في البدء كانت المدينة، والمدينة كانت – ارباخا كركوك 1959 الى 1968

 

 

 

الجزء الثاني

 

كركوك يا بوابة فردوس العشق والآهات

ويا سلالة الهزبر ورحلة الدم والعذاب

الشاعر المجدد عبد الحكيم نديم الداوودي

 

 

 

 

 

 

 

 

 

د. توفيق رفيق التونچي

 

امثال (نقليات يايجي) و (الجبوري) ومركباتها الزرقاء ماركة “مر سيدس بنز” بينما يتصايح أحدهم مناديا بغداد…بغداد نفر واحد بغداد ويتراكض آخر من شركة ثانية إلى احد المسافرين ليحمل عنه متاعه المتمثل بحقيبة خضراء مصنوعة من التنك ليشدها وبأحكام إلى سقف العربة …. أما المتمكنين من المسافرين فيأجرون سيارات الأجرة وكانت على الأكثر من سيارات المر سيدس السوداء “القمارة” حيث أسعار أجرتها أغلى من الحافلات “الباصات” ويجلس المرء فيها أكثر راحة وتستغرق السفرة وقتا اقل عما عليه بالباصات اذ ان سرعة الباص كانت تتراوح مابين 50_90 كلم بالساعة ونادرا ما كان يتجاوز السائق سرعة الخمسين كيلومتر في الساعة. وكانت سفرة الباص تستغرق اكثر من خمس ساعات.

أما الطريق المؤدي الى بغداد  فحدث ولا حرج فينما كنا على أطراف المدينة وبالقرب من إعدادية الصناعة قرب الحديقة الدائرية التي كانت تتوسطها تمثال للزعيم ” عبد الكريم قاسم ” حيث كانت المدينة تنتهي جنوبا، ويمتد شارع طويل متعرج ذو مطبات عديدة ” سقل طوتان” كما سمته العامة من التوركمان وصولا الى مدينة “تازة خورماتو” اول مدينة تقابلك وانت متوجه الى بغداد ومن ثم تمر السيارة من خلال مدينة   داقوق ” تاوغ” وتتوقف المركبة في إحدى “ال چاي خانات” المنتشرة على ” طريق بغداد” كما يسمى في مدينة “طوز” هنا ولأول مرة يقابلك عدد من التوركمان الذين يتحدثون بلكنة تركمانية جديدة عليك وأنت القادم من مدينة “كركوك” حيث اللهجة الكركوكية وقد ترى بعض باعة القلل الفخارية ” الشربة” وقد وضعوا ورصوا حاجياتهم للبيع على جانب احد الجدران فنرى المسافرين يشترون منها كهدايا يأخذونها معهم اذ ان الفنان الفطري ” الطوزلاوي” خبير بهذه المهنة “الفخارة” ويجيد كذلك تزين الفخار ويعمل بعض التماثيل الجميلة… ثم تأخذك السفرة بعد بعد ان تقطع جسرين على ” آق صو- ئاوي سبي” مارا من جانب مدينة “سليمان بك” البعيدة بعض الشئ عن الشارع الرئيسي، ويبدو بان الشارع أصبح اكثر استوائا عن ما كان عليه نتيجة اقترابنا الى تخوم المنطقة الشبه الصحراوية المسماة “صحراء قرفة” والتي تمتد الى

 

2006 · الدكتور توفيق آلتونجي المسار الديمقراطي للحركة التحررية الكوردية المعاصرة، من منشورات فيشيون ميديا، السويد

 

