اسمها والعيون / قصة قصيرة…

ماهين شيخاني

حفلة افتتاح المعرض لفنان تشكيلي مغترب، المدعوين من الشخصيات السياسية و الأدبية والاجتماعية معظمهم من المغتربين ، باستثناء بعض الرؤوس التي كانت تؤكد انتماءها إلى القارة الاوروبية.امتلأت الصالة بالمدعوين ، وفي مثل هكذا مناسبة ، تبدو فرصة طيبة للتعارف ، حيث تسمع القهقهات واللغط ، الضحك والابتسامات و في بعض الزوايا الهمسات.

يؤكدون للمشاهد على انهم قد انهوا جولتهم في المعرض. وهناك البعض ما زال يقف أمام اللوحات بخشوع و تأمل.
كانت تنتقل بين الكتل الآدمية، تشاهد اللوحات بإعجاب و سرور ، لأنها المرة الأولى التي تزور مناسبة كهذه وفجأة تسمرت بمكانها وسرت رعشة باردة في جسدها ، كأنها رشقت بسطلٍ من الماء المثلج ، بدأت بأطرافها حتى عمت كامل الجسد ، انشل حركتها و خارت قواها، الأطراف لم تعد تتحمل الوقوف . العيون جامدة ، ثابتة باتجاه واحد فقط ، باتجاه لوحة تحاكيها بعيون جد حزينة، كئيبة ، تسرد لها قصص و حكايات عمرها أربع سنوات خلت، مّرت خلال هذه اللحظات، أوقات كانت مدفونة …. منسية… كامنة. لحين هذه اللحظة.
دارت عقارب الساعة إلى الوراء وهي مازالت جامدة- تتمتم – والعيون مستقرة في اللوحة انه هو؟… هوبالذات ؟.
– سألت ذاتها – مع أن قلبي لا يخونني إلا أنني سأتأكد من الفنان أيضا؟.
بتثاقل و بطئ شديدين خطت بضع خطوات نحو اللوحة وكأنها حاملة جبل من الحزن
– أيعقل أن يكون …؟
– وما علاقته بالفنان..؟
تشتت أفكارها في تلك اللحظات المريرة ، أسئلة عدة تريد أجوبة صريحة، صادقة، انتبهت حولها وكأن عيون الحضور ثاقبة باتجاهها فقط .
بالرغم من آلامها وأوجاعها إلا أنها تمالكت و حاولت أن تتظاهر وتبدو طبيعية. بادرت تلملم بعض من قواها المنهارة، تنفست الصعداء، رفعت جسدها قليلاً ، تجولت بعيونها تبحث عن الفنان.تقدم نحوها شاب ذو هيئة مقلدة لشبان الأوروبيين وابتدرها قائلاً:
– هالو
– هالو…انت..
– قاطعها – عفواً اعتذر نيابة عن الفنان، و أتمنى أن تكون قد أعجبتك المعرض
– جداً!! لهذا طلبته.
– خدمة أخرى ؟
– ردّت بعصبية: أود رؤيته.
– يقول المثل : (الغائب حجته معه )، وقد لا يأتي هذا المساء.
– حسناً…حسناً. هل لي بمعرفة اسم الفنان؟
-ألم تنتبهي إلى اسمه على اللوحة ، اعتقد أن الرسامين ينسون كل شيء، حتى أمهاتهم ولكن لاينسون اسمهم وتوقيعهم على اللوحة؟.
– لا…أقصد اسمه الحقيقي. هنا أغلب الأسماء فنية أو حركية مثلما يسمونها السياسيون.
– كل ما أعلم أن اسمه آرشفين؟.
– كم كنت ارغب برؤيته؟ ألم يترك لكم عنوان… رقم التليفون… او أي شيء للاتصال به .
– لدينا عنوانه وإذا كنت راغبة لشراء ….. – أثناء ذلك- سمعنا صوتاً يعتذر للجميع بسبب ظروف قاهرة اضطره للتأخير. كان الصوت الآتي هو صوت الفنان
– ابتسم الشاب- وقال:
– أنت محظوظة يا أختاه ، ها قد جاء، وبإمكانك التحدث إليه، والاتفاق على سعر اللوحة.
ازدهرت أسارير وجهها لقدومه، وتقدمت نحوه وهي ترنو إليه بشوق وحنية، كأنها على معرفة به منذ أمد بعيد واقتربت حتى لاصقته.
– كان شاب متوسط القامة و المواصفات. يكسوه شعر خفيف ذو جبهة عريضة، حليق الوجه والشارب.يملك قدراً من الحنكة والذكاء .. لفت انتباهه إلى تصرفاتها والى أسارير وجهها، ولمح في عيونها الذابلة شيئاً – قال في سره – يبدو أنها تخفي سراً في ذاتها ، هذه التصرفات ليست إعجاب ، كما انهاليست…..(….)
وبحركة لا شعورية مدّت عنقها إلى الأمام قليلاً و وضعت يدها على صدرها ، مقدمة نفسها إليه
– شاهي ؟… أنا شاهي… أسمي الحقيقي
– آرشفين… أسمي الفني والحقيقي أيضاً. (ابتسما معاً).
– دعاني أحد الأصدقاء إلى الحفل.
– لي الشرف .
– إنها المرة الأولى التي ازور معرضاً؟
– أتمنى أن يكون قد نال اعجابك.
– جداً..! ولهذا كنت أود رؤيتك؟
– بخصوص .
– تلك اللوحة..! – و أشرت بإصبعها إلى اللوحة المقصودة .
– تقصدين لوحة (زمبيل فروش ) ما بها ؟!.
– لديّ بعض الاستفسار، لو سمحت ؟.
– تفضلي.!
تقدم الاثنان باتجاه اللوحة ، وازداد سرعة دقات قلبها ، اضطربت في خطواتها قليلاً . حاولت جاهدة أن تتمالك نفسها وهي أمام اللوحة. أردفت قائلة :
– في البدء أشكرك على هذا الفن الجميل الرائع، وعلى هذه الألوان المنسجمة مع مواضيع لوحاتك وبصراحة لديك دقة حتى في الجزئيات، وبالأخص هذه العيون التي تبحرك بعيداً بعيد ، هذه العيون الحزينة التي تكمن في قراراتها أسراراً وحكايات . والملامح التي تدلك مباشرة على كردية هذا الوجه،… الشارب .. اللون الحنطي.. سؤالي هو ، هل هذا الوجه حقيقي أم من وحي خيالك ؟.

