حمارُ الفلّاح

رامز محيي الدين علي

(هذه القصّةُ من النّكات الشَّعبيّة مع شيءٍ من خيالي، وهي تعبّر عن واقعٍ مرير ولا تمسُّ شخصاً بعينِه أو بلداً بذاتِه.. وكلُّ أديبٍ أو ناقدٍ أو فيلسوفٍ أو إنسانٍ من عامّةِ النّاس يُخطئُ ويُصيبُ، وليس فينا آدميٌّ معصومٌ من الخطأ، وليس كلُّ مفكّرٍ أو فيلسوفٍ نبيّاً منزَّهاً عن الخطأ والخطيئةِ، فكِبارُ الكتّابِ والفلاسفةِ والعلماء سِيرُهم حافلةٌ بالسَّقطاتِ والأخطاء والكبواتِ القاتلةِ، وأنا لستُ إلّا نقطةً في بحارِ هؤلاءِ ولا أدّعي أنّني فيلسوفٌ مُلهَم، فحياتي مثلَ جميعِ البشر مُتْخمةٌ بالأخطاءِ والخطَايا والذُّنوب، لكنَّ اللهَ عزّ وجلَّ ألهمَني موهبةَ الكتابةِ بجرأةٍ بيّنةٍ ورمزيّةٍ معبّرةٍ واضحةٍ مثلَما وهبَ الآخرينَ موهبةَ الصّناعةِ والزّراعةِ والتّجارةِ والبِناء.. فكلُّ فردٍ في مجالِ عملِه -إنْ أخلصَ فيه- مبدعٌ وموهُوبٌ، وإلّا لما استمرَّتِ الحياةِ بالتَّطوُّر والبناءِ والتّقدّم، وكلُّ واحدٍ منّا عندَه من النَّقائصِ ما يمتلُكها الآخرونَ، ولكنْ علينا أن نبتكِرَ ونكتبَ ونعبّرَ عمّا يجيشُ في قلوبِنا من مشاعرَ وما يتخمَّرُ في عقولِنا من أخيلةٍ وأحلام، وعلينا أن ننقدَ ونُصلِحَ أخطاءَنا وعيوبَنا قبلَ نقدِ وإصلاحِ أخطاءِ وعيوبِ الآخرينَ، وهذا ما تُمليهِ علينا الحقيقةُ والواقعيّةُ ودينُنا الحنيفُ وضميرُنا الحيّ، كما قال الخليفةُ الرّاشدُ عمرُ بنُ الخطّاب -رضي اللهُ عنه- يوماً: مَن رأى منكُم فيَّ اعوِجاجاً فليُقوِّمْه“.

فقامَ رجلٌ وقال: “واللهِ لو رأيْنا فيكَ اعوجاجاً لقوّمناهُ بسيوفِنا“.

فقالَ عمرُ: “الحمدُ للهِ الّذي جعلَ في هذهِ الأمّةِ مَن يقوِّمُ اعوِجاجَ عمرَ بسيفِه“.

وأنا أقولُ: الحمدُ للهِ الأمورُ مبشّرةٌ بخيرٍ. فلا اعوِجاجَ، ولا حاجةَ للنّقدِ والتَّقييمِ والتَّقويمِ، فقد كانَ الاعوِجاجُ حالةً شاذّةً، فصار سلوكاً حضاريّاً يُقاسُ عليهِ تطوُّرُ المدنيّةِ الحديثةِ، وكانتِ القراءةُ والكتابةُ شقيقتينِ في رحلةِ الضَّميرِ الإنسانيِّ، واليومَ صارتِ الكتابةُ من كوكبِ الزُّهرة والقراءةُ من كوكبِ المرّيخ)

كانَ في إحدى القُرى فلّاحٌ ثريٌّ أرادَ أن يُصبحَ حالةً استثنائيّةً في كلِّ أحوالِ معيشتِه: في المأكلِ والملبسِ والمسكنِ وجميعِ مقتَنياتِه وممتلكاتِه، فبَنى قصراً وكساهُ بأفخمِ أنواعِ الرُّخامِ الإيطاليِّ والإسبانيّ، وفرَشَه بأحدثِ المفروشاتِ العالميّةِ، وجعلَ نوافذَهُ تتلوَّنُ كالحرباءِ مع تغيُّرِ درجاتِ الحرارةِ والبرودةِ، وأصبحَ كلُّ شيءٍ في حياتِه اليوميَّةِ مختلِفاً في جودتِه وإيحاءاتِه.

