الشاعر صلاح فائق الباحث عن شعاع الشمس

 

 

 

كل صباح أهرعُ الى الشرفة

رغم قلة نومي، لأرحّبَ بالشمس

أجدها دائماً سبقتني الى هناك

جمالها شاسعٌ، حدّ اني أنسى كلماتٍ تليقُ بها

تعرف ذلك، يبهجها انحنائي لها بساقينِ معوجتين ، وبظهرٍ يتألم

 

حاوره : د. توفيق رفيق التونچي

 

الشاعر صلاح فائق  احد  فرسان  الشعر لجماعة كركوك الأدبية* يتحفنا دوما بإشعار يعيد الأمل الى الكلمة الشعرية في زمن الماديات البعيد عن الشاعرية والخيال. كلمات تأخذ بالباب القارئ ليبحر معها في عالم  خيالي ودون أي حدود.  يتجدد عن طريقها الأماكن الهشة في ذاكرتنا البشرية. تلك الأشعار يوقظ في النفس الإنسانية الشعور بوجود عالم اخر وراء عالمنا المرئي هذا. هاتفني قبل ايام لنتحدث عن صحتنا التي تتدهور يوما بعد اخر وتحثنا عن ملاعب الطفولة والشباب في كركوك و درنا في أزقتها نعيد ماضي زاد على النصف قرن. تذكرنا أصدقائنا اللذين غادروا وأخرهم كان الشاعر المجدد نصرت مردان الذي فارق الحياة في منفاه في سويسرا. التقيت به اليوم لمرة اخرى، قارئي الكريم كي انقل اليكم أجوبته  على تساؤلات حول الشعر و الشعراء وتوثيق عصر يمكن ان يسمى بعصر الشعراء.

التاريخ قارئي الكريم صفحات كتبت و تكتب كل يوم مخلدا جزء من الزمن ومن حياة الإنسان الحديث. أنها وثيقة العصر. قبل اكثر من خمسين عاما كنا معا  في نفس المدرسة، المتوسطة الغربية وتعلمنا على يد نفس الأساتذة ولعبنا ولهونا في ساحاتها واليوم نتذكر معا تلك الأيام وبعض من أصدقائنا كالمرحوم الشاعر سرگون بولص و جان دمو . ومن مدرسينا لان النسيان أتى على الكثير والعديد من الأسماء ولنتذكر مدرسا من نوع خاص شاعر العراق المعروف عبد الرزاق عبد الواحد مدرس اللغة العربية رغم اختلافنا معهم لاحقا ولنتذكر ونتذكر لنصل الى مجموعة من الشباب، جماعة كركوك الأدبية، التقوا حول الكلمة الطيبة في فترة تاريخية مرت بها دولة العراق مع تأسيسها كمملكة تحت الانتداب البريطاني عام 1922مع نهايات الحرب العالمية الاولى وانهيار الدولة العثمانية وتجزئتها واحتلال القوات الإنكليزية للعراق ومن ثم اعلان الدولة العراقية الملكية وصولا الى يوم الرابع عشر من تموز من عام ١٩٥٨ وإعلان الجمهورية وبدا عصر الانقلابات العسكرية. تلك الفترة التاريخية كانت حبلى بالأفكار وصراعاتها من أقصى اليمين الى أقصى اليسار.

*الشاعر صلاح فائق من مؤسسي الحركة الشعرية العراقية المعاصرة ومن رواد جماعة كركوك الأدبية ، سألته ان يحدثنا عن رفاق الأمس؟

 

يحقُ لكَ ويليقُ بكَ أن تزهو بدراجتكَ

حين تمرُّ , وانت تصفّرُ , أمامَ بحارةٍ سكارى

يسخرونَ من المارّة .

