هل ضمرت روعة الصحيفة الورقية؟

 

كرم نعمة

عندما يتعلق الأمر بالأزمة الوجودية التي تعاني منها الصحافة المطبوعة، فهناك المزيد من الأخبار السيئة لسوء طالع الصحافيين. لكن المخلص منهم للجوهر الحقيقي للصحافة فإن كل تلك الأخبار لا تهز الثقة التي وجدت من أجلها الصحيفة اليومية: منع تغول الحكومات وفساد أقل وديمقراطية حرة من الأفكار وتبادل المعلومات، كلها تحول دون تسيّد أخبار وكالات الأنباء الحكومية وصحافة تلهج بأخبار الزعماء ونشاطاتهم الدعائية .

آخر الأخبار السيئة تحول صحيفة “إيفنينغ ستاندارد” المسائية اليومية المجانية وبعد مئتي عام من انطلاقتها إلى صحيفة أسبوعية. وهو أحد أقسى الأخبار على ما تبقى من القراء الأوفياء للصحيفة الورقية اليومية .

إغلاق صحيفة “إيفنينغ ستاندارد” يعني أنه للمرة الأولى منذ قرون، لن يكون لدى سكان لندن صحيفة مسائية يومية ذات اهتمام عام. في حقيقة الأمر، لا تنافس هذه الصحيفة التي يملكها رجل الأعمال الروسي ألكسندر ليبديف، غير جودتها “لا أدافع هنا عن نوعية خطابها”، فقبل جائحة كورونا كانت هذه الصحيفة توزع أكثر من 600 ألف نسخة كل مساء في مدينة لندن وحدها. وتظهر أحدث الأرقام أن هذا العدد يبلغ اليوم 275 ألفا بعد أن ارتفعت تكلفة الورق بشكل كبير في السنوات الأخيرة. وهنا علينا أن نعمل مقارنة مع توزيع أشهر الصحف العربية في بلدان يصل عدد سكانها إلى أكثر من 50 مليون نسمة، لنكتشف أهمية الصحيفة اليومية عندما ترفع التعريف التاريخي للخبر الذي دونه اللورد نورثكليف مؤسس صحيفة “ديلي ميل” قبل قرن تقريبا، حين اعتبر أن الأخبار معلومات يريد أحدهم منع الناس من معرفتها، وما تبقى هو مجرد إعلانات .

هذا التعريف ينطبق على الصحف التي تنتهي إلى مجرد أوراق تذروها رياح الإهمال والصحف التي تعيش اليوم زمنا غير عادل بحقها إلى أن تكسرها أموال الحكومات!

لقد عانت الصحف عندما أصبحت الهواتف هي القاعدة، ولكن الضرر الحقيقي حدث عندما انخرط الممولون الأثرياء في منافسة عبثية بذريعة دعم الصحف .

في عام 2017 عندما خرج وزير الخزانة البريطاني جورج أوزبورن من الحكومة استعاد السياسي المثير للجدل الصحافي الكامن في نفسه، ورحب بالعرض المثير الذي قدم له ليكون رئيس تحرير صحيفة “إيفنينغ ستاندارد” وهو أمر يدعو للمقارنة الواقعية مع السياسيين العرب عندما يتقاعدون ماذا يفعلون؟

ومنذ أن تحولت “إيفنينغ ستاندرد”، التي تأسست عام 1827، إلى صحيفة مجانية عام 2012، فإنها أعادت تقديم محتواها بطريقة تسرق القراء من هواتفهم الذكية، يجدها المسافرون في القطارات والمارة في شوارع لندن والضواحي، يحملها الموزعون ويعرضون على الناس جريدة من دون مقابل تقدم لهم فكرة عن أحداث اليوم منذ الصباح .

 

غمرت السعادة رئيس الوزراء البريطاني آنذاك ديفيد كاميرون، عندما شبه توزيع الصحيفة بالتأمين الصحي المجاني المحبوب، بينما وصف الكاتب الراحل ف أس نايبول الحائز على جائزة نوبل الأمر بأنه أشبه بتحديق في فضاء حر، أما الشاعر أندرو موشن الذي اختصر فضاء لندن في الأرواح والأفكار الحرة، والمتاحف والمكتبات والحدائق المجانية، وأصبحت الجريدة مجانية أمامه، فقد عبر عن موقفه بالقول “يا للروعة! ”

قد يعجبك ايضا