الجزء الثاني
د. سحر عبد الحليم البرجيني
خبير اقتصادى ومدرس فى الجامعة البريطانية فى مصر
امتداد التوتر ليشمل قطاع التكنولوجيا
يمتد التهديد بالانفصال بين الولايات المتحدة والصين ليشمل صناعة التكنولوجيا والتعاون بين البلدين في هذا المجال. وتعمل الولايات المتحدة إلى حد كبير على منع الصين من إقامة روابط تجارية غير مباشرة مع شركات التكنولوجيا المتقدمة الأمريكية. كذلك فقد انضم الاتحاد الأوروبي إلى الولايات المتحدة في يناير 2023 لمنع بيع التكنولوجيا للصين التي من شأنها السماح لها بإنتاج رقائق أشباه الموصلات المتقدمة.
وتجدر الإشارة إلى أن الولايات المتحدة تشنُّ حملة على شركات التكنولوجيا الصينية، حيث وضعت الحكومة الأمريكية أكثر من 1000 شركة صينية على قائمة الحظر بهدف خنق صناعة التكنولوجيا الصينية. وتقع هذه الشركات المدرجة في القائمة السوداء بشكل رئيسي في آسيا وأوروبا. وتعتقد الولايات المتحدة أن الصين قد تقيم علاقات فعلية مع الولايات المتحدة من خلال طرف ثالث مثل المملكة المتحدة. بالإضافة إلى ذلك، فإن بعض دول البريكس، بما في ذلك جنوب أفريقيا والبرازيل، تعد موطناً لبعض الكيانات المدرجة في القائمة السوداء التي تسيطر عليها الصين، وهناك جدل حول ما إذا كانت هذه الدول قادرة على الحفاظ على موقفها الحيادي تجاه المنافسة الصينية الأمريكية.
وتعدُّ المدن الكبرى – مثل بكين وشنتشن وشانغهاي – مراكز رئيسية لصناعة التكنولوجيا في الصين، وبالتالي فهي محور غالبية العقوبات الأمريكية ضد قطاع التكنولوجيا في الصين. وتهدف الولايات المتحدة من محاولة “الفصل” التكنولوجي الحد من اعتمادها على الصين في المجالات التي قد تثير مخاطر الأمن القومي، وحماية التقنيات الحيوية من نقلها من الولايات المتحدة إلى الصين. وتمتد المنافسة التكنولوجية بينهما بشكل رئيسي لتشمل قطاعات مثل الجيل الخامس والذكاء الاصطناعي وأشباه الموصلات المتقدمة.
وقد صرح مستشار الأمن القومي الأمريكي جيك سوليفان أن استراتيجية الولايات المتحدة تقوم على الحفاظ -بقدر الإمكان- على دور الريادة في التقنيات الحيوية ضد منافسيها. وقد توسعت ضوابط التصدير الأمريكية بشكل كبير خلال إدارة بايدن. ففي عهد الرئيس السابق ترامب، كانت القيود الأبرز على اثنين من شركات الاتصالات ZTE وHuawei مرتبطة في البداية بمبيعاتها إلى إيران، حيث تحتوي على تكنولوجيا أمريكية مدمجة. تلا ذلك في عهد بايدن إضافة مجموعة من الشركات الصينية في الحوسبة الفائقة، تكنولوجيا المراقبة، الفضاء الجوي، الطائرات بدون طيار، والقطاعات الأخرى إلى قائمة العقوبات باعتبارها شركات معنية بالصناعات العسكرية. وكان الهدف هو تجنب إمداد التكنولوجيا الأمريكية المتقدمة لشركات صينية قد تكون مرتبطة بالإمدادات العسكرية للصين (على سبيل المثال في شينجيانغ).
وفي أكتوبر 2022، اتسع نظام عقوبات الولايات المتحدة ليشمل إعلان حظر على صادراتها من التكنولوجيا المتقدمة مثل أشباه الموصلات (بما في ذلك الرقائق والمعدات والبرامج ذات الصلة) إلى الصين – ويرجع ذلك جزئياً إلى سياسة الصين المعلنة المتمثلة في “الاندماج المدني العسكري”. وقد ألمح صناع السياسات الأمريكية إلى إمكانية فرض ضوابط على الصناعات الإستراتيجية الأخرى – مثل التكنولوجيا الحيوية / التصنيع الحيوي، غير أنه يتوقع أن يكون أثر العقوبات على أشباه الموصلات هو الأكبر على الاقتصاد الصيني.