وكان في القريةِ فلّاحٌ فقيرٌ عُرِفَ بالحِنكةِ والخبرةِ والحكمةِ، أرادَ أن يكشِفَ جوهرَ هذا الفلّاحِ المتَعالي على الآخرينَ ببذخِهِ وترفِه وزخارفِه.

فقال الفلّاحُ الحكيمُ: كلُّ شيءٍ في حياتِكَ مُميَّزٌ ومختلفٌ في ثمنِه وألوانِهِ وزخارفِه، ولكنْ هناكَ شيءٌ ظاهرٌ لا تختلفُ فيهِ عن بقيّةِ فلّاحي القريةِ.

فجُنَّ جنونُ الفلّاحِ الغنيِّ وصاحَ قائلاً: وأيُّ شيءٍ عندي لا يختلفُ عن الآخرينَ؟

الحكيمُ: حمارُكَ يا سيِّدي!

الغنيُّ: كلُّ أنواعِ الحيواناتِ والطُّيورِ في مزرعَتي مختلفةٌ عن دوابِّ القريةِ في شكلِها وإنتاجِها وطرائقِ معيشتِها ووسائلِ استِثمارِها!

الفقيرُ: صحيحٌ ما تقولُ يا صاحبَ الجاهِ، إلّا حمارَكَ، أخرِجْهُ من حظيرتِكَ واجمعْهُ بحميرِ القريةِ وستَرى بأمِّ عينِكَ أنّه ينهقُ نهيقَهم ويرفسُ رفْسَهم ويأكلُ ممّا يأكلُون، فليسَ فيهِ ما يميّزُه عن حميرِ القريةِ.

الغنيُّ: لنُجرِّبْ ونرَ حقيقةَ ما تدَّعي أيُّها الحكيمُ، ونادَى مُزارِعَهُ بإخراجِ حمارِه من الحظيرةِ، وزجَّهُ بين الحميرِ في مرعَى القريةِ، وراحَ الجَمعُ يراقبُ تصرُّفاتِ الحمارِ.. إنّه بالفعلِ ينهقُ نهيقَ الحميرِ ويرفسُ رفْسَها ويَرعى ممَّا تَرعى!

صدقْتَ أيُّها الحكيمِ! وأمرَ بإعادةِ حمارِه إلى حظيرتِه، وهمَسَ إلى الفلّاحِ الحكيم: كلُّ حيواناتِي مُستورَدةٌ ومهجَّنةٌ، إلّا حِماري لم أجِدْ لهُ نسخةً مهجّنةً ومحدَّثةً، فقد تشابهَتْ الحميرُ في العالَم فتشابَهَت علَينا ألوانُها وأشكالُها كما تشابهَ البقرُ على قومِ موسَى، فماذا أفعلُ حتّى أُنجِزَ المرحلةَ الأخيرةَ من تميُّزي؟

الفلّاحُ الحكيمُ: المسألةُ في غايةِ البساطةِ! أمامَهُ مرحلتانِ ليَخرجَ عن حالتِه العامّةِ إلى حالةٍ استثنائيَّةٍ!

الفلّاحُ الثّريّ: وما هُما؟ وكيفَ؟ أَخبِرني ولكَ عندي مكافأةٌ كبيرةٌ!

الحكيمُ: في المرحلةِ الأُولى أدخِلْهُ إلى ثُكْنةٍ عسكريّةٍ لعلَّهُ يتعلَّمُ النّظامَ والانضِباطَ فيَنْسى رفْستَه الحقيقيّةَ.

