في البدء كانت المدينة، والمدينة كانت – ارباخا كركوك 1959 الى 1968

 

الجزء الأول

 

كركوك يا بوابة فردوس العشق والآهات

ويا سلالة الهزبر ورحلة الدم والعذاب

الشاعر المجدد عبد الحكيم نديم الداوودي

 

د. توفيق رفيق التونچي

 

 

 

 

 

 

قارئي الكريم حين أبدا الحديث عن مدينتي كركوك، كمتحف للشعوب كما كان يكررها الأديب المرحوم الدكتور زهدي الداوودي، ساترك التأريخ والتساؤل عن عائدية المدينة لمن ومن كان هم الذين أول من رفعوا أسس المدينة وعلوا بنيانها يوما ما؟

حيث أن تاريخ المدينة حافل بالأقوام والشعوب ويدعي اليوم كل عائدية المدينة إليهم ويقدمون في سبيل إثبات ذلك الدلائل والوثائق التاريخية. ولست هنا لأقدم أي دليل على صحة تلك الادعاءات وهي بالتأكيد جميعها صحيحة وتأريخية موثوقة فقد كانت المدينة اشورية، سومرية، كوتية، خورية، عباسية، سلجوقية، صفوية، عثمانية وتغير لغات أبنائها مع تغير الولاة والحكام وهي مدينة كوردية وتوركمانية واشورية وسكنها العرب بعد دخول الإسلام الى العراق.

 

الآراء الواردة في المادة حصيلة رحلة فكرية تطورية عبر الزمن ودراسة وقد استعنت ببعض المصادر لإيضاح آراء جميع الإطراف باستقلالية تامة ودون أي تعليق على تلك التوجهات ويبقى للقارئ حرية اختيار الرأي المناسب لتفكيره ورؤيته للأمور وتقيميه الشخصي.

سفرتي هذه تهدف الى توثيق تراث تأريخي مهم لأبناء المدينة قد يمحيها التاريخ مستقبلا وتبقى بذلك وثيقة تأريخية منصفة للجميع و واقعية تثبت إمكانية الحوار الحضاري الإنساني بين الشعوب والأقوام ساكني كوردستان  رغم اختلاف مشاربهم. والسفرة وكما ذكرت تأتي ضمن سياق فترة تأريخية مهمة في الحياة المدنية بين أعوام 1959 الى 1968. أنوه مرة أخرى الى حقيقة واقعية في حياة المدينة في تلك الفترة الزمنية حيث كانت الثقافة التوركمانية كلغة كانت سمة من سمات مجتمع المدينة كلغة ثقافية يتحدثها الكوردي والتوركماني والعربي والسرياني والارمني. هذه اللوحة تغيرت وستتغير مستقبلا كنتيجة للتطورات السياسية والاجتماعية، ولكن تبقى تلك الصورة إحدى حقائق ذلك الزمان. سيجد القارئ النبيه بعض التكرار في المواضيع لان المواد قد تم نشرها في أوقات متباينة وخلال العقود الماضية لذا وجب الاعتذار. وأنبه كذلك القارئ الكريم الى استخدامي لفظ التوركمان والكورد مخالفا بذلك قواعد الأملاء في الكتابة العربية ومؤكدا صحة اللفظية في الكتابة الكوردية والعثمانية القديمة للكلمتين.

 

كركوك ابان الانتداب البريطاني1917.

السفرة في هذه المدينة تستغرق عقدا من الزمان وتمتد من الفترة ما بين عام 1958 الى عام 1968 وتلك الفترة تأريخية مهمة ومتميزة ليس فقط في حياة المدينة وأهلها الكرام، بل في مجمل تأريخ العراق الحديث وبصورة خاصة في كوردستان والعالم بأسره. حيث جرت اهم التحولات السياسية والاجتماعية على صعيد العراق والعالم. سأحاول إعطاء صورة للمدينة في ذلك الزمان واعرج الى اهم الأحداث التي اثرت على تركيبتها السكانية وعلى الحياة السياسية فيها وكما ذكرت ان تلك السياحة تنتهي توثيقها عام 1968.