تخوم مدينة بغداد وفي لحظات تجد نفسك والباص يلهث وبصعوبة صاعدا سلسلة جبال حمرين الحدود الطبيعية لكوردستان حيث يبدأ حدود لواء” بعقوبة” الرسمي آنذاك ويلوح عن بعد كازينو “مقهى عصري” وسط صحراء العظيم حيث كان يسمى بالكازينو السياحي ويتوقف عندها فقط سيارات الأجرة اما الباصات فتتوقف أحيانا لصب الماء في ” الراديتر” ايام الصيف حيث لهيب الحرارة الصحراوية هنا شديد جدا، والجدير بالذكر انهم كانوا يقدمون في هذا الكازينو الصحراوي عصير البرتقال البارد “عصير نادر” والذي ما زال طعمه في حلقي منذ أكثر من أربعين عاما رغم أني كنت قد شربت “شراب البرتقال ” في العديد من المناسبات والاحتفالات والأعياد حيث كانت تباع أيامها قناني عصير البرتقال مركزة مغلفة بورق السلوفان كان العامة يقدموها كهدية عند ذهابهم إلى زيارة وعيادة مريض في المستشفى الكبير والقريب من جسر الشهداء ( تيمنا بشهداء توركمان الذين سقطوا يوم الرابع عشر من تموز من عام 1959)، لم تكن هناك محلات لبيع الزهور في المدينة ولم يكن الناس معتادين على تقديم الزهور والورود للمرضى بل كانوا بالعادة يقدمون علب البسكويت وقناني الشربت (عصائر) وبعضهم يقدمون السكر” القند” الهرمي الشكل والمغلف بورقه الأزرق والذي اختفى من الاسواق العراقية لاحقا ولم اجد شبيها له سوى في إيران.

تصل رحلتنا إلى أول مدينة بعد ان نقطع صحراء “القرفة” وهي ” ديل تاوة ” ” الخالص” مدينة البرتقال والرمان وأشجار النخيل حيث تتوقف الباصات والسيارات القادمة من “كركوك” و”جلولاء” ولاول مرة تلاحظ الأكثرية يتحدثون باللغة العربية وقد تشعر بالغربة بعض الشئ، وحال انتهاء الركاب من شرب الشاي تتوجه الحافلة صوب بغداد في طريق كان من اسوء ما رأته عيناي لحد الان ملئ بالحفر والمطبات حيث الشارع المسمى شارع” البعقوبة ” وقد ماع أي انصهر و ساح الاسفلت الشارع من شدة حرارة شمس النهار حيث يحاول السائق من ان يتجنب ان تهوى السيارة في احدى تلك الحفر بينما ينزعج الركاب وهم جالسون على تلك المقاعد غير المريحة و يرتفع صوت احدهم من المقاعد الخلفية متذمرا من سرعة الباص البطيئة.

تلوح من بعيد مداخن معامل الطابوق “الآجر” ونحن نقترب من ” خان بني سعد ” فيقول أحدهم من هنا انطلقت جحافل الجيش العراقي صبيحة الرابع عشر من تموز، يوم الثورة وإعلان الجمهورية. ثم تلوح بغداد من بعيد. هكذا كانت السفر الى العاصمة انطلاقا من مدينة كركوك مع نهايات العهد الملكي في العراق.

 

 

 

اما الطريق الى مدينة السليمانية فقد كانت تبدا عند نهاية الجسر الذي يقع فيه سينما الخيام عند نهايات التلة التي كانت تقع القلعة عليها قبل هدمها من قبل الحكومة البعثية متجها صوب قره هنجير و مدينة چم چمال والطريق ليس سوي وصولا الى مدينة السليمانية وحتى كانت هناك مرتفعات لا تستطيع السيارات من تجاوزها ولم تكن المدينة كبيرة ومركز المدينة تبدوا في في الجامع المشيد للشيخ كاكه احمد الشيخ وبعض البنايات الق الحكومية من أيام الدولة العثمانية.

الطريق الأخر للخروج من المدينة شمالا يسمى طريق أربيل وتبدا مع بداية حديقة ام الربيعين حيث بيت بيت أخوالي أصحاب محلات أسواق النصر التجارية في شارع المجدية وكان البيت قد شيدها متصرف كركوك المرحوم شامل يعقوبي في الخمسينيات عند بيت القاضي ودوار جامع اخوان (صاحب محلات اخوان في شارع الجمهورية) ومعمل الكوكا كولا حيث كانت المدينة تنتهي مع نهاية دور حي رحيم اوى وصولا الى قرية دارامان وأول مدينة في منتصف الطريق كانت التون كوبري بالكوردية (پر دى ) ومن ثم تاتي العاصمة أربيل حيث قلعتها الشهيرة.

 

 

مدينة كركوك مسكن لأهلها ممن أحبوها واطمئن نفسهم وأرواحهم المبيت بين جدران بيوتها وأزقتها وكل من سكن كركوك وعشقاها فهو كركوكي. وكل من بنى أحلامه وذكريات صباه وفي ملاعبه وحاراته فهو كركوكي. ان كان كورديا او توركمانيا او عربيا او سريانيا او ارمنيا ومن جميع العقائد والحلل والملل. حتى ان شاء القدر، وكما هي عليها قدر جميع المدن في العالم، ان تحكمها أقوام مختلفة.

