الجزء 1
اعداد: عدنان رحمن
اصدار: 14- 5- 2024
( العراق والكورد الفيلية) هذا هو العنوان الفرعي الذي شَغِلَ الفصل العاشر من كتاب المرحوم كاظم حبيب، والذي كان بعنوان ( لمحات من نضال حركة التحرر الوطني الكوردي في كوردستان العراق)، الذي كان من منشورات دار ئاراس بأربيل عاصمة أقليم كوردستان بطبعته الثانية في العام 2005. كان قد ورد فيه:
– ” العراق والكورد الفيلية: تعددت الدراسات التي تبحث في أصل الكورد الفيلية وأصل التسمية ومعناها، وكذلك حول المناطق التي عاشوا فيها منذ القدم أو ما زالوا يعيشون فيها حتى الوقت الحاضر وليس هناك ما يبرر تكرار ما توصل إليه الباحثون المستشرقون وغيرهم من الباحثين من الكورد والفرس وبعض العرب وغيرهم في هذا الصدد، إذ يمكن العودة إلى كتاباتهم ويقدم كتاب “الفيليون” لصاحبه الراحل السيد نجم سلمان مهدي الفيلي ومراجعة الأستاذ جرجيس فتح الله شرحاً وافياً لهذه المسألة كما يبحث بشكل تفصيلي القبائل الكوردية الفيلية في مناطقهم الكوردية في كل من العراق وإيران ([1])، ويستند في ذلك إلى عدد كبير من الباحثين القدامى والجُدد. يشكّل الكورد الفيليون في العراق جزءاً من الشعب الكوردي في العراق، كما أنهم وبقية الكورد في مناطق كوردستان الأخرى يشكلّون الأمّة الكوردية في كوردستان الكبرى وهم كباقي بنات وأبناء الشعب الكوردي ينتمون إلى قبائل كثيرة تداخلت فيما بينها على امتداد القرون الطويلة المنصرمة وتشكلّت منها هذه الشريحة الكوردية الفيلية الموزعة من الناحيتين الجغرافية والسياسية على الدولتين العراقية والإيرانية. عاش الكورد الفيلية في مناطق سكناهم المعروفة تحت وطأة صراعات ونزاعات مستمرة بين الدولة الفارسية والدولة العثمانية، بعد سقوط الدولة العباسية ونشوء الدولة العثمانية وبدء محاولات توسعها الإقليمي نحو الشرق تماماً كما كانت ساحات بقية أجزاء كوردستان الحالية عرضة لمثل هذا الصراع والحروب وتَحمُل الكثير من الخسائر البشرية والمادية. وبرز من بين الكورد الفيلية حُكام قادوا منطقتهم وتوسعوا في الأراضي المجاورة لهم وخاضوا المعارك دفاعاً عن منطقتهم وشعبهم.
وتمتلك هذه الشريحة الفيلية من الشعب الكوردي موروثاً شعبياً غزيراً مكتوباً ومحفوظاً في الصدر ( أي شفاهياً) يتم تداوله ويُعبّر عن الأوضاع التي مرّ بها الفيليون والحياة التي عاشوها والطموحات التي كانت وما تزال تُرافق حياتهم اليومية. وهي لا تختلف في ذلك عن أوضاع وحياة وطموحات الشعب الكوردي في العراق والأمّة الكوردية في بقية أجزاء كوردستان. كانت مطامع الدولتين الفارسية والعثمانية في الأرض التي يعيش عليها الكورد عموماً قد حرمتهم من إقامة دولتهم، كما حرمت عرب المنطقة بعد سقوط الدولة العباسية من إقامة دولتهم، إذ عانوا من الهيمنة العثمانية مرة والفارسية مرة أخرى. ومنذ عام ( ١٦٣٩) بذلت بعض الجهود لوضع حدّ للحرب بين الدولتين على هذه المنطقة المتنازع عليها من خلال عقد اتفاقية لا لمنح هذه المنطقة حريتها، بل من أجل تقسيمها بين الدولتين وبعد مرور ما يقرب من ثلاثة قرون أي في عام ( ۱۹۲۹) تمّ التوقيع على اتفاقية قصر شيرين- زهاب بين الحكومة العراقية، باعتبارها الوارثة للخلافة مع الدولة الفارسية من الدولة العثمانية، تم بموجبه تقسيم المنطقة بينهما، تماماً كما أقرّت عُصبة الأمم تقسيم كوردستان كلها بين دول المنطقة حين ألحقت ولاية الموصل بالعراق وتركت بقية أجزاء كوردستان خاضعة للدول الأخرى. والغريب بالأمر أن حُكام المنطقة لم يعمدوا إلى استشارة الكورد الفيلية حول ما يريدونه لهم بل فرضت الاتفاقية عليهم، كما فرض التقسيم الأكبر لكوردستان قبل وخلال سنى الحرب العالمية الأولى وما بعدها. والغريب بالأمر أيضاً أن الحكام العراقيين من العرب بذلوا أقصى الجهود ومارسوا كل السُبل