ومن جانب آخر، ترى الحكومة الصينية أن الهدف الحقيقي للحكومة الأمريكية هو خنق نمو الصين، وأن للحرب التجارية آثاراً سلبية على العالم. وتلقي الحكومة الصينية باللوم على الحكومة الأمريكية للبدء في هذا الصراع وجعل المفاوضات معقدة. وقد فرضت الصين أيضاً عدداً من القيود شملت الشركات الاستشارية الأمريكية وضوابط على تصدير المعادن الحيوية المستخدمة في تصنيع رقائق الكمبيوتر. وفي فبراير 2023، وسعت الصين من قائمة حظر الشركات الأمريكية لديها لتشمل Raytheon and Lockheed Martin وهما من أكبر الشركات على مستوى العالم في مجال الفضاء و الدفاع.
وسوف يستمر التنافس بين الولايات المتحدة والصين في تشكيل صورة الجغرافيا الاقتصادية العالمية في المستقبل، حيث تعد التكنولوجيا هي المحرك والداعم الرئيسي للقوى العظمى. وقد صرح رئيس لجنة الأمن القومي للذكاء الاصطناعي في الولايات المتحدة بأنها ليست مستعدة للدفاع أو التنافس في عصر الذكاء الاصطناعي، على الرغم من هيمنتها التكنولوجية لفترة طويلة مما دفع قادتها إلى اعتبارها أمراً مفروغاً منه. ولكن برزت قوة الصين التكنولوجية بسرعة مذهلة كقوة عظمى ثانية. ويساهم قطاع التكنولوجيا في الصين بفوائد كثيرة للشركات والجامعات والمواطنين الأمريكيين، حيث يوفر العمالة الماهرة والإيرادات اللازمة لدعم البحث والتطوير في الولايات المتحدة، غير أن تقدم الصين التكنولوجي ينعكس على قوتها العسكرية. وتصاعدت أصوات تنادي بانفصال الولايات المتحدة عن الصين تكنولوجياً، ولكن بدرجة محددة بحيث لا تضر بمصالح الولايات المتحدة. وقد أثار ذلك جدلاً حول درجة الانفصال التكنولوجي، ونوع التكنولوجيا التي يمكن الانفصال عنها.
المزيد من الإجراءات لكسر الهيمنة الأمريكية
1- محاولة التخلي عن الدولار
تزايد الاتجاه نحو التخلي عن الدولار كاحتياطي دولي فرض هيمنته على الأسواق العالمية منذ عقود، وضعفت الثقة في الدولار خاصة عقب ارتفاع الديون الأمريكية إلى مستويات قياسية. ويظهر ذلك من خلال عدة إجراءات ودعوات. ففي أفريقيا، اقترح الرئيس الكيني ويليام روتو في يونيو 2023 أن تعتمد الدول الأفريقية على العملات المحلية وليس الدولار في تعاملاتها التجارية، خاصة وأن بنك التصدير والاستيراد الأفريقي يوفر آلية للتجارة في القارة باستخدام العملات المحلية. كذلك فإن دول البريكس تهدف إلى إعادة التوازن للنظام العالمي من خلال إلغاء الدولار والاعتماد على العملات المحلية في التعاملات البينية مثل الاتفاق التجاري بين الصين والبرازيل باستخدام عملتيهما. كما أبرمت الصين اتفاقيات تجارية مع روسيا وباكستان والمملكة العربية السعودية بدون استخدام الدولار. كذلك فإن دول البريكس تسعى إلى إنشاء عملة موحدة داخل المجموعة.
وقد نتج عن استخدام الولايات المتحدة الدولار سلاحاً في سياساتها الخارجية إلى حذر العديد من الدول من اعتمادها المفرط على الدولار. وليس أدل على ذلك مما حدث بفرض عقوبات على روسيا بعد غزوها أوكرانيا.
ويتفق الخبراء والاقتصاديون على عدم وجود بديل آمن للدولار، لذلك لا يتوقعون اقتراب نهاية هيمنة الدولار. وبالرغم من ذلك، فإن الاعتماد التدريجي على وسيلة تبادل غير الدولار، ومحاولة الاستغناء عنه، سوف يؤدي إلى انخفاض قيمة الدولار تدريجياً.