تخرجُ كل صباحٍ لأن الشمسَ بخيلةٌ معك

لا تلقي إلا القليلَ من أشعتها عليك

حيث تسكنُ , فتلاحقُ أخريات في هذا الميناء :

كنتَ  تعدو وبعد سنواتٍ بدأتَ تهرولُ

ثم مشيتَ لأعوامٍ , وها تتنقلُ بدراجةٍ قديمة

اشتريتها في كركوك قبل نصف قرن

 

” نحن كنا الحلقة الأخيرة من جماعة كركوك بدءً من العام 1960 لكننا كنا نعرف بعضنا للبعض الاخر بسبب كوننا شيوعيين او مؤيدين لهذا الحزب . كنا في تلك السنة في المرحلة المتوسطة من المدرسة، اقصد انا وسرگون وجان، خصوصاً، ولم نتعرف على ميولنا الأدبية والشعرية الا في لقاءاتنا الاولى في بيت مؤيد الراوي ثم بيت جليل القيسي الذي كان قريبا لبيتي . تلك السنة كانت رهيبة بالنسبة لنا جميعا، اذ كانت المدينة اي مدينة كركوك تشهد اغتيالات في هذه المنطقة منها او تلك، ضد الشيوعيين واليساريين بشكل عام”

 

 

 

-لم أكن من مؤسسي الحركة الشعرية العراقية المعاصرة وإنما انتميت إليها في بداية ستينات القرن الماضي . مع سرگون وجان وغيرهما. هذه الحركة بدأت من نهاية أربعينات القرن الماضي في العراق ثم امتدت لتشمل بلدان عربية اخرى.

 

 

لم أكن بنفسى احد الأصدقاء الذين التقوا في بيت احدهم ولم أكن على الأقل من الأوائل. اذ كانوا هم قد التقوا قبلنا، انا وسرگون وجان ، يوسف الحيدري ، محي الدين زنگنة ، فاروق مصطفى وغيرهم، في اواسط الخمسينات من قبل فاضل ومؤيد وانور الغساني وقحطان الهرمزي وغيرهم وقد ذكر المرحوم انور الغساني اسماء كثيرة في مقالته التوثيقية:  Kirkuk Group ذاكرا حوالى ثلاثين اسما، منهم رسامون وأساتذة ومن مختلف الاهتمامات الأدبية والفنية .

نحن كنا الحلقة الأخيرة من جماعة كركوك بدءً من العام 1960 لكننا كنا نعرف بعضنا للبعض الاخر بسبب كوننا شيوعيين او مؤيدين لهذا الحزب . كنا في تلك السنة في المرحلة المتوسطة من المدرسة، اقصد انا وسرگون وجان، خصوصاً، ولم نتعرف على ميولنا الأدبية والشعرية الا في لقاءاتنا الاولى في بيت مؤيد الراوي ثم بيت جليل القيسي الذي كان قريبا لبيتي . تلك السنة كانت رهيبة بالنسبة لنا جميعا، اذ كانت المدينة اي مدينة كركوك تشهد اغتيالات في هذه المنطقة منها او تلك، ضد الشيوعيين واليساريين بشكل عام . تجد أفضل تعبير عن تلك السنوات الكئيبة في قصص جليل القيسي ومسرحياته الكافكوية** .

