ثقافة التعايش السلمي في إقليم كوردستان

 

 

 

د. نايف كوردستاني

 

الجزء الثاني والأخير

– التَّعايش الاجتماعي: وهو معرفة الثقافات الاجتماعية لدى الآخر، والإفادة من خبراتهم، وكذلك الزَّواج، والمصاهرة بين الدِّيانات التي تقوّي أسس المجتمع الكوردستاني مع احترام خصوصية كلّ دين، ومعتقد.

 

– التَّعايش الاقتصادي: ويكون عن طريق التَّواصل مع الآخر للتَّبادل التِّجاري، أو المشاركة التِّجارية، فالتَّعايش الاقتصادي له أثر كبير في تحقيق السِّلم المجتمعي.

 

– التَّعايش الثَّقافي: تُعدُّ الثَّقافة روح إقليم كوردستان، وعنوان هويته، وهي ركيزة أساسية في بناء المجتمع، ونهضته فلكلّ أمّة ثقافتها تستمدّ منها عناصرها، ومقوماتها، وخصائصها، وللثَّقافة دور كبير في تفعيل التَّعايش مع الآخر.

 

وهناك أدلة عديدة في القرآن الكريم، وفي السُّنَّة النَّبوية تدلُّ على التَّعايش السِّلمي، منها قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} [الحجرات: 13]، وقوله تعالى: {لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة: 8]، وعَنِ النَّبِيِّ -صلى اللهُ عليه وسَلَّمَ- قَالَ: «مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا لَمْ يَرِحْ رَائِحَةَ الجَنَّةِ، وَإِنَّ رِيحَهَا تُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا» أخرجه البخاري في صحيحه.

وكان النَّبيُّ- صلى الله عليه وسَلَّمَ- يدعو لغير المسلمين، فكانَتِ الْيَهُودُ تَعَاطَسُ عِنْدَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رَجَاءَ أَنْ يَقُولَ لَهَا يَرْحَمُكُمُ اللَّهُ، فَكَانَ يَقُولُ: «يَهْدِيكُمُ اللَّهُ، وَيُصْلِحُ بَالَكُمْ» أخرجه أبو داوود في سُنَنَه، وصحَّحه الألباني.

 

فهذه الأدلة الشَّرعية الثُّبوتية من الكتاب، والسُّنة من دين الإسلام الحنيف الذي يعتنقه أغلب الكورد من المسلمين الذين يؤمنون بإشاعة ثقافة التَّعايش السِّلمي في المجتمع الكوردستاني.

كان نظام حزب البعث من الأنظمة المستبدة (الدكتاتورية ) الذي ضرب أُسس التَّعايش عرض الحائط، لاسيّما بعد أن تسنّم (صدام حسين) لمقاليد الحكم، والسُّلطة في العراق بعد الإطاحة بالرئيس العراقي السابق، ورفيق دربه (أحمد حسن البكر )؛ فبدأت عمليات التَّعريب على ثلاث مراحل في ثلاث محافظات:(بغداد، وكركوك، ونينوى)، والبدء بعمليات التَّهجير القسري للكورد من مدنهم، وقراهم، وتوزيعهم على المناطق العربية، وتوطين العرب في المناطق الكوردستانية، وتفعيل نظام تصحيح القومية، وعمليات الإبادة الجماعية من خلال دفنهم لـ (8000  ) بارزاني مدني، وهم أحياء في المقابر الجماعية بالمنطقة الصحراوية من جنوب العراق، وعمليات الأنفال السَّيئة الصِّيت بمراحلها الثَّمانية التي راح ضحيتها (182000) كوردي مدني، وقصف مدينة حلبجة بالأسلحة

 

الكيميائية، وراح ضحية القصف (5500) كوردي مدني، وآلاف المتضررين من تلك العملية الإجرامية علاوة على ذلك تصفية (12000)كوردي فيلي، وتهجيرهم من أماكنهم، وسحب الجنسية العراقية منهم، والاستحواذ على ممتلكاتهم المنقولة، وغير المنقولة، ومسح (4500 ) قرية كوردية من الوجود!

هذه الجرائم التي وقعت بحق الشعب الكوردي من قبل أزلام النظام العراقي في حقبة البعث الصدامي، لكن الشَّعب الكوردستاني بقيادة الرئيس (مسعود بارزاني) لم يتعامل بالعقلية الانتقامية معهم، فعندما حدثت الانتفاضة الكوردستانية في (5آذار 1991م) ضد نظام البعث كان بالإمكان تصفية الجيش العراقي جميعهم عن بكرة أبيهم بكُلِّ سهولة في إقليم كوردستان إلا أن الرئيس (مسعود بارزاني) أصدر أمرًا بعدم الاعتداء عليهم بعد أن يتركوا أسلحتهم، ومقراتهم، وثكناتهم العسكرية، وتسليم أنفسهم لقوات الپيشمرگـة البطلة، واُستقبلوا في البيوت، والمساجد، وفتحت الممرات الآمنة لهم لكي يعودوا إلى بيوتهم سالمين من دون الاعتداء عليهم لكونهم من ضحايا النظام.

