زارا الجميلة … ضحية من الانفال

 

مدحي المندلاوي

كان اسمها زارا، والدها عمر بيگ، عندما يناديها، يقول لها يا بنت. ورويدا رويدا اعتادت العائلة أن تناديها فقط بالبنت (كچ)، الا انهم وللتدليل مرة، والموسيقى اللفظية مرة أخرى، والانبهار بجمالها الفاتن نادوها بكچان، أي بنات!!

كان والدها عمر بيگ رجلا شديد الوسامة. يتمتع بخفة الظل ورجاحة العقل؛ فأخذت منه كچان كل هذه الصفات الجميلة. فنشأت صبية بعقلية جامحة جمعت فيها كل الصفات الراقية لبنات قرى الوادي، وربما السليمانية وكوردستان ووهبها لكچان.

عينان لازورديتان بوسع السماء، أنف ملئ بكبرياء الجبال، ووجه طفولي وبرئ مبارك يحاكي ملائكة الرحمن. عندما كنا نراها (نحن البيشمركه) قادمة من الحقل، أو النبعة، كنا ننكس أفواه بنادقنا، نحني رؤوسنا وأعيننا اكراماً لله.

بعضنا، وان لم يكن متدين، كنا نردد البسملة عندما نلتقي بها، نرفع ايدينا للسلام ونمضي مسرعين وكنا كمقاتلين نشعر بالفخر لأننا كنا ندافع عن حرية وسلامة وغد أبناء وبنات هذا الشعب الجميل.

بعض المغنين الشعبيين أشاروا الى البنت الهلدنية (نسبة الى قريتها) في أغانيهم، ولكنهم لم يجرؤا ان يذكروا اسمها!

كچان.. كانت جبلية وحسب؛ تعيش في عالم صغير وحالم. تراها تداعب حملاً صغيراً، أو تسير بين النياسم الجبلية ومزارع الكروم، تجمع مع صويحباتها باقات النرجس من الوديان القريبة، وسيقان الريواس الطرية من قمم الجبال.

كانت تعيش في عالم صغير وحالم؛ لا تعقيد، ولا تفكير عميق، ولا مساحيق تجميل. تختلط فتنتها بالجمال الصارخ لقريتها الوادعة. لا شيء كان يضيرها لأنها لم ترَ في حياتها غير هذه النبعة والجبال المحيطة بها، وأشجار السرو والجوز، والمداخن التي تطقطق فيها سيقان البلوط الرطبة.

كل شيء كان جميلاً وساحراً في عالمها البسيط الوادع.

القرية كانت غارقة بين سلسلة من الجبال المنيعة، وأنباء العمليات الحربية بين رجال المقاومة، والجيش الحكومي بعيد. ولكن رويداً كانت تقترب وتقترب. حتى باتت قذائف المدفعية تسقط في أطراف القرية، والطائرات الحربية لا تغيب عن سمائها.

وكانت كچان تجفل لهديرها ودويها المرعب. التجأت عائلتها الى كهوف ومغاور جبل ژيلوان؛ ومع انتهاء الحرب العراقية الايرانية؛ بدأت القوات العراقية بعمليات الانفال.

وفي العام ١٩٨٨، وخلال عمليات الأنفال الثانية، وصلت القوات الصدامية الى منطقة شارباژير، ووادي مادينة، وجبل ژيلوان، حيث كانت كچان وعائلتها.. وأخذوا كچان.. سبوها.. أصبحت جارية لدى الغزاة. يا إلهي، كيف لم يركعوا في حضرة هذه الملاك، أمام براءتها وطهارتها. كيف جروها من يدها، أي وحش خدشها، أسمعها كلمات رغم انها لم تكن تفهم لغتهم؟! هل قتلوها، أم باعوها، أم انتحرت لتتخلص من دناءتهم وحقارتهم؟!

كچان .. ضحية من (١٨٠) ألف ضحية قضوا في عمليات الانفال التي جرت بقيادة المقبور عليّ كيمياوي، وفيها دمر الريف الكوردستاني بالكامل، واستعملت الاسلحة الكيمياوية لإبادة البشر والحجر وحتى يومنا هذه، وعندما يحرث فلاحا أرضه في ارجاء العراق، قد تخرج جمجمة طفل كوردي، ونكتشف قبراً جماعيا آخر، وآلاف القصص المأسوية الأخرى على غرار قصة المغدورة الجميلة (زارا).

 

 

قد يعجبك ايضا