المحامية بسمة العواملة – عمان
عكفت في الاسابيع القليلة الماضية على التحضير و الإعداد لورقة بحثية تمهيداً لتقديمها في احدى المؤتمرات المعنية بمصادر القانون الدولي الانساني ، و إثناء بحثي تملكتني الدهشة و الاعجاب باحد مصادر هذا القانون و الذي مع الأسف لم يأخذ حقه في التفسير و التحليل ، رغم اهميته على مستوي عالمي و تأثيره الكبير في الخروج بلوائح عرفية قانونية تؤكد و توطن لمباديء حقوق الإنسان و السلام العالمي .
فكيف لا يحظى القرار الذي تم إتخاذه من قِبل لجنة حقوق الانسان في سكرتارية الامم المتحدة في نهاية شهر نيسان من عام 2002 , والتي كانت حينها برئاسة الأمين العام للأمم المتحدة كوفي عنان، كيف لا يحظى باهتمام فقهاء القانون والمؤسسات التعليمية ، من حيث التحليل و التنقيب لإرساء منهج إنساني سليم في الحكم المتجلي بروح العدالة الاجتماعية ، و الذي اسس من خلاله لنظام قائم على العدالة الديموقراطية و تشجيع المعرفة .
هذا القرار المهم والذي نادى بإختيار الامام علي بن أبي طالب كاعدل حاكم في تاريخ البشرية و قد أُسند هذا القرار على وقائع إشتملت على مئة و ستون صفحة باللغة الانجليزية ، اعتبرت فيه بأن الامام علي و اثناء ادارته لشؤون الدولة ، كان يتحلى بمكارم الاخلاق الى جانب التأسيس لمبادىء الإنسانية في الحكم و إرساء مبادىء العدالة الاجتماعية و المساواة و اسس كذلك لمبادىء تحترم حقوق الانسان .
وقد تولت لجنة خاصة في الأمم المتحدة مهمة دراسة عهد الإمام علي و خاصة خلال الفترة التي اوكل الى تابعه ( مالك الأشر ) الولاية على مصر ، و البحث بإستفاضة في نص العهد الذي إشتمل على مبدأ اساسي و مهم في حفظ حقوق الانسان الذي تمثل بمقولة الامام علي الشهيرة لمالك الأشر في نص العهد ” أن الناس صنفان ، إما أخُ لك في الدين ، او نظير لك في الخلق ”
و لعمق هذه المقولة تم رسم لوحة كبيرة توثق هذا النص البليغ الى ثلاثة لغات اممية ، ليتم بعد ذلك تعليقها في المقرات الرئيسة للأمم المتحدة ، و قد اشتملت هذه اللوحات على اطلاق لقب رائد العدالة الإنسانية و الإجتماعية على أمير المؤمنين الإمام علي ، و قد ابدى الامين العام حينها ما يفيد بأن هذه العبارة يجب أن تُعلق على جدران جميع مقرات المنظمات ، و كان الرئيس كوفي عنان قد اقترح ايضاً إجراء المداولات القانونية و المناقشات حول كتاب الامام علي لمالك الاشر للخروج منه بتوصيات.
و بعد القراءة المستفيضة و التدقيق و التمحيص ، تم طرح الامر للتصويت بإعتبار عهد أمير المؤمنين كأحد مصادر التشريع الدولي ، و بذات الوقت تضمين هذا التقرير الصادر عن اللجنة مقتطفات مما ورد في كتاب نهج البلاغة من رسائل و حكم و تفاسير اظهرت الحس الإنساني لدى أمير المؤمنين و دعوته لنشر قيم العدالة و احترام حقوق الانسان.
و قد تم لاحقاً توزيع هذا التقرير على جميع الدول الاعضاء في الامم المتحدة ، للإستفادة منه و الاستناد الى المنهجية العلمية الموثقة فيه، لا بل شدد هذا التقرير على ضرورة أن تأخذ الدول العربية و الإسلامية بهذه الوصايا في برامجها السياسية والاجتماعية والاقتصادية في الحكم و إدارة البلاد ، و تضمين مبدأ المشورة بين الحاكم و المحكوم ، بالإضافة الى التأكيد على ضرورة محاربة الفساد الاداري و المالي ، و المحافظة على صون حقوق الانسان الاساسية و المشروعة.
هذا الإرث الحضاري أشتمل ايضاً على اسمى و ارقى معاني الإنسانية و مبادىء العدالة الاجتماعية و المساواة و التي تؤسس لادارة حكيمة سياسيًا واقتصاديًا وعسكريًا وعلى صعيد التنمية ايضاً .
كمثال و ليس على سبيل الحصر ، اقتبس التقرير اجزاء من وصايا الامام علي لمالك الأشر بما يخدم التنمية من خلال الحث على استصلاح الاراضي في ألدولة بقوله ” و ليكن نظرك في عمارة الارض ابلغ من نظرك في استجلاب الخراج لأن ذلك لا يدرك الا بالعمارة ، ومن طلب الخراج بغير عمارة ،اخرب البلاد و اهلك العباد ولم يستقم امره الا قليلاً ”
فكيف بعد كل هذا النهج القويم السليم أن لا يتم إتخاذ الامام علي رمزاً للعدالة الإنسانية والاجتماعية التي اسست لمبادىء احترام حقوق الانسان جميعاً بغض النظر عن ديانتهم و مذاهبهم بالإضافة الى احترام الإختلاف بالرأي ، و تأسيس الدول على اسس الخير و التسامح التعددية و السماح للأفراد بحرية الرأي.
و لكن مع الاسف رغم وجود هذا الإرث الثمين ، ما تزال معظم الدول العربية تلجأ في برامجها و خططها التنموية في السياسة و الاقتصاد لافكار مستوردة معلبة دخيلة على مجتماعاتنا لا تكاد تنجح بالنزر اليسر في ايجاد برامج و آليات جديدة للنهوض بمستوى الاداء الاقتصادي ، لدفع عجلة التنمية الاقتصادية و تحقيق النمو و الرفاه الاجتماعي.
ليت مراكز صنع القرار في بلادنا تعكف على دراسة هذا التقرير و تجري الابحاث والدراسات للخروج ببرامج و خطط مدروسة للتطوير السياسي والاجتماعي والاقتصادي مما ينعكس ايجابا على ادارة الدولة ، فهذا الارث الثقافي الثمين يزخر بكم هائل من الرؤى والافكار القابلة للتطبيق و قادرة على ايجاد حلول جذرية لكثير من المعضلات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية ايضاً
فما بالنا نركن هذا التقرير على الارفف التي يعلوها الغبار بدلاً من البحث فيها عن ضالتنا
فنحن كمن يبحث عن النور في ضوء خافت لا يكاد يُرى
رغم امتلاكه شعلة تكفي لاضاءة كون باكمله.