 

وبعد طرد البعثيين من كوردستان كانت هناك مشكلة أخرى موجودة في كوردستان ألا وهي مسألة (الفرسان) الذين عملوا مع نظام البعث، وهم أقسام منهم من تعاون مع صدام، ومؤيدًا له قلبًا، وقالبًا، وضربوا الحركة التَّحرّرية الكوردية، ومنهم من تعاون مع نظام البعث لكي يحصلوا على مغانم، وأموال من الحكومة العراقية، وحماية رؤساء عشائرهم، ومنهم من تعاون مع النِّظام العراقي من أجل الحفاظ على مصالحه الشَّخصية كالأراضي الزِّراعية، وغيرها لكنّهم تعاونوا مع ثُوّار الحركة التَّحررية الكوردية، ودعمهم بالأسلحة، والأغذية.

 

ومن أجل مصلحة شعب كوردستان فقد طَوَى الرئيس (مسعود بارزاني) تلك الصَّفحة السَّيئة من تاريخ الكورد المعاصر لكيلا تتحوّل كوردستان إلى بحر من الدِّماء؛ علمًا أنَّهم ساهموا مساهمة كبيرة بتدمير البُنى التَّحتية لكوردستان، وكانوا أداة طيعة بيد النَّظام الفاشي، وساعدوهم بتسهيل العمليات العسكرية في مدن كوردستان، وتدميرها!

 

واستلهم الرئيس (مسعود بارزاني) شعارًا من الآية القرآنية: {عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ} [المائدة:95] لكيلا تكون هناك عمليات انتقامية بين أبناء الشعب الكوردستاني، وعلى إثر هذا الموقف الوطني من البارزاني عاد كثير منهم إلى الصَّف الوطني؛ لأنَّ الرئيس (مسعود بارزاني) يريد بناء كوردستان على يد أبناء شعبه، ويبعدهم عن التَّناحرات، والعصبيات العشائرية، والمناطقية، والقومية، والدِّينية.

 

وبعد خلوّ إقليم كوردستان من البعثيين، وحدوث فراغ في المناصب الحكومية، والإدارية أُجريت الانتخابات النِّيابية، وتشكلّت أوّل حكومة كوردستانية بعد الانتفاضة الكوردستانية (سرهلدان) في عام (1992م) من مكونات كوردستان بعيدًا عن سياسة التَّهميش، والإقصاء لمكوِّنات كوردستان.

وبفضل حنكة القيادة الكوردستانية، وعلى رأسها الرئيس (مسعود البارزاني) لم نتأثر بتلك العقليات الانتقامية التي هدّدت السِّلم المجتمعي، والتّعايش بين أبناء كوردستان.

وبعد انتخاب الرئيس (مسعود بارزاني) في عام (2005 م) من مجلس النُّواب الكوردستاني أوّل رئيس لإقليم كوردستان ساهم بترسيخ ثقافة التَّعايش السِّلمي بين أبناء مكوّنات كوردستان، ولم يسمح باستعمال مصطلح الأقليات بل دعا لاستعمال مصطلح (مكوّنات كوردستان)، ويعامل الجميع بالمسافة نفسه بعيدًا عن عرقه، ودينه، ومذهبه.

 

قال الرئيس(مسعود بارزاني) :”بعد سقوط نظام صدام حسين حاولنا نقل تجربة إقليم كوردستان إلى بقية مناطق العراق، ودعونا إلى اعتماد ثقافة التَّعايش، والتَّسامح، واستخلاص العبر من الماضي، وللأسف فأنَّ هذا لم يحصل فقد لجأ الكثيرون إلى ثقافة الانتقام، وهذا سبّب تفكك العراق”.

 

ومن المواقف الإنسانية، والنَّبيلة للرئيس(مسعود بارزاني) في تعزيز ثقافة التَّعايش، وعدم إشاعة الكراهية كما كانت تُروَّج من قبل الإعلام الأصفر عندما فتح أبواب كوردستان للنازحين من العرب، والكورد، والتُّركمان، والدِّيانات جميعها في محافظات (نينوى، وصلاح الدِّين، والأنبار) بعد احتلال تنظيم الدَّولة الإسلامية (داعش) لمناطقهم، وعوملوا معاملة مواطني كوردستان من خلال فتح الجامعات، والمدارس، ورياض الأطفال، والمستشفيات لهم؛ ولهذا السبب تغيّرت وجهات نظر كثير من النَّازحين حول إقليم كوردستان، والرَّئيس البارزاني؛ لأن الإعلام المناوئ لكوردستان يبثُّ الإشاعات الكاذبة حول عدم تقبّل الكورد للعرب، علمًا أنَّ وأصبح التَّعايش السِّلمي سمّة بارزة في إقليم كوردستان، وهذا الشِّعار هو بديل عن العلاقة العدائية بين القوميات، والدِّيانات، والمذاهب، والتَّعايش يتحقّق في جوٍّ يسوده العدل، والمساواة، والحرية في الدِّين ، والمعتقد، وتقبّل الآخر كما هو، فتجد في المنطقة الواحدة المسجد، والكنيسة، والمعبد في كثير من مناطق كوردستان، فعلى سبيل المثال كانت منطقة بارزان تعيش فيها ثلاث ديانات (الإسلام، والمسيحيون، واليهود)، فمن الطبيعي

جدًّا أن تجد المسجد، والكنيسة، والمعبد اليهودي في تلك المنطقة حتى أنَّ الدّول الغربية تشيد بتجربة التَّعايش السِّلمي الحقيقي في إقليم كوردستان، وأصبحت محل فخر لشعب كوردستان بفضل الحنكة السِّياسية لقيادة كوردستان .

قد يعجبك ايضا