جاسم محمد شامار
كانت الشمس مشرقة عصر ذلك اليوم في مدينتي الجميلة مندلي، نسائم الهواء البارد في الطريق، لحقول الخس، خلف بساتين النخيل، المشبع بأريج الازهار والنباتات.
ذهبت لمكاني المفضل في ذلك الوقت، جدار الكوخ الطيني وسط حقل الخس كان مكانا ملائما للاحتماء من الهواء البارد والاستمتاع بدفء الشمس.
جدول الماء امام الكوخ بمائه الصافي كان يستخدم لغسل اوراق الخس بعد الشراء.
الاوراق الدهنية والمتراصة كانت جاهزة للأكل من قبل البعض دون الغسل.. الرجل صاحب الحقل كان يقف وسط الحقل يشد حزاما عريضا ويحمل منجلا لقطع رؤوس الخس والبيع في الحقل.
تلك البقعة الجميلة من الارض في مدينتي كانت تجمع الجميع: الأطفال، والشباب، والنساء، والرجال. كنا نتجنب اماكن تواجد النساء خجلا او نتنحى عن الدرب، كلما وجدنا من يكبرنا سنا.
كان لكل منا عالمه الخاص. بين من يحمل كتابا للمذاكرة او من يحمل كرة ومعه مجموعة من الصبية للعب او نساء معهن عدة حش الخباز…
المطر والشمس وسواعد أولئك الرجال، صنعوا لنا تلك البقعة الجميلة مهرجاناً في الهواء الطلق، للنزهة والتسوق ولقاء الاقارب والأصدقاء.
كانت حقول الخس تحيط بها النخيل وتنتهي بمروج خضراء تزينها ألوان ازهار البابونك والشقائق والاقحوان، كان يستهويني دائما تأمل النخيل او الاشجار المفردة وسط الحقول. لا أدرى من غرسها كأنها كانت ازلية. او انها تقويم تعاقب الفصول..
الباحثين عن الكعوب (الكنگر) او الكمأ او الفطر يجدونها في الجانب الاخر خلف الحقول.. طرق ميسمية بين المروج تنتهي بتلك القرية الحالمة كپرات ..
كان الزمن مفقودا في تلك النزهة بين التجول في الحقول او التسابق مع ماء الجدول وجدت نفسي قريبا من تلك القرية الجميلة ببضع خطوات.
كان النهر يجري محاذيا للقرية. وبين رغبتي في عبور النهر او تأمل قطعان الماشية تعود الى البيوت، كانت اسراب طيور الزرزور تلوذ بالنخيل لتقضي الليل بعد ان قطعت سماء المدينة عشرات المرات يمينا وشمالا طوال النهار..
الشمس البرتقالية على أطراف سعف نخيل بساتين (قلم حاج) في الجانب الاخر كانت تشعرني دائما بقرب حلول الظلام..
تنتهي النزهة ويعود الجميع ويبقى الرجل في الكوخ يحرس الحقل. مع الغروب يبدأ بإشعال النار..
لا أحد يعود خالي الوفاض، بين من يحمل الخباز او الكعوب او باقة ازهار.. كنت احمل معي باقة من ازهار البابونك سأضعها في آنية على الطاولة لعلها تلهمني ان اكتب موضوعا عن الربيع لدرس الانشاء.
كانت جدتي احدى النساء الذاهبات لجمع الخباز، بابتسامتها المعهودة ووجها البشوش ومع هديتها صحن الخباز المطبوخ زادني الحماس لأكمل موضوع الانشاء عن الربيع في مدينتي.. كتبت كلمات وحذفت كلمات. وكانت باقة البابونك ملهمتي!
بعد خمس واربعين سنة سأعيد كتابة ذلك الموضوع واستعيد كراستي، لكن ماذا اكتب الان…؟
لقد رحل الرجل صاحب حقل الخس ورحلت جدتي… سنين الحرب كانت عجاف على حقول وبساتين مدينتي. ارض حقل الخس صارت جرداء يسكنها الصمت وآثار الاقدام. تلك النخيل التي كانت تسحرني وسط الحقول صارت ملاذا للغراب..
لكنها وحدها ازهار البابونك بقت صامدة تزهر في كل عام، تحكي حكاية اجيال كانوا يعشقون تلك الارض ولعلي كنت آخر العشاق.
مازلت حين اشم ازهار البابونك اتذكر طفولتي في مندلي فتدمع عيناي، او اعود طفلا في العاشرة من عمري افتح كراستي فتأتيني أجمل الكلمات، لأكتب عن حقول البابنج.
مازال قلمي عاجزا عن رسم كل تلك الصور الجميلة لمدينتي مندلي او جعلها أحرف او كلمات. ليس فقط جمال الطبيعة بل الجمال الروحي والاخلاقي والاجتماعي للإنسان والمجتمع طيلة سنين عمري هناك..