محمد رضا مبارك
ختم وفاة الناقد الدكتور علي عباس علوان، المشهد النقدي في العراق، بنسخته الانطباعية، بدءا بالناقد علي جواد الطاهر، مرورا بالنقاد الراحلين: عبد الجبار عباس، محسن اطيمش، ناصر حلاوي، عبد الجبار البصري، عناد غزوان، عبد الاله أحمد، ومحمد حسين الأعرجي وهذا لا يعني أن الانطباعية، قد انتهت، ففي كل منهج يوجد خيط ما من خيوط الانطباعية، لكنه يعني، أن مرحلة مهمة من مراحل النقد في العراق قد انتهت، بعد أن انشغل النقد بمدارس ما بعد الحداثة.
كان صديقا مقربا، عرفته اول مرة في منتصف السبعينات من القرن الماضي، حينذاك كنت اعمل في القسم الثقافي في إذاعة بغداد، وكــان الدكتــور علــي عبـــاس عــلوان، قــــد عــــاد توا من القاهـرة، يحمل كتابـه (تطور الشعر العربي الحديث في العـراق)، الذي أصبح فيمـا بعــــد أهــــم مصدر من مصادر الشعر الحديث في العراق وحل معه الدكتور محسن الموسوي، مختتما رحلته الدراسية في كندا. وكان الاثنان، يبشران بإعادة الحيويــة والنشاط، للنقد الأدبي في العراق وإذ نذكرهما لا بد من التطرق الى الراحل الدكتـور ناصر حلاوي، الناقد الفذ، الذي اخترقه الموت، في وقت مبكر، قبل أن يكمل شوطه النقدي والثقافي.
كانت الرحلة مع علي عباس علوان، مفعمة بالحماس والتحدي، فقد كان ناقــما على ما أصاب المثقف العراقي، ولاسيما في التسعينات، بعد سنوات الحصار، ومـا عاناه المثقفون من صعوبة العيش، كان بيته في الغزالية (الحـي الجامعي) موئلا للأصدقاء وللحوار والنقاش الثقافي، يغلب على هذا النشاط الطابــع السياسي.
عرفة طلابه بثقافة عالية وشخصية قوية ووسامة بادية، دفعت الطالبات للتودد إليه. واذكر ان كثيرا من طلابه ولا سيما في مرحلة الماجستير والدكتوراه يقيمون علاقات ود معه، وكان يسمح بإلغاء المسافات بين الطالب والاستاذ لكن هذا قائم على احترام خصوصية الاستاذ واذ تواصل اللقاء به طوال الثمانينات، فقد كنت اعرف جيدا انه مثل أغلب المثقفين العراقيين، لم يكن الا معارضا للنظام السياسي السابق، وكان في سره وبين اصدقائه يعرض به اشد التعريض واصدقاؤه يخشون عليه من ذلك كثيرا وتعرض لعقوبة قاسية، حين نقل من جامعة بغداد كلية التربية، الى وزارة العمل والشؤون الاجتماعية، وكان هذا الابعاد دليلا على عدم رضا السلطات، وانه نوع من العقوبة، التي كانت تعد احدى الوسائل المتبعة لمن يشك في ولائهم.
كانت الشكوى لديه عالية، والبرم بوزارة العمل، ولا يدري ماذا يعمل هناك، وبعد جهد جهيد يعود علي عباس علوان الى الجامعة، بعد ان استطاع ان يطمئن أولي الأمر، ويقنعهم بوساطة بعض الأصدقاء، ألا خوف منه، وانه بريء مما ينسب اليه.
عاد الى الجامعة مواصلا عمله في مجالاتها كافة، ولا سيما الاعمال الجامعية الصرفة، كاللجان الامتحانية والمراقبات، يصرف وقتا مهما مع الطلاب الذين لديهم نبوغ نقدي وادبي. كان علوان يعطي للمناقشة جمالا خاصة ومتعة بالغة، لا يوازيها الا الراحل عناد غزوان، الذي كان يهز اركان القاعة، بصوته القوي الذي يعكس روعة العلم وجمال الأداء.
