اغتراب على نهر الشاخة

 

جاسم محمد شامار

لم يتبقَ لديه من مذخراته التي حملها معه من مدينته مندلي الحدودية بعد الرحيل مع الحرب سوى بضعة دنانير يحتفظ بها في كيس من القماش. لقد نفذ ما عنده في الاشهر الماضية. الدنانير الباقية كانت تحمل ذكريات موسم المشمش باكورة انتاج بستانه في مندلي بعد سبات الشتاء.

لم يتسنَ له قصاص التمر اوجني الرمان بعد الرحيل في تلك الليلة المشؤومة من تشرين موسم نضج التمر والرمان.

كان قد أفنى عمره في البستان ليس لأجل جمع المال بل لان العمل في البستان كان عنوان حياته اليومية ومتعته الوحيدة في الحياة.

بدأت اصابع يديه ترتجف وهو يعد النقود وكأنه يشم منها رائحة بستانه في أجمل مواسمه، كم كان يملك من حماس ونشاط واستبشار صار يفتقدها الان .كم كانت تنبعث في نفسه البهجة عند السير في الممرات بين الاشجار. وتأمل ألوان ثمار المشمش الزاهية اول النضج كل صباح. او سماع اصوات البلابل وشم اريج النباتات اورائحة (البطنج) على حافة النهر امام البستان.

كان يشم رائحة ثمار المشمش الناضجة، المتساقطة ليلا ممزوجا مع عطر اوراق السوس في البواكي تحت الاشجار ما ان يدخل البستان.

تلك الصور الجميلة كانت حاضرة في ذهنه وهو يحمل كيس النقود حاصل ما باع من ثمار المشمش في الموسم الماضي. لم يكن هو قد زرع تلك الاشجار بل توارثها عن ابيه وابيه عن جده..

في مدخل البستان كانت شجرة مشمش عالية تبكر بالنضج يهدي ثمارها للأقارب والاصدقاء والجيران. ثمار بقية الاشجار يذهب بها لصديقه صاحب محل بقالة   السوق لتباع..

بعد ان عد النقود وضعها في جيبه وخرج من البيت، انها نهاية الشهر عليه ان يدفع ايجار غرفتي الطين اللتين استأجرهما لعائلته بعد الرحيل عن مندلي ويسكن فيهما الآن.

في طريق العودة من المقهى المكان المعتاد للقاء صاحب الدار ودفع الايجار كان عليه ان يعبر نهر الشاخة وسط مدينة بلدروز، المدينة التي التجأ اليها مع ابناء مدينته.

تأمل ابناء مدينته مندلي يفترشون رصيف المحطة ببضاعتهم يصارعون من اجل رغيف الخبز بين نظرهم للمارة عسى ان يشتري أحدهم وبين نظرهم بحسرة للطريق الى مندلي.

كان على الجسر صاحب محل البقالة الذي باع له المشمش في سوق مندلي الكبير للمواسم الماضية، هو الاخر يفترش الرصيف الان.. جلس بجانبه متكئا على السياج الحديدي للجسر، كان احدهما ينظر الى الاخر بصمت نظرة شفقة ورثاء، صاحب البستان نفذ ما عنده من نقود وصاحب محل البقالة عاطل ليس لديه دكان يجلس فيه او بضاعة للبيع ..

لقد تقدما بالعمر ولم يعد باستطاعتهم ايجاد عمل اخر غير الذي كان يعملانه في مندلي. مع تأمل فوضى السوق ومنظر العربات العسكرية على الطريق الى مندلي كان على الطرف الاخر من الجسر مكان لبيع الطيور والبيض.

احد الرجال كان جالسا وامامه اقفاص فيها بلابل للبيع، كانا ينصتان لكلامه وهو يعرض البلابل: (چور، ديوار، بوير، خدرشل..) واسماء اخرى كانت لبساتين في مندلي يصف بها البلابل.

سماع تلك الاسماء جعلهما يشعران بحنين موجع مع نظرة شفقة للبلابل وهي في الاقفاص. كانت البلابل صامتة في الاقفاص لا تغرد كما كانت تفعل في بساتين مندلي وهي تنتقل بين اغصان الاشجار.

كما البلابل جلسا صامتَين يكتمان الحزن والالم، لم يجدا لغة تستطيع كلماتها ان تعبر عن ما يحملان. مزيج من الحزن والحسرة والشوق والحنين او الذهول وانتظار المجهول.

كانت الحياة لا طعم لها ليس الشعور بغربة المكان كان الطاغي بل غربة الانتماء، وعدم امتلاك شيء في هذا المكان.

  • سمعت ان الحكومة ستبني لنا دور هنا.
  • سنصبح مثل البلابل في الاقفاص!!

قالها بمرارة، ودع صاحبه ورجع الى البيت كسابق عهده يخبأ همه عن عائلته ويوعدهم بنهاية الحرب والعودة للديار. كما اشجار المشمش في بساتين مندلي كانت تخبأ حنينها للربيع في الجذور تحت التراب كل شتاء، لتورق وتزهر وتثمر اغصانها في ربيع كل عام…

 

قد يعجبك ايضا