– بدت ابتسامة الرضى على الفنان- وقال:
– شكراً لملاحظاتك، كل ما ذكرته صحيحاً،بالرغم من أن هذه زيارتك الأولى كما تقولين ولكن لديك قوة في الملاحظة ولا أبالغ أن قلت لك أن هذه اللوحة بالذات غالية جداً لدي. وسأسر لك بان هذه العيون الحزينة وهذا الوجه ليس من وحي خيالي ، بل هو وجه شاب غال اعتبره أخي وصديقي وأستاذي في الرسم وهو الخيط الذي يربطني بالوطن.
– لدى سماعها بالوطن – انتابتها الرعشة ثانية وكادت تهوى على الأرض،شعرت بدوار في رأسها . بألم وحزن عميقين اعتصرت قلبها الموجوع، احتبست البكاء في حنجرتها ،حجزت الدمع في مقلتيها فأصبحت تهذي و تتمتم:
– إحساسي كان في محله، عيناي لم يكذبانني، إذاً هو؟
– نعم يا آنسة لم افهم ؟
– لاعليك ، إنها لقصة طويلة.
– أية قصة ؟
– قصة استاذك.
انتبه إلى هذه الكلمة ، تبادر إلى ذهنه شيئاً، فبادرها قائلا: قلت لي إن اسمك شاهي ؟!
– نعم !
– يالله… يا للمصادفة… هل هذا معقول؟ كان يحكي لي في رسائله عن حبيبته والغربة. وضرب يده على جبينه، يا لغبائي ، كيف لم استطع معرفتك منذ البداية تفضلي معي إلى بار قريب من هنا لتحدثينني عنك وكيف وصلت إلى هنا؟
– حسناً..؟ سأتحدث لك ، ولكن اخبرني أنت عنه في الأول.
– تفضلي ؟
دخلا البار… جلسا صامتين… اخرج علبة الدخان . نظرت إليه وهو يشعل السيجارة وقالت بلهفة ولوعة المشتاق :
– اخبرني عنه أرجوك؟
– وماذا أخبرك ؟
– عن كل شيء،أين هو الآن؟ ما هو ظروفه؟ هل تتصل به ؟
نعم اتصل به و أراسله بشكل دائم، انه إنسان عظيم -هز برأسه – نعم عظيم وتقول الحكمة عن العظماء. أن العظيم له قلبان، قلب يتألم و قلب يتأمل.
ارتسمت على شفتيها ابتسامة صفراء حزينة وقالت :
– لا اعتقد بان يكون للأمل بقية، بالتأكيد إنه يتألم، لأنني عشت معه أحلى أيام حياتي ، كان في منتهى الرقة والأخلاق وعلى قدر من العلم والمعرفة. كان جميع أفراد عائلتي يثنون له وموافقون على ارتباطنا. باستثناء أحمق أميّ لا يفقه في الدنيا شيئاً هو ابن عم لي (خرجت من أعماقها تنهيدة قوية – واستأنفت – ) فقد وقف في طريقي وحيرني، وتعلم ما معنى الحيارفي مجتمعنا، أنها اوسخ مصطلح وعادة بالية يرفضها التمدن و الحضارة .وبعقله السقيم فرقنا عن بعضنا،وللأسف أيده العشيرة بذلك ووقفوا بجانبه ، عندما طلبوا والدي للإنصاف – وكررت كلمة الإنصاف وهزت رأسها – ذرفت دمعة على خدها . واستأنفت ثانية – اتفقوا جميعا على تزويجي من شخص ثالث ، كوني رفضت ابن عمي بشدة وهددتهم بالانتحار .وكي لا ألطخ سمعة أبي بين العشيرة، انتزعت قلبي من صدري.
– و تزوجت من الشخص الثالث ؟ / قالها الفنان بألم/
– نعم
– وأين زو…؟ – وقبل أن يكمل – ردَت قائلة :
لم نكن متفاهمين ،كان يعيرني بالماضي وكانت النتيجة الطلاق..

قد يعجبك ايضا