حوار من النار إلى النور .. مع الشاعر عصمت شاهين الدوسكي

 

 

حوار الدكتورة السورية : رويده عباس

 

الجزء الثاني والأخير

 

* فتحت أبواب الشموس

لم أرى للأبواب أسرار

أعادت لي حلما

بعد أن كان بين الحطام غبار

عمرت لي بيتا

بعد أن كان بين البيوت منهار

 

حضرة الشاعر …استشعرت الحقيقة من إحساسك المرهف قلا يحجبك عنها ستار…أعادت لك حلما بعد أن كان غبار…وبنت لك بيتا بعد أن كان منهار…كيف إحساسك يوصلك للحقيقة..ما هو الحلم الذي كنت تحلم به ولامسته..ماذا عن بيتك المنهار.؟

 

– مرت جميع التخيلات التي رواها التاريخ من السيطرة العثمانية لولاية الموصل إلى حركة الشواف والانقلابات والثورات ، حقائق شاهدتها المخيلة الإنسانية متأرجحة بين عقل راجح وذكاء وافر وبين تأثير رابح وتعد سافر وبين العالم والجاهل سواء في عدم القدرة على التميز بين الماضي والحاضر وبين غانم وخاسر ،كانت الموصل وأهل الموصل حقل تجارب للآخرين بين خراب ودمار وبنيان عامر ، ربما يقول معترض هذه سفسطة فالواقع غير هذا ،وهنا يستلزم سرد عدد كبير وعظيم من الحوادث ، لكن أقول لا يكفي لهذا العمل الإنساني عدة مجلدات وكتب وروايات ، سرد واقعة انهيار ودمار بيتي ، وهي من الأدلة الواقعية التي كنت أتخيلها سابقا واراها أحيانا في شاشة السينما البيضاء عندما كنا صغارا ومراهقين نرى أفلام الحركة وأفلام الحروب الهوليودية العالمية التي تغير وتوجه دماغ البشر لما هي تريد، بعد قصف ودمار بيتي بالخطأ مثلما صرحوا وأعلنوا خرجنا بلا وعي ونظرت إلى بيتنا وجدته دمر بالكامل لقوة الصاروخين لم يبقى سقف ولا أثاث ولا غرف ولا سيارة ولا مكتبتي كل شيء أصبح كومة ركام مجرد أحجار ، كأنك تحطم حلم كبير بنيته حجر على حجر وجملته من الشجر والزهر والورد والياسمين خرجنا من بيت جيراننا والذهول والصدمة الكبيرة على ملامح وجوهنا ،لكن من كان يؤمن بالله يصبره الله في الشدائد والمصائب الكبرى والحمد لله .فأي حلم يتراءى في ظل هذا الدمار المكاني والنفسي في ظل هذه المكابدات والمعاناة ..؟ وكل هذا دونته بتفاصيل ومشاهدات مهمة في روايتي الإرهاب ودمار الحدباء .

 

* حضرة الشاعر

فأنا وأنت نور المعاني

وإن كنت رمزا أو نار

هناك معنى فلسفي عميق لهاتين الجملتين القصيرتين… تفضل حضرتك… ؟

 

– لو سألنا ما الفرق بين النور و النار؟ نجد إن النور والنار كلاهما طاقة والطاقة إما مصدر بذاتها أو تحتاج إلى وسيلة آلية توليد لها، مثلا الشمس مصدر للطاقة الحرارية بذاتها وهى أكبر مصدر للنار على سطحها وأكبر مصدر للنور يضيء الأرض كلها فهي نار لها نور أي شعاع ضوء ينير الطريق أمام السائرين على الطرق ومصدر نار حراري تسخن سطح الكرة الأرضية وهواءها فنشعر بموجاتها … الله نور السموات والأرض ومن يحب الله ويتبع أوامره يضع الله في طريقه نورا ويكون محبوبا بين الناس ويرزقه من حيث لا يحتسب ” ويجعل لكم نورا تمشون به  28 الحديد” بلاغة الوصف والبيان لهدي القلوب ، وإحراق بلا إشراق هي النار المظلمة وما هو نار ونور مثل الشمس ونار المصابيح ، ثنائية النار والنور في قصائدي لها مدلولات ومدارات قريبة أو بعيدة من خلال إعطائها ملامح طاقاتي الشعرية وامتلاك مثيلاتها الإيحائية بحيث تهب وتستقطب ما أجسده وأثيره من عمق خفي أو إضاءات بارزة تظهر من خلالها مكنون الذات والرؤية ويؤشر النار والنور إلى ما تحمله من رموز ودلالات رمزية أسطورية تجدد العصرية رغم تراكماتها الزمنية تفرض نفسها على مجريات الأحداث الشكلية الظاهرية والوجدانية وترابطها واتصالها وعلاقتها مع الواقع لتكمل دورها الفعال والمؤثر من أعماق الزمن إلى وقتنا الحاضر رغم تشعباتها وتناقضاتها .