 

يلاحظ القارئ النبيه سواد الطابع والخصوصية الثقافية التوركمانية كلغة على المدينة واضحا في تلك الفترة كنتيجة لتراكميات تاريخية وسياسية سآتي على ذكرها تباعا من خلال عرض أحوال الناس وبعض مفردات

 

 

يتم استخدام مصطلح كوردستان جغرافيا في هذه المادة والكوردستانية كمصطلح يشمل جميع   القوميات والعقائد والطوائف التي تضمها ارض كوردستان. صور تجدونها تحت الروابط التالي:

http://maps.google.com/maps?ll=35.461089,44.378414&spn=0.075580,0.137801&t=k&hl=en

http://ayamzaman.tripod.com/toqos.htm

 

Kermit Rooseve, War in the Garden of Eden,1917.   www.gutenberg.org/files/ 13665/13665-h/13665-h.htm

 

الحياة الاجتماعية اليومية لأبناء المدينة. الواقع ان قدر المدينة ارتبط بما يسمى بمسألة ولاية موصل وهو أي لواء موصل ولاية (تشمل مساحة كوردستان) كانت قد تنازع عليها تركيا مع البريطانيين وجرى استفتاء بين سكانها الذين اختاروا الانضمام الى دولة العراق الفتية بعد الحرب العالمية الأولى  ولو كانت نتائج الاستفتاء لصالح تركيا لكانت تلك الأراضي الواقعة اليوم بين الحدود العراقية التركية وسلسلة جبال حمرين ارض تابعة لتركيا وكان سكانها يتحدثون التركية لا بل استترك منهم الكثيرون وكما هو عليه الكورد من أبناء كوردستان الشمالية اليوم.

ان من اهم النتائج المباشرة للهجمة البربرية التي شنتها الحكومات المركزية المتعاقبة على أبناء الشعب الكوردي (خلال تلك الفترة حيث اندلعت الثورة الأيلولية المباركة) وابان فترة انقلابات العسكرية، التي تم خلالها تنفيذ سياسة التطهير العرقي لأبناء المدينة. التعريب في المدينة بدأ رسميا ابان العهد الملكي رغم وجود العديد من العوائل العربية في المدينة وأطرافها تعود وجودها الى القرون الثلاثة الأخيرة وطبعا حصل حوار حضاري بينها وبين القوميات الأخرى. أقول بأن أبناء المدينة، ونتيجة لتلك الظروف الاستثنائية، قاموا “تقية” وغيروا انتماءاتهم القومية. وبدا لغة البيت والشارع يتحول الى التوركمانية احيانا والى العربية أحيانا اخرى ويتلمس المتمعن في حياة ابناء المدينة في تلك الفترة التأريخية ان العديد من العوائل التوركمانية تحولت الى كوردية وما برحت تلك العوائل تغير انتماءاتها الى التوركمانية وفي الثمانينات غيروا قوميتهم الى القومية العربية. هذا المنحى مهم جدا في دراسة سلوك ابناء المدينة وهي طريقة مثلى للبقاء على الحياة واستمرار الوجود الإنساني على قيد الحياة حين تشتد الأزمات ويسود حكم قوى الظلام.

 

 

لا ريب ان احد نتائج الحوار السلمي الحضاري بين ابناء المدينة كانت تلك الحقيقة الواقعية التي نراه اليوم في حياتهم أي ان التكوين العرقي التعددي لعوائلها، قلما تجد اليوم عائلة كركوكية واحدة لم يتصاهر او يتزاوج من توركمانية او كوردية والقليل منهم تصاهروا مع العرب كذلك . فنرى مثلا ان هناك في يومنا هذا العديد من العوائل التي تدعي الانتماء الى الشعب التوركماني مثلا تراهم في واقع الامر من اصول تنتمي الى عشائر كوردية معروفة والعكس صحيح وقد يكون ابناء عائلة واحدة يدعون بانتماءات قومية مختلفة وقد يكونوا أخوين او ابناء عمومة او ابناء خال.