كنت آنذاك اقرأ وحدي واكتب في البداية دون ان اعرف البقية ادبياً وشعرياً حتى بدات اتعرف عليهم وكانوا قد سبقوني في الكتابة الادبية والشعرية . قدمني الى الجماعة سركون وجان، ثم اخذوني الى المرحوم الاب يوسف سعيد ايضا. هكذا بدات لقاءتنا بشكل اسبوعي ومنظم وكان يديرها الاديب جليل القيسي . دامت هذه اللقاءات، بشكل منفرد او جماعي حتى 1966 حين غادر سرگون بولص العراق وانتقل قبل ذلك انور الغساني ومؤيد ويوسف الحيدري الى بغداد. التجمع بحد ذاته بهذه الطريقة ليس غريبا في المجتمع العراقي وغالبا يكون فقط من الرجال وتخلو أي سيدة من هذه اللقاءات وهذا طبيعي في مجتمعاتنا لكن تطور اللقاءات تحول الى لقائنا مبرمجة ادى الى زيادة عدد المشاركين حيث نرى هناك العديد من القوائم للمجموعة كل يدعي بعدد معين وهناك من يدعي بان الفكرة بالأساس تعود له. بداية عجيبة تعرفي على جماعة كركوك الأدبية.ففي احد الايام صادفت الكاتب جليل القيسي وكنت اعرفه مهتمأ بالمسرح والسينما كونه سافر الى أميركا وبقي هناك لفترة لهذا الغرض . سألني المرحوم عن الكتاب الذي احمله بيدي ،وكان احد اعمال دستويفسكي*** واندهش حين رأه .ثم اخبرته احب قراءة الروايات خصوصا الروسية منها.اخبرته كذلك باني اكتب قصصا قصيرة.اخبرني بان هناك كتابا وشعراء من كركوك يجتمعون في بيته مرة كل اسبوعين لغرض قراءة اعمالهم الأدبية ومناقشتها وانه يرحب بي اذا رغبت حضورها .شكرته وحضرت في اليوم الموعود هذا اللقاء الأدبي..فوجئت بوجود سرگون وجان ، فقد كانا من طلاب, المتوسطة الغربية ، وأيضا كان الأب يوسف سعيد في اللقاء وهو من أصدقاء ابي.

 

 

في النهاية طلبوا مني أيضا أن اقرأ بعض نصوصي .كنت اكتب قصصا قصيرة.كان انطباعهم جيدا واثنوا علي الا أن سرگون وجان يوسف سعيد أصروا بأنني شاعر ولست كاتبا للقصة بسبب أن نصوصي تعج بالصور الشعرية وقلة الأحداث فيها. كان هذا اللقاء خيبة مؤلمة لي. كان جليل القيسي يدير اللقاء وبقي هكذا لسنوات مقبلة. بالطبع كان هناك بيرة ونببذ من كنیسة يوسف سعيد مما ادت هذه المشروبات إلى نقاشات غاضبة أحيانا. لقاءاتنا واجتماعاتنا تواصلت ليس في بيت جليل وانما عقدناها ايضا في بيتي وبيت مؤيد وجان ولمرات كثيرة وحتى في بعض المقاهي.مع انتقال انور الغساني إلى بغداد ثم مؤيد وبعدهما سرگون ، بدأت نجمة المجموعة تتلاشى ومن بغداد بدأت الهجرة إلى الخارج بسبب الضغوط السياسية والمخاوف الامنية. اولا اتجهنا إلى دمشق وبيروت , وبعد سنوات قليلة إلى بلدان اوروبية.نشاطنا الأدبي استمر على صعيد فردي وظهرت اعمالنا في المجلات الأدبية والصفحات الثقافية للصحف العربية .

 

*تساءلت هل كان هناك فعلا مجموعة ادبية منظمة و ذو أهداف واضحة، فرد قائلا:

-بسبب الأحداث المأساوية في كركوك عام ١٩٥٩، وما تبع تلك من انفراط في الجماعة كترك الاديب قحطان الهرمزي وكان اساسيا في الخمسينات، فان عدد الجماعة قلّ وتحددت اللقاءات والنشاطات الادبية . ثم غادر فاضل العزاوي الى بغداد واخرون تركوا البلاد كالمرحوم الدكتور زهدي الداوودي و نورالدين فارس . كما شهدت المدينة حملات اعتقالات وارهاب في شكل اغتيالات  ثم حدث انقلاب 1963 الفاشي وادى هذا الى اعتقال الأساسيين في الجماعة  كجليل القيسي، انور الغساني، مؤيد الراوي، فاضل العزاوي وغيرهم. بينما لجأت انا بنفسي الى الجبل في كوردستان (بيشمرگة) لاكثر من سنتين وحين عدت كانت هذه المجموعة  قد خرجت من السجون.