لكن نفس انسان الكركوكي الكريمة التواقة الى الحرية والانطلاق والإبداع بقى وسيبقى حيا وفعالا في نفوس أهلها الكرام. يستمد قوته من تلك المياه الحارة التي تجري في عروقها والتي تحولت إلى آفة للمدينة وأهلها بينما تنير بزيتها مصابيح الدنيا لتخرجها من دجاها وتدير عجلات المصانع ويعلى بنيان الحضارات. تلك المادة النفطية اللزجة التي باتت نعمة وثروة وطنية تحولت بيد الطغاة الى شوكة في خاصر ابناء المدينة، كتلك الشوكة التي غرزت في قلب العندليب وبات ليلته ساهدا سامرا يغني ليترك روحه جسده في ذلك الصباح الدامي في اليوم التالي. يسود بين أبناءه مبدأ التسامح والحوار الحضاري البعيد عن الفكر القومي السلبي البغيض حتى حين اعتلى السياسة وساد عقول البشر الظلام وأعمى بصائرهم عن جمال المدينة وتركيبته نسيج سكانها ألتعددي البديع. هذه السفرة ستأخذك قارئي العزيز الى أزقة المدينة لتلتقي هناك بأبنائها وهمومهم الحياتية.

 

خارطة تبين مناطق المعارك في كوردستان ابان الاحتلال البريطاني للعراق 1917.

ان بعد المسافة بين الدولة التركية وتوركمان كركوك بصورة خاصة وتوركمان العراق بصورة عامة ساعدهم على احتفاظ على كينونتهم وهويتهم الثقافية المتميزة ولهجاتهم وتراثهم الحضاري ولم يتم ذوبانهم وانسلاخهم وتطهيرهم عرقيا كما تم للأقليات الأخرى في تركيا. تغيرت تلك الحالة الى سياسة تتريك التوركمان والتباهي بالحديث باللغة التركية الاستانبولية في الاعلام والتدريس وبذلك ازيل احدى اللغات الجميلة من الوجود وطببعا تم كل ذلك بمساعدة القوى السياسية التوركمانية المرتبطة مباشرة بدوائر القرار في تركيا. للعلم ان ذلك لم يحصل في دولة توركمانستان و اذرباينجان رغم كونهم دولتين مستقلتين.

التوركمان نتيجة لبعدهم عن تركيا نفسها وبقائهم بين قوميتين كبيرتين هي الكوردية بملاينها من ناحية الشمال والعربية من ناحية الجنوب بقت محافظة على تراثها ولغهتها ولم تتاثر بسياسة التتريك التي اتبعتها الدولة التركية بعد اعلان الجمهورية. بينما انصهر التوركمان السلاجقة في تركيا نفسها واستتركوا مبتعدين عن أصولهم الثقافية التاريخية. وربما كان انتماؤهم العرقي واللغوي المشترك مع الأتراك العثمانيين اللذين قدموا بعدهم الى تلك الديار أي بيزنطة القديمة سببا لذلك بينما بقى التوركمان الذين تركوا وهاجروا من تركيا اثر الصراع السلجوقي العثماني متوجهين الى إيران، أقول بقوا محافظين على أصولهم الحقيقية وعظم شانهم و قوتهم بعد إعلان الشاه عباس ألصفوي إتباع مذهب الأمامي الاثنى عشري (التشيع). نرى اثر السياسة التركية القصيرة النظر ولحد يومنا هذا تلك السياسة التي تريد سلخ ومسخ الهوية التوركمانية وتحويلها الى هوية تركية تساير و تجاري وتشابه طبق الأصل مع الهوية الثقافية التركية التي تبشر بها القوميين من الأتراك وباتت السياسة الرسمية للدولة التركية المعاصرة مهما كان الاتجاه الحزبي الحاكم في البلاد خاصة بعد إعلان الجمهورية اثر انهيار الإمبراطورية العثمانية على ايدي الحلفاء وبمساعدة الترك والكورد وجميع شعوب شمس الشرق “الأناضول” بقيادة مصطفى كمال باشا المعروف بكنية “أتاتورك” أي جد الأتراك.

 

 

قد يعجبك ايضا