2- مجموعة البريكس
جاءت مجموعة البريكس لترسل إشارة قوية بأن نظام ما بعد الحرب العالمية الثانية يجب أن يتقبل الواقع المتعدد الأقطاب وأن يتغير مع مرور الوقت. وليس أدل على أهمية المكانة التي وصل إليها تجمع البريكس، من طلبات الانضمام المتزايدة إلى المجموعة. ومن أبرز ما تم الاتفاق عليه في القمة الخامسة عشرة هو قبول ستة دول أعضاء جديدة: الأرجنتين، مصر، إثيوبيا، إيران، المملكة العربية السعودية، الإمارات العربية المتحدة، للانضمام رسمياً إلى المجموعة في يناير 2024. إن ميل الغرب إلى فرض عقوبات مالية أحادية، وإساءة استخدام آليات الدفع الدولية، والتراجع عن التزامات تمويل المناخ، وإعطاء القليل من الاهتمام للأمن الغذائي والضرورات الصحية لدول جنوب العالم خلال وباء كورونا، ليست سوى بعض العناصر المسئولة عن خيبة الأمل المتزايدة تجاه العالم والنظام الدولي السائد.
من المتوقع، أن يساهم توسع مجموعة البريكس إلى صيغة “البريكس +” واعتماد عدد من المبادئ التوجيهية والمعايير والإجراءات في جعل البريكس مؤسسة أكثر جاذبية لبناء التوافق والحوار في العالم النامي.
وهناك جانب مهم آخر يتمثل في كيفية استفادة هؤلاء الشركاء من أنظمة التعاون الجديدة التي تحاول مجموعة البريكس إنشاءها. قد تكون الضجة حول عملة مشتركة لمجموعة البريكس غير عملية وسابقة لأوانها، ولكن التداول بالعملات الوطنية أصبح حقيقة واقعة. وتعد صفقة النفط الأخيرة بالروبية بين الهند والإمارات العربية المتحدة إشارة إلى أن مصدري السلع الأساسية ومستورديها الرئيسيين في العالم قادرون على محاولة تقليل اعتمادهم على الدولار والذي استمر منذ عام 1973. إن لم يكن نظاماً عالمياً جديداً، فمن المؤكد أن توسع مجموعة البريكس هو محاولة لإقامة نظام عالمي بديل، نظام يعطي قدراً أكبر من الاهتمام إلى الأغلبية النامية مقابل الدول المتقدمة.
وبعد، فإن تاريخ السياسة الدولية والقوى المهيمنة على المجتمع الدولي يؤكد على أن التحولات الكبرى لا تحدث بشكل مفاجىء، لكنها تخضع لقوانين التطوُّر من خلال تغيرات متعددة تتراكم لتُحدث في نهاية الأمر تغيراً كيفياً. فعلى إثر انهيار الاتحاد السوفيتي، أعلنت الولايات المتحدة عن نظام عالمي جديد تهيّمن عليه بسياسة أحادية القطب، معتمدة على بروز قوتها الشاملة والمتمثلة في قوتها العسكرية والاقتصادية والثقافية. غير أنه لا يمكننا أن نغفل أيضاً بروز الصين كمركز للنمو الاقتصادي العالمي وظهور الاتحاد الأوروبي كقوة اقتصادية كبرى متكاملة. ومازال النظام العالمي الجديد في طور التكوين، حيث لم تتحدد صورته النهائية بعد. فهناك من يتوقع استمرار القطبية الأحادية في النظام العالمي، وآخرون يتوقعون أن يصبح متعدد الأقطاب حيث لا تستطيع دولة مهما توفرت إمكاناتها أن تهيمن منفردة على النظام العالمي. ويبقى السؤال الذي سوف تُجيب عنه السنوات القادمة: هل تشير محاولات الانفصال المتزايدة بين الصين والولايات المتحدة التي ذُكرت سالفاً إلى قرب بروز الصين كقوة كبرى في النظام العالمي الجديد؟، وهل تُواجه الولايات المتحدة هذا التهديد بالمزيد من محاولات الانفصال؟