 

*حضرة الشاعر ..في الحادي والعشرين من شهر ٱذار يحتفل بعض الناس بعيد النوروز…

 

– تقول الأسطورة : كان في كوردستان حاكم جائر يدعى ( الضحاك ) أو ( زهاق ) ظهرت دملتان فوق كتفيه على شكل ثعابين ، فوصف له الأطباء دواءً بقتل شابين كورديين وإطعام الثعابين من مخهما أو دمهما .. وكان هناك حداد اسمه كاوه عنده سبعة أبناء ، قتل الملك ستة منهم ، وحين جاءوا لأخذ الابن الأصغر ، انتفض كاوه بمعية الشعب وقتلوا رجال الملك، ثم اقتحموا قصر الملك فهوى كاوه بمطرقته على رأس الملك الجائر وقتله وأشعل النيران على أبراج قصره إيذاناً بيوم الخلاص من ظلم الملك الجائر ..

نوروز

شعلة كاوه بلا مدار

تحدى الظلام والردى والنار

كل طاغ ومستبد

كل جاهل وقاتل وجبار

 

* عبرت حضرة الشاعر عن نوروز بشعلة كاوا الحداد…  الشعلة الوقادة بلانهاية …لتمثل الحق االعدل في  انتصار الحق على الباطل…ما رمزية هذه الشعلة … ؟

 

 

– رغم هناك أشكال لتعدد وحدة الوجود البشرية وغير متضاربة ومن الممكن أن يجتمع بعضها مع البعض الآخر لتوجهات ورؤى مختلفة هو وجود بسيط وترتبط بعلاقة إنسانية وهذه العلاقة تظهر مع الزمن لتعبر عن وجود رابط وهي الحرية الحق العدل فكاوه رمز مثلما النار رمز كجوهر ثابت للحياة السليمة مثلا طوفان حول النار يجسد عبادة النار وهو كترتيب فكري وأخلاقي يتجلى كدين أو معتقد آخر وتثبت صورة محددة لعبادة النار وإن كان الأمر كنية نفسية غير ذلك فيدخل الشك والتشكيك في هذا الرمز الذي يدل على الانتصار ، انتصار الحق على الباطل انتصار النور على النار لهذا لا يمكن تبرير الشكل ” النار – كاوه ” من حيث ديمومة الوجود وطبائعها المختلفة . فهناك بين شعوب العالم من يطوفون حول النار كعبادة أو معتقد ما ، فعندنا شعلة كاوه نور وليس نار وكاوه شكل إنساني لحقيقة الوجود الصحيح وعدم السكوت عن الظلم . وصار الاحتفال بهذا اليوم سنوياً وسمي بعيد نوروز أي يوم جديد … وهناك أساطير أخرى قد تكون قريبة من هذه الأسطورة وكلها تعطي تفسيرات مفادها ” حتمية انتصار النور على الظلام وانتصار الحق العدل على الظلم والاستبداد ” .

 

نوروز…….

ثورة أنارت حياة

وشاحها نوروز الحرية آذار

طافت بين القلوب والقمم البيضاء

حتى بانت على السفوح عيون وأنهار

 

* يا عشاق  كاوه  لا تسألوا الحداد

كيف انتصر على ( الضحاك ) المغوار ؟

لا تسألوا لما كانت شعلة

بين الأيادي  ثأر وإصرار  ؟

كيف هوت على الظالم

وكيف أصبح عشاق الحرية  ثوار؟

 

حضرة الشاعر ..ماذا يجب أن يعي عشاق كاوه  …؟

– الوعي مهم جدا فالتقاليد الشكلية قد تنقلب ترتيبا سنويا إلى شكل بعيد عن الجوهر الرئيسي أي حينما نقدم تنازلات شكلية ونتهاون في وجود الشكل الرمزي قد تنقلب إلى عبادة النار دون وعي منا مثلما يحصل في عبادة النار في الهند أو في أماكن أخرى ، هذا التفسير من الآخر بطبيعته يأخذ رؤية مغايرة وقد تقوم هذه الرؤية على معتقدات ثلاثة أولها فهم الرمز بوعي متقد بالحياة والثاني تصور حقيقي بعدم المغالاة في التقليد والثالث سريان النور في شكل الشعلة يمثل إضافة  للحياة واقرب مثال الشمس وترتيبها النوري ابتداء من مرورها كشعاع إلى القمر ثم إلى الأرض وانعكاساتها حسب القوة والضعف  مما يظهر إن النور واحد إلا أن مراتبه مختلفة بين الشدة والضعف هكذا حقيقة النور هي ما يعرض لها من تصورات وتعدد الرؤى .

 

* نوروز….

فرحة العيد بيوم جديد

تكون أنت العيد واليوم الجديد كل نهار

ما اروع هذا التعبير …. ما دلالة هذا العيد ..وما يجب على الناس في هذا اليوم… ؟

– نوروز أول أيام الربيع وهذا يدل على الفرحة والسرور وهذا الأمل يشرق بحال جديد وعلى البشر أن لا يتعدى هذا الحد التفاؤلي بمنهج الرؤية السليمة للحياة وحينما يكون الإنسان ذو صحة وعافية وأمان وسلام راضيا بما هو فيه تعتبر أيامه كلها عيد ، والعيد الحقيقي للإنسان أن يكون هو عيدا بين الناس نورا جديدا له وللآخرين .