اللغة التوركمانية كخصوصية ثقافية بحد ذاتها كانت لغة اهل المدينة في تلك الفترة الزمنية حيث ابناء المدينة كانوا يجيدونها على اختلاف انتماءاتهم ولذا ان مصطلح التوركمانية موسع بالنسبة لابناء المدينة وهذا لا يدل على الانتماء القومي بقدر ما يدل على الانتماء الثقافي للمدينة لذا نرى بان المطرب الكركوكي يتغنى بأغنيته بكلمات كوردية ومن ثم توركمانية. وهذا ليس بغريب في المدن الكوردستانية بصورة عامة فقد كانت ظاهرة في العاصمة اربيل في تلك الفترة فيما نرى الظاهرة لحد يومنا هذا في معظم المدن الكوردستانية في تركيا. وتلك من الأمور الخلافية في تعداد السكان لانها اعتمدت على اللغة التي يتحدث بها الناس في البيت وليس على أصولهم القومية الحقيقية. ولذا نرى سواد ذلك الطابع والخصوصية الثقافية طوال عهد سيطرة االدولة العثمانية على المدينة. لكن أرياف المدينة كانت ذو طابع مختلط توركمانية- كوردية واضحة بينما انتشر التوركمان في بعض القرى القريبة من المدينة. ونرى أمثلة كثيرة على هذا المنحى في دول العالم وخاصة بالنسبة للغة المهاجر في المنفى في دول الغرب.

————————-

 

حول أرتباط كركوك وكوردستان بالعراق ، يذكر  الاستاذ عوني الداوودي بانه حتى عندما تم تأليف الحكومة المؤقتة برئاسة عبد الرحمن النقيب في 25 | تشرين الأول | 1920 إلى 23 | 8 | 1921 لم ترتبط كركوك وتوابعها وباقي المناطق الكوردية بالحكومة العراقية المؤقتة إدارياً وذلك حسب معاهدة سيفر ، وبقيت هكذا حتى بعد تتويج فيصل ملكاً على العراق

7 يقول الكاتب عزيز قادر الصمانجي في كتابه الموسوم “التاريخ السياسي لتركمان العراق الصادر عن دار الساقي 1999 ” ان التركمان من اقدم من استوطن العراق منذ مئات السنين, وعلى الرغم من ان مدينتهم الرئيسية ومركز تجمعهم, هي مدينة كركوك والمناطق المجاورة لها, فانهم انتشروا في ارجاء العراق من شماله الى جنوبه, ومنهم من احتفظ بلغته وقوميته, ومنهم من انصهر مع العرب او الاكراد,…..

والجدير بالذكر في هذا السياق باني قمت بنشر كتاب خاص عن المسار الديمقراطي للحركة الكوردية المعاصرة  تناولت فيه جوانب مهمة من تاريخ الشعب الكوردي وتطرقت الى تلك الحقيقة بالنسبة لأبناء مدينة كركوك.

ان النظرة التقهقرية الى الوراء لذلك الزمن اي الى اواخر الخمسينيات تأخذنا في سفرة عبر الزمن والمكان الى نهاية الخمسينات. حيث كانت سيارات النقل الى المدن الأخرى (النفرات) منتشرة قرب سوق الهرج بكركوك راجع مادتنا حول سوق الهرج على صفحات صحيفة التآخي:

سوق الهرج .. عبير الماضي وذكريات عن شخصيات شاركوا في استمرارية نبض الحيا ة في الحاضرة كركوك – جريدة التآخي (altaakhi.net)

يتبع ..

قد يعجبك ايضا