نفَّذَ الفلّاحُ الثّريُّ نصيحةَ الحكيمِ وذهبَ بحمارِه إلى ثُكْنةٍ عسكريّةٍ، فدخلَ الحمارُ الثُّكنةَ وراحَ يَرعى منَ الحشائشِ أمامَ خِيمِ الضُّبَّاطِ الكبارِ، وراحَ يُغرّبُ ويشرّقُ أمامَهم، وكأنّه يقولُ لهُم: يُمكنُني أن أكونَ قائداً مثلَكم، فانزعجَ كبيرُ الضُّبّاطِ من الحمارِ، وأرادَ أن يُلقيَ به خارجَ الثُّكنةِ، فعقَدَ اجتِماعاً طارئاً لجميعِ القادةِ والعناصرِ:

أيُّها الرّفاقُ يا حماةَ الوطنِ! مَن لا يستطيعُ أن يَطردَ حماراً من مقرِّنا العسكريِّ فلا خيرَ فيهِ للدّفاعِ عن الوطنِ الغالي الكبيرِ!
العسكريُّونَ: لقد طرَدْناهُ مرّاتٍ كثيرةً يا سيّدي! لكنّهُ عادَ.. وعادَ غيرَ مبالٍ بعصيِّنا وبنادقِنا، وكأنّهُ أنِسَ وأحبَّ لواءَ جيشِنا الباسلِ!

اعترضَ الجَمعَ ضابطٌ جامعيٌّ مجنَّدٌ عُرِفَ بالفُكاهةِ والدَّهاءِ قائلاً: أنا أستطيعُ أن أطردَهُ من ثُكْنتِنا بأسهلِ الطُّرقِ يا سيّدي!

القائدُ: تفضَّلْ أيُّها الملازمُ وتصرَّفْ قبلَ أن ينفَدَ صبرُنا ونغتالَ هذا الحمارَ بالرّصاصِ بإحدى وعشرينَ طلقةً ونقولُ أمامَ جمعيّةِ حمايةِ حقوقِ الحيوانِ: إنّه انتحرَ!

الضّابطُ المجنّد: سأفعلُ حالاً يا سيّدي! وذهَبَ إلى الحمارِ وهمسَ في أذنَيهِ ببعضِ الكلماتِ، فمَا كانَ من الحمارِ إلّا أنْ نهَقَ نهيقاً أخرجَهُ عن طبيعتِهِ وراحَ يرفسُ الهواءَ رفْسَاتٍ متتاليةً، وركضَ مسرعاً نحوَ البوَّابةِ الرّئيسةِ، كأنّهُ يريدُ الخلاصَ من كابوسٍ حلَّ به! ولم يَعُدْ بعدَها للثُّكْنةِ قطُّ.

عقَدَ القائدُ اجتماعاً صباحيّاً: أيُّها الرّفاقُ! سنكرِّمُ اليومَ الضّابطَ المجنَّدَ الّذي استطاعَ بهمسةٍ واحدةٍ أن يطردَ الحمارَ من الثُّكْنةِ حينَما عجِزْتُم جميعاً عن طردِه بكلِّ الوسائلِ..

ونادَى: الضَّابطُ المجنّد (فلان) تَفضَّلْ لنيلِ مكافأتِكَ.

الضّابطُ المجنّد: حاضِرٌ يا سيّدي.. وشكراً لتقديرِكم لي!

القائدُ: منَحْناكَ إجازةً أسبوعيَّةً وبطّانيَّتينِ عسكريَّتينِ، ولكْنْ قبلَ استلامِ جائزتِكَ أخبِرْنا ماذا فعلْتَ معَ الحمارِ حتّى هرعَ مذعُوراً ولم يَعُدْ مرّةً أُخرى للثُّكْنة؟!

الضَّابطُ المجنّد: هذا سرٌّ يا سيّدي لا أستطيعُ البَوحَ به!

القائدُ: لا واللهِ ستبُوحُ بهِ وإلّا حرمْتُكَ من المكافأةِ، وعاقبْتُكَ بالسّجنِ كما نفعلُ معَ الفارّينَ من الخدمةِ الإلزاميّة!

الضّابطُ المجنّد -بعدَ تردُّدٍ وخوفٍ-: سأُخبرُكم يا سيّدي، ولكنْ هل تُعطِيني الأمانَ!

القائدُ: لكَ الأمانُ أيُّها الضّابطُ.. قُلْ ما شئْتَ وأخبِرنا الحقيقةَ!

قد يعجبك ايضا