محمود صالح شيرواني
هذه “أمريكا” التي يعرفها العالم جيدا لا تؤمن بغير قيمتي القوة والبراغماتية في سياساتها الخارجية، وأما ما يتعلق بحقوق الإنسان والدفاع عن النظم الديمقراطية أو خلقها في الدول الأخرى، فكل هذا هراء بالنسبة لها إذا كان لا يحقق لها أهدافها السياسية والاقتصادية وكذلك الأيديولوجية الليبرالية. وهي في الأساس دولة استيطانية كولونيالية، تؤمن أشد الإيمان بأن القوة هو السلاح الأنجع لتحقيق الغايات وتثبيت الوجود والحفاظ على المكتسبات.
فأمريكا تدخلت عسكريًا في دول العالم منذ استقلالها في ١٧٧٦ وحتى عام ٢٠٢٣ أكثر من ٣٩٠ مرة، وكل هذا لكي تفرض مصالحها الخاصة على الدول، أو تخلق أنظمة سياسية موالية لها. وثم بالذات في الشرق الأوسط، معظم النظم السياسية الحاكمة التي كانت أمريكا، وما زالت، تدعمها وتدافع عنها هي نظم سياسية استبدادية، تدوس على رقاب شعوبها، وتنهب ثرواتها وتتلاعب بمقدراتها ومصائرها. وعلى رأس هذه النظم ما تسمى بـ “دولة إسرائيل”، التي اعترفت أمريكا بها مباشرة بعد ١١ دقيقة فقط من زعم نشوئها في ١٩٤٨، حتى صارت توصف بالإبنة المدللة لها، ولم لا؟ فهذه الأخرى ومن الأساس هي دولة احتلالية استيطانية وابنة الصهيونية، ولا تؤمن بغير القوة لتحقيق طموح التوسع وانقياد المحيط الجغرافي لها. وكل هذا الكلام يعتبر حقائق بديهية في العالم، ليس هناك جدال حولها، أو إنكار لها، أو هكذا كنا نظن في دولنا الشرق أوسطية.
ففي الأربعاء ٢٤ يوليو ٢٠٢٤ ألقى بنيامين نتنياهو كلمة أمام الكونغرس الأمريكي كان ملخصها أن أي حرب تخوضها إسرائيل ضد أي دولة أو منظمة هي في الأساس حرب بالنيابة عن أمريكا، ودفاعا عن مصالحها في الشرق الأوسط، فأكد ربط مصير إسرائيل بأمريكا مجددا، وبالتالي يتوقع بنيامين نتنياهو المزيد من الدعم الأمريكي العسكري والمادي والإعلامي له حتى لا يوقف حربه ضد قطاع غزة ويبيدها عن آخرها ويهجر سكانها كما يخطط. وخلال هذه الخطبة صفق أعضاء الكونغرس لنتنياهو عشرات المرات مقاطعينه، كأنهم يؤكدون له أن كل ما يقوم به في غزة هي بطولات تستحق التقدير والاحترام والتبجيل، وهم قلبا وقالبا معه، ديمقراطييهم وجمهورييهم، رغم وجود أصوات معارضة له من داخل الكونغرس.
وهنا جاءت الصدمة التي هي ليست صدمة أساسا وأصلا، فمن المتوقع جدا أن يصفق له أعضاء الكونغرس، فهم يدعمون إسرائيل في حربها ضد قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر ٢٠٢٣، ويؤكدون مرارا وتكرارا أن من حق إسرائيل أن تدافع عن نفسها ضد أي خطر كان، حتى لو كان هذا الخطر المزعوم عبارة عن أكثر من ١٦ ألف طفل غزاوي قتلوا حتى الآن على أيدي الجيش الأسرائيلي، ورغم أن الأمم المتحدة ومنظماتها تؤكد أن ما يتعرض لها غزة هي إبادة جماعية تحدث أمام أنظار العالم. فبدءا من الشارع العربي والكردي والتركي والفارسي ومرورا بالتيكتوكرية واليوتيوبرية والإعلاميين والكتاب والناشطين في مجالات حقوق الإنسان وانتهاء بالكثير من السياسيين والقادات في الشرق الأوسط، كل هؤلاء عبروا عن دهشتهم وصدمتهم من تصفيق أعضاء الكونغرس لبنيامين نتنياهو بهذا الشكل المقيت، واعتبروهم قمة في النفاق وشركاء في الجرائم التي ترتكبها إسرائيل. وهنا بالذات صارت الصدمة، وليس عندما صفق أعضاء الكونغرس لنتنياهو.
فمن أكثر من شعوب دول الشرق الأوسط ونظمها السياسية يعرف حقيقة دعم أمريكا اللامحدود منذ عام ١٩٤٨ لإسرائيل؟ ومن أكثر من هذه الشعوب تجرع الويلات من التدخلات الأمريكية في بلدانها حتى تخلق أنظمة سياسية ضعيفة وفاسدة وبالتالي تؤكد على أن إسرائيل أقوى من كل الدول المحيطة بها عسكريا واقتصاديا وتكنولوجيا؟ فلماذا حدثت حالة الصدمة هذه يا ترى؟
في البداية، ما حدث ليست صدمة في الحقيقة، بل هي خلق حالة صدمة متخيلة، لا أساس لها في الواقع. ضعف الواقع العربي والإسلامي أمام التحديات والأزمات التي تواجههم، سياسيا وعسكريا واقتصاديا، يجعلهم لا يتخذون قرارات جريئة ومصيرية تخرجهم من حالة الضعف والتخلف هذه، فبالتالي أمام كل التحديات الصعبة يُتخذ قرار الهروب من الواقع وتحدياته كما هو ويلقى باللوم على القوى الخارجية التي تتدخل في العالمين العربي والإسلامي بغية تدميرهما، وهنا كانت هذه القوة الكونغرس الأمريكي، ودائما أمريكا. ومن جهة ثانية، قواعد اللعبة السياسية في أمريكا تؤمن بأن من يمتلك القوة المالية والعلمية والعسكرية وغيرها يُسمع له، ومن لا يمتلكها يخضع لإرادات القوى المنافسة له، وإسرائيل من خلال اللوبي الصهيوني “الأيباك” تمتلك الأدوات، “وأولهما المال والعلم” اللازمة التي تحقق بها أهدافها في الداخل الأمريكي، وأهمها الدفاع الأمريكي عن الوجود الإسرائيلي بشكل غير مشروط أو غير محدود.
وعلى العكس من إسرائيل، ورغم أن الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني والعربي لم يبدأ منذ عام ١٩٤٨، بل قبله بعقود، إلا أن العرب حتى اليوم لم يستطيعوا أن يكونوا وينظموا جماعات ضغط قوية في الداخل الأمريكي تضغط على إدارات البيت الأبيض وأعضاء الكونغرس من الحزبين لتحقيق مصالحهم. فما يحدث في داخل مبنى الكونغرس الأمريكي لا يأتي اعتباطيا، بل من وراء الكواليس هناك العديد من الصفقات وعمليات الضغوطات من قبل اللوبيات المختلفة، وإسرائيل هي أفضل لاعبة داخل هذا المبنى، وإذا لم يصبح العرب من أهم اللاعبين في داخل هذا المبنى، فستتخذ دائما قرارات فيه بالضد من مصالحهم وحتى وجودهم. وعندما يفعل العرب ذلك، تقل صدماتهم.