع سقوط النظام الدكتاتوري عام 2003 حيث ان انتمائهم الطائفي الشيعي طغى على انتمائهم القومي.
توالى قدوم التوركمان الى العراق خلال سنوات الحكم العباسي للعراق ايام السلاجقة ومن ثم العثمانيين الترك القادمين من الشمال أي من تأثير العثماني الذي كان في واقع الحال انتماء غير قومي وعلى الأقل في بداياتها وقد يختلف معي في هذه الاتجاه العديد من المؤرخين الكورد والعرب المستحدثين. لكن الانتماء العثماني الثقافي لا يزال يلعب دورا كبير في شعوب ما يسمى اليوم الدول العربية ثقافيا وليس الشعوب التي ترجع اصلها العربي الى شبه الجزيرة العربية كما نراه في شعوب دول من شمال أفريقيا مثلا.
أما الصراع الخفي والعلني بين حملة الفكر العثماني والديني القديم من الساسة والعسكريين العراقيين وآخرون من حملة الفكر القومي العربي من ناحية والأفكار اليسارية البلشفية القادمة من جهة الشرق من الإتحاد السوفيتي من ناحية أخرى فكانت تتصارع ليس فقط في الدولة العراقية الفتية لا بل في كافة دول المنطقة التي كانت في القريب جزء من الإمبراطورية العثمانية المنهارة. تلك الأفكار القومية العربية التي رفع رايتها ومن الحجاز” الشريف حسين بن علي” قائد الثورة العربية الحجازية الهاشمية 1916 الذي قاد جحافل الجيش العربي في ثورة ضد هيمنة الإمبراطورية العثمانية والتي تمكنت من دخول وتحرير دمشق حيث تولى الحكم عليها ابنه فيصل فترة قصيرة وبعد تخلى الفرنسيين عنه عندما بات من المؤكد ان سوريا تقع ضمن حصتهم في الانتداب وكان كرسي الحكم في العراق شاغرا بانتظاره ومن معه من العرب ممن شاركوا في الثورة الحجازية وبموافقة وترشيح ومبايعة مباشرة من قبل الشعب العراقي وقياداته العشائرية آنذاك فنودي بفيصل الأول ملكا على العراق عن طريق الانتداب البريطاني.
من الجدير بالذكر ان رجال الثورة العربية لاحقا كانوا دوما يرغبون كسب عطف الكورد والتوركمان الى صفهم على أساس الرابطة الإسلامية وتوج فيصل الأول على عرش دولة العراق 1921. كان لكلاهما دورا في الحكم الملكي رغم عدم تحبذيهم لتولي فيصل الأول مقاليد الحكم خاصة في مدينة كركوك والسليمانية.
بالطبع لا يجوز إجراء أي تحليل تاريخي لتركيب المجتمعات تحت مقاييس النظرة العامة للأمور وانطلاقا من ظروف والمعايير والقيم السائدة اليوم وضر وفنا في الوقت الحاضر ونظرتنا الى الأمور وتقيمنا خاصة تلك المنطلقة من النظرات النمطية الجاهزة والتي لا تقبل النقاش والمطلقة ومع الأسف الشديد. لذا أرجو منكم جميعا عدم الانطلاق مما نراه اليوم مقبولا لتحليل فترة تاريخية كانت فيها المفاهيم مختلفة وربما الأرض منبسطة.
راجع مادتنا على صفحات التأخي حول التركيبة الفكرية لمجتمع المدينة
التركيب السكاني لمجتمع كركوك ألتعددي – جريدة التآخي (altaakhi.net)
الطبقة الميسورة من أغنياء و تجار كركوك والطبقة المثقفة والمتعلمة ورجال الدين بصورة عامة وكما أسلفت كانت قد اتخذت قرارها في اختيار لغة الحاكم العثمانية “التركية ” لغة للتميز من الطبقات الأخرى (هناك عشرات الملايين من الكورد المستتركين اليوم في تركيا ومن المؤسف ان يكون الفكر الفاشي قد اثر بهم إلى درجة فأصبحوا أتراكا أكثر من الأتراك الأصليين القادمين من أواسط آسيا ومن عرق مغولي تتري، أي ( ملكين أكثر من الملك نفسه ) وهذا يشمل كذلك المتنفذين الكورد ولإقطاعيين وأصحاب المحلات التجارية ورجال الدولة والموظفين الكبار والمدرسين والمثقفين في المجتمع ولكن مع بدا عهد الجمهوري وانتشار الحوار السياسي بين الناس وظهور الخبر الإعلامي المقروء والمسموع والمرئي “كانت العديد من المطابع في المدينة ” والتواصل الكبير بين الناس القادمين من الأرياف الى المدن ناهيك وجود اتصال جديد مع العاصمة بغداد ومجريات الأمور في حكومة الثورة والجمهورية الفتيه وتركيبة العقائدية وانتمائهم القومي للوزراء والحكام الجدد مقارنة بالعهد الملكي وانشار الوعي القومي الكوردي بدرجات وصلت ذروتها مع عودة الميمونة لزعيم الأمة الكوردية الخالد البارزاني ورفاقه من المنفى السوفيتي وحلهم بين أهلهم وقومهم حيث كان ذلك ملموسا حتى من زيارات القائد والزعيم الكوردي الى المدينة والتقاءه بأهلها.
