روسيا واستغلال الفرص

محمود صالح شيرواني

بعد انهيار وتفكك الاتحاد السوفياتي، غير المتوقع للعالم، في نهاية عام ١٩٩١، لم يترك الغرب، بقيادة أمريكا، لروسيا الاتحادية، في الفترة التي تلت سقوط الاتحاد، أن تخرج من تحت عباءته، وحاول أن يفرض عليها أيديولوجيته الليبرالية ويقيدها في مساحتها الجغرافية الكبيرة دون أن يكون لها أي دور سياسي فعلي على الصعيدين العالمي والإقليمي، أي لم يحسب أي حساب لمصالح روسيا الجيوسياسية والاقتصادية. وكانت مرحلة حكم الرئيس الروسي الأسبق، وأول رئيس بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، بوريس يلتسين (١٩٩١-١٩٩٩)، المدعوم من قبل أمريكا، تمثل تجربة روسية مرة لمحاولة فرض سياسات الغرب عليها. هذه الفترة التي ثار عليها فلاديمير بوتين عندما تولى الحكم في عام ٢٠٠٠ وما بعده. 

ولكن فعليًا هل نجح الغرب في هذا؟ والأصح أن يُسأل: ألم يتسارع الغرب بقيادة أمريكا في محاولة فرض سياساته واستراتيجياته المتشددة على روسيا الاتحادية بالشكل الذي حدث؟ أي تحويلها من دولة شبه إمبراطورية ولها تاريخها العميق وأهدافها الجيوسياسية الواضحة، إلى دولة تتبع سياساته وتوجيهاته؟ وهل كانت لنشوة الانتصار الأمريكي على الاتحاد السوفياتي في الحرب الباردة (١٩٤٥-١٩٩١) دور غير مدروس استراتيجيًا فيما وصلت إليه روسيا اليوم من حربها ضد أوكرانيا منذ فبراير ٢٠٢٢، وقبل ذلك ضمها للقرم في ٢٠١٤، وقبل ذلك إعلان فلاديمير بوتين، عديد مرات، أن الغرب بقيمه النيوليبرالية وسياساته الناتوية التوسعية يمثل خطرًا على روسيا، ولن يُتسامح مع هذا الخطر؟

التسعينيات من القرن ٢٠ وبدايات القرن ٢١، مثلت ذروة القوة الأمريكية العسكرية والسياسية، حتى صارت تستفرد بحكم العالم فعليًا، وتضع قواعد اللعب والصراعات السياسية العالمية كما تريد، وكان في تصورها أن حالة الأحادية القطبية ستستمر، أو ستخطط دائمًا حتى تستمر. وثم بسبب انشغالات أمريكا بقضايا الشرق الأوسط (العقيمة) ومحاربة الإرهاب في العالم بعد أحداث ١١ سبتمبر ٢٠٠١، والغرق في أوحال أفغانستان (٢٠٠١)، والعراق (٢٠٠٣)، وجد فلاديمير بوتين الفرص لكي ينفذ مخططاته السياسية (التوسعية في نظر الغرب) ويحاول أن يحقق أحلامه باستعادة أمجاد روسيا الماضية.

ولا يعني ذلك غفلة الولايات المتحدة الأمريكية عن روسيا بقدر ما يعني أن الأولويات السياسية (الخارجية) الأمريكية اضطربت في تلك الفترة، مما هيأت لإحداث تغييرات في موازين القوى في العالم، وتمثلت ذلك في: صعود الصين، وعودة روسيا الاتحادية قوية، وسعيهما لتشكل عالم متعدد الأقطاب، تكونان فيه من الأقطاب القوية والمسيطرة في محيطهما الآسيوي والأوراسي، بالتوالي.

والدرس الذي يمكن تعلمه من تلك الفترتين، فترة ما بعد انهيار الاتحاد السوفياتي ونشوة أمريكا بالأحادية القطبية، وفترة ما بعد أحداث ١١ سبتمبر ٢٠٠١ واحتلال العراق ٢٠٠٣، هو:

– لا تمارس ضغطًا كبيرًا على عدوك حتى لا ينفجر بوجهك حين يجد الفرص. أو لا تدعه يخلق الفرص للتمرد على النظام الذي صنعته بيديك على غفلة منك.

– دع الأولويات الاستراتيجية مرنة، لتتحرك في كل ساحات الصراع بمرونة. إن كنت تريد الحفاظ على زعامة عالمية.

– ليست هناك قوة هامشية أو فواعل هامشيين في العالم، فكل قوة أو منظمة، أو أي ساحة بإمكانها التأثير في الصراعات العالمية، وتحديد اتجاهاتها. 

– لا تقلل من حجم العدو وما بإمكانه فعله، حتى لا تتفاجأ بتحركاته وتحالفاته.

وبالتأكيد هناك دروس أخرى لكي تتعلمها الدول والمجتمعات من تلك الفترتين، وروسيا بقيادة فلاديمير بوتين لم يتركهما تضيعان هباء، سواء وافقناه في سياساته أم لا.

قد يعجبك ايضا