مخاوفي تحيرني حول مصير الشلالات في هذا العالم المملوء بحمقى ،

بسياسيين ورجال اديان .

في جبال كوردستان كنت ازور شلالات صغيرة ,

هنا وهناك ,

وكانت تهتم بي .

مازلتُ اتذكرُ نصائحها حين تواجهني مصاعب

 

“بسبب الأحداث المأساوية في كركوك عام ١٩٥٩، وما تبع تلك من انفراط في الجماعة كترك الاديب قحطان الهرمزي وكان اساسيا في الخمسينات، فان عدد الجماعة قلّ وتحددت اللقاءات والنشاطات الادبية . ثم غادر فاضل العزاوي الى بغداد واخرون تركوا البلاد كالمرحوم الدكتور زهدي الداوودي و نورالدين فارس . كما شهدت المدينة حملات اعتقالات وارهاب في شكل اغتيالات  ثم حدث انقلاب 1963 الفاشي وادى هذا الى اعتقال الأساسيين في الجماعة  كجليل القيسي، انور الغساني، مؤيد الراوي، فاضل العزاوي وغيرهم. بينما لجأت انا بنفسي الى الجبل في كوردستان (بيشمرگة) لاكثر من سنتين”

 

القصد من هذا السرد هو ان الجماعة تبعثرت حوالى سنتين . بادر جليل القيسي في اواسط العام1964 الى اعادة النشاط لجماعة كركوك وعقد لقاءات منظمة وغالباً اسبوعية في بيته لقراءة اعمالنا الأدبية ودامت هذه اللقاءات لاكثر من سنة، حيث تحولت الى مدرسة حقيقية لبلورة اتجاهاتنا الشعرية والادبية من خلال عرض اعمالنا وتقييمها والنقاش حولها، إضافة الى الاغتناء بالأوضاع الشعرية والأدبية في بريطانيا وأميركا او من خلال الترجمة وكانت حركة نشطة جدا، خصوصا في مصر ولبنان وسورية، وهذا دون ان ننقطع عن التواصل او  نهمل الاطلاع على الجديد في النتاج الشعري، القصصي والمسرحي سواء في العراق او بقية البلدان العربية . ثم انتقل انور الغساني ومؤيد الراوي الى بغداد كما اسلفت.

 

*سالته عن الوطن الصغير ، كركوك مدينة العطاء الذي لا ينضب. هنا ترعرعنا معا وفيها ملاعب صبانا. قائلا:

ماذا تعني بيئة المدينة للشاعر صلاح فائق. وكيف عكس بيئة المدينة وإنسانه في أشعاره؟

 

بم يمكن لمدينتي ان تتباهى؟

هدموا قلعتها، قتلوا أشجارها الباسقات

ونهبوا ما عليها وما تحتها

لكنها تبقى مدينتي في راسي، كما كانت

هذا ما لا يرون ، وهناك سردابها السري

ولا احد يعرفه غيري

 

-تعني تلك البيئة كل شيء.فهي البداية في التعرف على الأشياء ، البيت ، الأسرة، خصوصا الام والاب ، الأشقاء والشقيقات ، غرف البيت وكانت لنا غرفة باسم غرفة الضيوف تحتفظ للعرض والخدمة بأفضل ما في البيت من قنفات (اريكة) وسجادة وصور معلقة على حيطان الأطراف من مشاهد طبيعية ودينية وكان لهذه الغرفة امتياز وجود جهاز الراديو . كما لا انسى السطح الواسع للبيت لانه كان موقع مبيتنا في أشهر الصيف الطويل.من هناك أتذكر نيران الأفق لضاحية المدينة . ليست هذه الأشياء والمشاهد للتذكر احيانا بل هي مؤثرة وحيوية في الكتابة ومجال التوثيق الجمالي سواء في الشعر أو غيره ابداعيا. منذ أن غادرت العراق ، وبالأخص كركوك ، فأنا أبحث عنهما في مدن قارات اخرى واريافها.

قد يعجبك ايضا