الجدير بالذكر ان التيار الشيوعي كان في خانقين والقرى المحيطة بالمدينة آنذاك الأكثر الانتشار وكانت المدينة تنعت بموسكو العراق حيث حل قوات السوفيتية في المدينة ابان الحرب العالمية الأولى قادمين من الشرق.
ولد الخالد الملا مصطفى بن الشيخ محمد البارزاني بقرية بارزان في ١٤ / آذار / ١٩٠٣م، بعيد وفاة والده. وفي الثالثة من عمره ساق العثمانيون حملة تأديبية على العشائر الكردية عقب فشل ثورة بارزان ضد العثمانيين، فأسروا الشيخ عبد السلام ( الشقيق الأكبر له ) وسجنوا الطفل( مصطفى ) مع أمه في سجن الموصل حيث قضيا فيه تسعة أشهر. وكان لوالده أربعة أولاد آخرين وهم: الشيخ عبد السلام، الشيخ أحمد، محمد صديق، بابو. لقد لفت انتباه الناس لشخصه منذ الطفولة، لما تحلى به من خصال حميدة في السلوك والشجاعة. وحاز على عطف وحب شديدين من قبل الأسرة البارزانية. وكان منذ نعومة أظفاره ميالاً للعلم والمعرفة، ويبذل جهده وطاقته البدنية ويصقلها في ممارسة الصيد. قضى الملا مصطفى ستة سنوات في تحصيله العلمي الابتدائي على يد معلمين خصوصيين في قرية بارزان، وبعدها درس الشريعة والفقه الإسلامي في بارزان لمدة أربع سنوات. ثم استمر أثناء نفيه من بارزان في إكمال دراسته الفقهية في السليمانية. دخل في معترك النضال الكردي التحرري عام ١٩١٩م وساهم في ثورة الشيخ محمود الحفيد وقاد قوة مؤلفة من ٣٠٠ مسلح. اعلان ثورة البارزاني ١٩٤٣- ١٩٤٥م قادها ضد الحكومة العراقية المدعومة من قبل البريطانيين. وكان مخططاً للثورة هذه المرة أن تشمل مناطق واسعة من كردستان. في ٢٢/ ١/ ١٩٤٦م حضر الحفل المقام بمناسبة إعلان جمهورية كردستان في مهاباد وكان على يمين قاضي محمد، وعين قائداً لجيش جمهورية كوردستان حيث منح رتبة «جنرال». وأنيط بالبارزانيين دعم وترسيخ الجمهورية. المسيرة التاريخية ١٩٤٧م، بعد انهيار الجمهورية ورفض البارزاني الاستسلام للايرانيين قرر الانسحاب من كردستان إلى الاتحاد السوفييتي سيراً على الأقدام مع ٥٠٠ من البارزانيين، بعد الاصطدام بقوات الدول الغاصبة لكردستان (العراق، ايران، تركيا) والدول الحليفة لها (أمريكا، بريطانيا). وفي يوم ١٧ /٦ / ١٩٤٧م عبروا نهر آراس إلى الاتحاد السوفييتي السابق. في الفترة الستالينية- عوملوا معاملة قاسية ولاقوا معاناة شديدة، وبعد موت ستالين ( ١٩٥٣م ) تحسنت أوضاعهم كثيرا. وأقبل البارزاني على العلم، وفي سن تزيد على الـ ٤٥ وطلب الانتماء إلى أكاديمية اللغات في موسكو حيث درس الاقتصاد والجغرافية والعلوم، إضافة إلى اللغة الروسية. عاد إلى العراق بعد ثورة ١٤ / تموز / ١٩٥٨م واستقبل استقبال القادة الأبطال. في ١١/ أيلول / ١٩٦١- ١٩٧٥م قاد ثورة أيلول المجيدة ضد الحكومات العراقية.
توصل مع الحكومة العراقية إلى بيان ١١/ آذار / ١٩٧٠م لاتفاقية الحكم الذاتي. و في ٦/ آذار / ١٩٧٥م انتكست ثورة أيلول باتفاقية الجزائر، ولجأ البارزاني إلى ايران مع الآلاف من الكرد.
توفي في أمريكا في ١/ آذار / ١٩٧٩م ودفن جثمانه الطاهر امانة في قصبة «شنو» حيث اعيد الى تراب كوردستان ليسجى جسده الطاهر ورايات الحرية ترفرف ربوع الوطن وربما سيتحول مزاره مستقبلا الى مزار لقائد بنى احلام الكورد وبات اسطورة برزان. للمزيد يرجى مراجعة: www.geocities.com/ bahoz_k/reberen-kurdan.html