لم تكن الثمانيات وكذلك التسعينات الا سنوات مليئة بالأحداث المفاجئة وغير المفاجئة، التي تجعلنا ندور في دوامة الفراغ السياسي الذي لا نخرج منه بطائل، كما يحدث في ايامنا هذه، حين ملت الاسماع مقولات السياسيين ودورانهم في الفراغ الكبير.
لقد بدأت الفاقة والفقر تظهر على الاساتذة وعلى الشعب العراقي عامة، منذ سنوات الحرب المكلفة مع إيران. ولكن ذلك لم يبلغ المدى الخطير الذي بلغة في التسعينات حيث الحصار المؤلم على العراق. ولقد وجد في الاردن متنفسا ومنقذا، حين خرج بوفد ادبي، اذ كان محرما على الاساتذة الخروج الا بسبب واضح كالإيفاد.
في الاردن التقى بالشاعر عبد الوهاب البياتي، وكان لقاءا حميما بين الناقد والشاعر. والبياتي في عمان وفي حضرة الفينيق، صديق لكل المثقفين العراقيين. تربط علي عباس علوان بالبياتي صداقة قديمة. واذ كان الحصول على عمل في اية جامعة اردنية ايذانا باستقرار مقبول الى حين، فقد تعاقد الدكتور علوان مع جامعة مؤته الاردنية، وكان بعض طلبته الاردنيين الذين درسوا في العراق قد سبقوه اليها. في الاردن بدأ الناقد يمارس عمله النقدي الأكاديمي طوال سنوات عدة، قبل ان يقرر العودة الى العراق بعد عام 2003.
في مطلع عام 2005 عاد من الاردن، ليرى ان شيئا كبيرا قد تغير، والتغير الاول هو في نفوس الناس، هل هم سعداء بالتغيير، ام انهم يتوجسون خيفة من الاتي.
في زيارة الى وزير التعليم العالي والبحث العلمي، الدكتور سامي المظفر غيرت مجرى الامور، فقد كان منصب رئيس جامعة البصرة شاغرا، ووجد الوزير ان أفضل من يشغل هذا المنصب هو الدكتور علي عباس علوان، لسمعته العلمية، ولأنه ينتمي ولادة ونشأة الى البصرة.
صاحبه بعض الاصدقاء والادباء في خروجه الى البصرة، وفرح الوسط الادبي في تعيينه في رئاسة الجامعة، وشارك طوال وجوده رئيسا للجامعة، في مؤتمرات الشعر والسرد التي تقام في البصرة، وحين اتم مهمته هناك، عاد الى بغداد ليعمل مستشارا في وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، واخر عمل قام به قبل ان يحال على التقاعد، اقامته مع كل من الدكتور مالك المطلبي والدكتور صاحب ابو جناح مؤتمرا موسعا للغة العربية، عقد في ديوان وزارة التعليم العالي والبحث العلمي عام 2009، شارك فيه عدد كبير من اللغويين والادباء والمثقفين، برعاية الوزير عبد ذياب العجيلي الذي كان محبا للغة العربية، لغة التاريخ والحضارة.
انتقل الى البصرة بعد ذلك، لتكون مستقره النهائي، وترك بيته في بغداد مرغما بسبب انعدام الأمن، وكأنه يطلب الدعة والهدوء. بعد سنوات طويلة من الصخب والتعب الروحي والجسدي.
لعل أهم منجز نقدي قدمه الدكتور علي عباس علوان، هو كتابه (تطور الشعر العربي الحديث في العراق). وله مساهمات في السرد، وكان يوجه طلابه نحو هذا الجنس الأدبي المهم، ولا سيما الرواية العراقية في الثمانينات.