غير المشروعة من أجل اعتبار الكورد الفيلية من غير سكان المنطقة التي وضعت ضمن الحدود العراقية واعتبارهم من التبعية الإيرانية، مما جلبوا لهذه الشريحة الواسعة من الشعب الكوردي المزيد من العذابات والآلام النفسية والجسدية وكذلك المزيد من التضحيات البشرية، رغم أنهم كانوا يُدركون تماماً بأن الكورد الفيلية أقدم في وجودهم في المنطقة من العرب الذين جاءوا إليها مع الإسلام فاتحين ومُغتصبين لتلك الأرض. وإذ أصبح العرب المقيمون في العراق جزء من سكانه منذ الفتح الإسلامي فلا يحق لهم حرمان بقية شعوب المنطقة من أرضهم واعتبارهم أجانب فيها، كما حصل في قانون الجنسية العراقية منذ عام ( ١٩٢٤). والتاريخ ما يزال شاهداً على وجود الكورد في هذه المنطقة قبل الفتح الإسلامي، وأصبحوا جزءاً من الدولة الأموية، وبعد سقوطها جزءاً من الدولة العباسية التي امتدت حدودها إلى ما وراء فارس وشملت المنطقة الكوردية بأسرها. وفي فترات مختلفة، سواء قبل الفتح الإسلامي أم بعد سقوط الدولة العباسية أصبحت أقسام من كوردستان ومنها مناطق الكورد الفيلية جزءاً من الدولة الفارسية مع وجود إمارات في كوردستان وحُكام من أبناء الكورد الفيلية يحكمون في مناطقهم. أما اليوم فمناطق الكورد الفيلية التي تشكل جزءاً من كوردستان فموزعة بين الدولة الإيرانية والدولة العراقية وفق اتفاقية عام ( ۱۹۲۹). وكانت حركة الكورد الفيلية في منطقتهم الممتدّة بين الدولتين العثمانية والفارسية طبيعية، خاصة وأن نسبة عالية من السكان الكورد الفيلية كانت من القبائل الرُحَل ونسبة أخرى كانت تعتمد الزراعة المستقرة في عيشها. وكانت نسبة الحضر القاطنين في المُدن الكوردية قليلة إلى مجموع الكورد الفيلية حتى بعد عقد اتفاقية قصر شيرين التي رسمت الحدود الحالية بين العراق وإيران.
كانت حركة انتقال الكورد الفيلية بين مناطقهم المقسمّة اعتيادية ولا تخضع لتعقيدات كبيرة، خاصة بالنسبة للرُعاة أو القبائل الرُحَل، وكان العراق مفتوحاً لهم بسبب كون بعض مناطقهم أصبحت جزءاً منه ولم يكن هناك ما يفرض عليهم التحري عن هوية معينة يتمسكون بها، فهم کورد فیلیون عراقيون حيث يعيشون في العراق وهم في وطنهم، كما أن هناك کورداً فيليين إيرانيين حيث تدخل منطقتهم في حدود الدولة الإيرانية وهم في وطنهم إيران وهم من حيث المبدأ والواقع يشكلون جزءاً من الأمّة الكوردية، والأرض التي يعيشون فيها جزءاً من كوردستان، وكان هذا الإحساس بالمواطنة العراقية الإيرانية هي التي جعلت الكثيرين من الكورد الفيلية يمتنعون عن تقديم طلبات لتسلم الجنسية العراقية بسبب اعتبارهم ذلك أمرا مفروغاً منه. عاش الكورد الفيلية في العراق موزعين على مدن كثيرة بحكم كونهم يشكلون جزءاً من الشعب العراقي، بكل قومياته وأديانه وطوائفه. فهُم في بغداد والبصرة والعمارة وكربلاء والنجف والكوفة وديالى والكوت، وكذلك في بدرة وجصان وزرباطية وخانقين ومندلي والسليمانية وأربيل ودهوك وكركوك وغيرها من مدن كوردستان العراق، ولم يكن المواطن العراقي الاعتيادي يُميز بين الكورد الفيلية وبقية العراقيين، إذ كانوا ومنذ قرون يشكلون جزء من نسيج سكان هذه المنطقة التي كانت وطناً للجميع، يشاركون في أفراحهم وأتراحهم المشتركة، كما يساهمون بحيوية عالية في نضالاتهم. وأصبح هذا الشعور أكثر قوة مع تشكيل الدولة العراقية، باعتبارهم جزءاً من شعب العراق الحديث. وقدّموا على طريق نضال هذا الشعب الكثير من التضحيات الجسام. وشارك الكورد الفيليون في ثورة العشرين، ولعبوا دوراً مهماً في منطقة خانقين وقصر شيرين ضد القوات البريطانية المُعسكرة في تلك المنطقة. فقد ذكر ( تشمال مهام شيرة) في مقابلة صحفية في عام ( ۱۹٥٥)، كما جاء في كتاب للدكتور ( هادي مالك) حول الكورد الفيلية نشر من المانيا في عام ( ۲۰۰٤) تحت عنوان ( العراق والكورد الفيلية) حول مُشاركة الكورد الفيلية في ثورة العشرين ما يلـــــي: (( بدأنا منذ عام ۱۹۱۷ والسنوات التي تلتها وبشكل خاص في صيف عام ۱۹۲۰، تحت قيادة ( تشمال حاجي فلامرز) وابن أخته ملك، باعتبارهم رؤساء عشيرة ( آل خميس) مع عشيرة ( رسول وند) بقيادة ( حسن عزيز) وعشيرة ( قيتول وند) بقيادة ( تشمال حاج صفر)، بخوض حرب أنصار ضد الإنكليز في منطقة قصر شيرين وخانقين دامت عدة أشهر من عام ١٩٢٠. فعندما بدأ أخوتنا في الجنوب الانتفاضة ضد الإنكليز، تسلمنا نحن خبراً عبر السيد ( محمد) الذي أصبح فيما بعد إمام جامع الخلاني في بغداد بضرورة قيامنا بهجمات على مواقع القوات البريطانية في منطقة خانقين و نفطخانة التي كنا ندخل في بعض الأحيان في العمق حتى بعقوبة، فعندما أغمض عيني أحياناً أرى صورة تلك الأحداث مُجسدّة أمام ناظري. لقد أنزلنا بالأعداء ضربات قاسية وتوجهت تلك الضربات بشكل خاص ضد شركة النفط الانكلو- إيرانية في منطقة نفطخانة، إذ أنها كانت منطقة تحت حراسة القوات البريطانية التي كان يقودها الكابتن مور. لقد كُنّا نقوم بهجمات سريعة ببنادق ” مارتن هنري”. وفي ساعات الخطر كنا ننسحب إلى الجبال. وكان هدفنا في الرماية تلك الرؤوس التي كانت تحمل قبعة إنكليزية أو عمامة سوداء لمُجنَد هندي، وغالباً ما كنّا نُصيب الهدف. وغالباً ما كنا نوجه نيراننا إلى أولئك الذين يرتدون ملابس الخاكي، إذ كنّا نعتبرهم وبشكل أعمى وميكانيكي على أنهم من الجنود البريطانيين أو الهنود، علماً بأن غالبية المجندين في القوات البريطانية كانت من الهنود، وكنا نحصل على المواد الغذائية الضرورية من أخوتنا العشائر في زرباطية وبدرة وملك شاه، وليس أخيراً من أخوتنا في منطقة قصر شيرين ومن عشائر بعيدة عنّا نسبياً مثل عشيرة ( علي شيروان بيرايو) بشكل خاص من منطقة اركواز، كما حصلنا على دعم معنوي ومتطوعين منهم. ولعدّة مرات اســـــــتطعنا تعطيل سكك الحديد ( بعقوبة- خانقين). في خريف عام ۱۹۲۰ أشعلنا النيران في القاعدة العسكرية في خانقين. وبعد كفاح مرير أجبرنا على الانسحاب إذ فوجئنا بحصار فرضته علينا القوات البريطانية القادمة من كرماشان حيث كان الإنكليز يمتلكون قاعدة عسكرية في إيران البلد المجاور، وكانت هذه القاعدة تمدهم بالمساعدات، وبسبب هذا الحصار والمقاومة قُتل وجُرح لنا ٣٥ مناضلاً من مجموع ۱۱۰ مقاتلاً، رغم أننا كنا نخوض حرب أنصار تتمتع بقدرة على الحركة السريعة عند القيام بعملياتنا الأنصارية والانسحاب بعدها إلى المناطق الجبلية. ولكن أجبرنا على إيقاف حرب الأنصار بعد أن وقعت خيانة من جانب بعض الجماعات التي كانت تعمل في صفوفنا من بعض ضِعاف النفوس من عشيرة الكلهور. وقد وقعت الخيانة بأمل الحصول على نقود وأسلحة وأرض تعود لنـا بعـد إلتحاقهم بالقوات البريطانية. إن مثل هذه النضالات الأنصارية كانت قد حصلت أيضاً في مناطق أخرى في وسط وجنوب عراق اليوم، ووفق المعلومات التي لدّي حول مُشاركة الكُرد في معارك عام ١٩١٥ في الكوت والعمارة، حيث شارك الكورد والعرب الشيعة والسُنَّة سوية في هذه المعارك ضد الإنكليز. لقد عملنا معاً وعشنا معاً وناضلنا سوية. وهناك الكثير من الوثائق والأحداث التاريخية التي تؤكد ذلك بالنسبة لأولئك الذين بغض النظر عن السبب القومي الذي يكمن وراء ذلك، ينكرون هذه الحقيقة. لقد ساهمنا نحن الكورد بقسط غير قليل ليس في مجال بناء الاقتصاد وفي المجالات الثقافية والسياسية فحسب، بل وكذلك في بناء الدولة العراقية الجديدة)). ([2])”.
[1] – نجم سلمان مهدي الفيلي: الفيليون. راجعه جرجيس فتح الله دار الشمس. استوكهولم السويد. 2001.
[2] – بموافقة زميلي د. هادي مالك يتم نشر هذا النص بعد ترجمتي له عن الألمانية، إذ أن كتاب هادي مالك كان ما يزال قيد التحرير. كاظم حبيب.