العام یقید الخاص أم الخاص یقید العام؟

غیاث الدین نقشبندي

ألفان وأربعمائة وستة عشر عاما قبل الآن، أي ٣٩٩ سنة قبل المیلاد، أجترع سقراط السم في سبیل الحق والعدالة، فکان بذلك أول شهید للفلسفة، کانت تهمته هي تحریض شباب أثینا ضد آلهتهم و التآمر علي نظام الحکم، ولقد تشکلت محکمة عشوائیة مٶلفة من ٥٦٥ قاضیا تم أختیارهم عشوائیا ومن عامة الناس بمهن مختلفة، صرح سقراط في لائحة الدفاع بأنه لم یخطیء وأنه فقط یقوم بتنویر عقول الناس، ولو أنهم أفرجوا عنه لعاد لذلك العمل ثانیة، لکن المحکمة أمرت بالأجماع بقتلە ومنحوه أختیار طریقة الأعدام، فأختار الموت بشرب السم. کان سقراط صوت الحق الذي کان ضد الدیموقراطیة علی أنها تجلب الأغبیاء الی الحکم فرأی أن رأي الأغلبیة لیس دائما هو الرأي الصائب ویجب أن یکون الفلاسفة هم الحکام الفعلیین.

قام سقراط بإجتراع السم دون تردد بعدما سأل السجان: أي طریقة تجعل مفعول السم أسرع؟
فقال له السجان وهو یمسح دموعه، علیك أن تشرب السم دفعة واحدة وأن تتمشی علی قدمیك حتی یقوم السم بعمله وتشعر بثقل في أطرافك وبعدها تتمدد وسینتهی کل شیء، جاء هذا في کتابات طالبه المخلص أفلاطون التي کتبها بعد موته في کتابة مٶثرة ضل التاریخ یرددها الی یومنا هذا، هو من دافع عن حقوق الناس وهم من أعدموه، لقد أختار الموت بعد أن سنحت له فرصة الهروب من السجن، لکنه رفض ذلك وأختار الموت بین طلابه وسط هتافات الجمهور التي کانت تطالب بأعدامه.

تعتبر کلمة الحق في قوامیسنا کلمة غیر مشروحة بما یکفي لفهمها فکلمة الحق یتم ترجمتها بالعربیة الی مفهومین مختلفین أثارت الکثیر من المشاکل السیمانطیقیة والفقهیة فهي بالمفهوم الأول تعني العدالة Justice والمعنی الثاني لنفس الکلمة، هو الحق الشخصي Right .

بین کلمة الحق، کحق شخصي والحق کعدالة خلط للمفاهیم ، حیث أنه لیس من الضرورة أن یکون حق الفرد أو الحق الشخصي هو العدالة، وهذا ماجعل الناس یعتقدون بأن متطلباتهم الشخصیة هي العدالة بعینها وإن کانت عکس مطالبهم أو مصالحهم فهي لیست بالعدالة حتی لو کانت حقا.

لقد أدی هذا الخلط الی ضیاع مفهوم العدالة وتشابکە مع المصالح الشخصیة للأفراد مما صعب مهمة القضاء ومهمة السلطات في تنفیذ قراراتها وکذلك المحافظة على کل هذه المصالح وعدم تقاطعها.

في القوانین المحلیة لمعظم دول العالم بضمـنها العراق هناک مبدأ قانوني (الخاص یقید العام) وتعني بأن القوانین الخاصة تقتد القوانین العامة، مثلا یمنع حمل السلاح، کقانون عام ویأتی قانون خاص بعدها إلا لأفراد الشرطة. یعتبر هذا المفهوم معروفا لدى فقهاء القانون بصورة لالبس فیها، ألا أن المشکلة تکمن في عکسیة المفهوم في نظریة العقد الأجتماعي العکس صحیح لأن (العام یقید الخاص) ولیس العکس، المصالح العامة تقید الحریات والمصالح الشخصیة وذلک للسیطرة علی جشع الأفراد ومنعهم من التجاوز علی حقوق الأفراد الأضعف منهم في عملیة أداریة تعتبر من المهمات الرئیسیة لأي حکومة وذلك لکي یستطیع الأفراد التعایش فیما بینهم في مکان واحد.

هناک أمثلة حیة یمکن تشخیصها في الحیاة الیومیة حیث أن العام أصبح مباحا في غیاب العدالة وفرضها، حیث یقوم بالتجاوز علیها کل من أستطاع ذلک بمنصب أو نفوذ، حینها یتحلل النسیج العام للمجتمع ویشعر الأفراد بغبن في حقوقهم وتبدأ عملیة الأنسلاخ عن المجتمع الذي کان سببا في الظلم الذي یلحق بهم نتیجة عدم التکافٶ في توزیع العدالة وتوزیع الظلم، حینها یبدأ الفرد بالشعور بعدم الأنتماء وبالتالي بالأغتراب کحل وحید لعدم عدالة السلطة.

في کتاب هیغل ‘عناصر فلسفة الحق’ Element Of Philosophy of Right المطبوع عام ١٨٢٠ یشیر هیغل الی تحلل المجتمع الألماني، وبعدها ظاهریات الروح یطرح هیگل شرحه لکلمة الحق وأنه لایعني بالحق المفهوم البسیط للرومان، لکنه یعني الأرادة الحرة وهو تعریف للحق کحق یبدأ کحق ذاتي، ومن ثم الی حق موضوعي حین یعي الأنسان بصورة کاملة حقوقه ومن ثم یبدأ بالدفاع عن الحقوق العامة للآخرین. وهذا یعني بأن تکون کاملا من ناحیة المتطلبات ونیل کافة الحقوق وبعدها تناضل من أجل حقوق الآخرین، هذه هي المسحة الأنسانیة التي یفتقر الیها الشرق عموما.

بمعنی آخر تتحقق الأنسانیة حین یحقق الأنسان کافة متطلباتە بعدها یطالب بحقوق الآخرین التي لیست بالنسبة له حقوقا شخصیة، حینها تتحقق الأنسانیة الحقیقیة، فتخرج للتظاهر شبعا في سبیل الذین لا طعام لهم، ویطالب بحریات المسجونین حین یکون طلیقا، ویطالب بحقوق المنکوبین وهو یملك دارا وعملا یدر علیه دخلا یعتاش علیه، تلك هي الأنسانیة الحقیقیة والتي تفرق بیننا وبین الحیوانات التي لا تتظاهر أو تعترض علی أیذاء حیوان آخر، تعترض ویکون لها ردود أفعال فقط حین یکون الأذی مباشرا ولن تتأسس المجتمعات أطلاقا بدون هذا الحس الأنساني الفذ بل ستبقی قطعان یسوقها الجلادون الی المسلخ واحدا تلو الآخر ولا تنطبق علیهم صفات المجتماعات البشریة أطلاقا.

قد يعجبك ايضا