 

* هل أعطى الأدباء الكورد مفهوم نوروز في صورته الجلية وعمقه الإنساني ..؟

 

– لكل أديب وكاتب وجهة نظر وتحليل يرتكز على تجربته الأدبية ورؤيته الشمولية أو المحدودة والكثير كتب عن نوروز وأصبحت بعض الكتابات نبراسا للكورد خاصة والعالم الإنساني عامة .

 

 

 

الخاتمة….

أجد نفسي أمام فيلسوف يتحدث عن ثنائية النار والنور…يمكن بالتعمق  تحليل رؤيتك…واستيضاح ما وراء  السطور…بروح شاعر الفيلسوف تعبر عن شعورك ومعانيك التي تحملها المقاطع الشعرية…

حضرة الشاعر…أرى أن شعرك نورا للأرواح المتعبة، ومهما  كتبت هنا أتتبع مداد قرطاسك لكنني اعجز عن وصف الأثر ويزداد البعد، رغم ذلك اسمع وقع كلماتك الآن على أوراق شجرة الحياة، شامخة خضراء مزهرة بألوان قوس قزح تحت الأنوار الأبدية…تحيط بالفكرة وكأنها عالم أمام عينيك دون سواك….لا يراه احد سواك…

حضرة الشاعر….النور الذي تعكسه روحك… يحمل معنى شعلة نوروز…فترى الأمل بانهيار الظلام وبزوغ الفجر ……………تعلم حضرتك.. ورغم أنني أكتب الخاتمة …لا أرغب بإنهاء الحوار… لكن لضرورة المقالة وضيق الوقت المتاح هنا حضرني التساؤلين التاليين إذا سمحت:

أولا: تعليق من حضرتك على النور الذي يجب أن تشعه الأنفس …وعن شعلة النار التي يجب إضرامها ليل نهار في خضم جسد المجتمع المتهالك إلى الفناء….سواء بالعراق أو غيرها من الدول على مستوى العالم….

ثانياً: ما يلوح في البعد ما تحب أن تقوله في نور الله الذي يبعد الإنسان عن المعاصي…وعن الظلمة…وينمو به حب الخير والجمال والعطاء …؟

 

– بالنسبة للسؤال الأول ..؟

علينا أن نفهم مفهوم ومعنى النور ومن أين يأتي النور من الرؤية والإحساس بها والفرق بين النار والنور كمصدر وطاقة وتسخيرها للحياة والإيمان بها والإحسان والطريق المستقيم ممن علم أنهم يرغبون في النور والهداية و يسعون إليها رغم كل طريق صعب فهي تكون مأمن لهم في المجتمع والحياة، مرت على العراق وبعض الدول العربية كسورية واليمن وليبيا ومازالت في فلسطين الكثير من الكوارث والأزمات المخطط لها مسبقا والضحية الوحيدة المجتمع من الشيوخ والأطفال والنساء والرجال إضافة إلى دمار البنية الأساسية وتفعيل حالة الهجرة والتشريد  واللجوء والنزوح والفقر والحرمان  وإعطاء وإعلان صورة مشوهة عن الأصالة الإنسانية والعربية بما يرتبط بها من دين وسلام وأمان  وفي ظل كل هذا نحتاج إلى نور إنساني يشع في المجتمع ويجدد الحياة .

– أما السؤال الثاني ..؟

النور يتجلى في التصرفات والأقوال والأفعال…الذي يجعل كل منا قمرا مضاء بنور الله … ونزل الله سورة النور في القرآن الكريم لما لها من الأهمية والإرشاد والتوجيه إذ تشكل أهمية كبيرة في حياة كل إنسان إذ تتضمن العديد من الدروس والقيم الأخلاقية والإنسانية وتأثير تطبيقها في بناء مجتمع أركانه الحق والعدل ومتوازن في وجوده .

قال الله تعالى في كتابه الكريم: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَ لَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَ لَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَ اللَّهُ [النور: 35} ] بِكُلِّ ٌ شَيْءٍ عَلِيم

 

* حضرة الشاعر…أشكركم في نهاية هذا الحوار على إتاحة الفرصة لي لإجراء هذا الحوار واعتبر أنني أتحدث مع فيلسوف، كما أشكر وقتكم، كل التألق والإبداع حضرة الشاعر، أشكر كل القراء والباحثين عن الكلمة الطيبة،وليبق النور يشع من أرواحنا وعقولنا وقلوبنا دعونا نشرق .

 

– وأنا أشكرك على هذا البوح النفسي والفكري وارجو أن يكون مفهوم النار والنور وشكل نوروز في صورته السليمة التي ترتقي بالإنسان نحو العطاء والتقدم والارتقاء الروحي ليس في المنطقة العربية فقط بل العالم كله .

 

 

قد يعجبك ايضا